فن القول في الشعر العربي

دعوة للإنساني والجمالي

زكرياء الزاير


يعتبر الفن قيمة أساسية في حياة البشر، وله أهمية كبيرة منذ بدأ الإنسان يعي وجوده، ويمحور ذاته في هذا الوجود. فقد صار قضية يلجأ إليه الإنسان لمعالجة مجموعة من الإشكاليات الجوهرية التي تدخل في بناء الحضارة عبر أشكال عديدة ومتنوعة مثل الرسم والموسيقى والشعر.وصار العمل الفني ذا بعد تحسيسي تواصلي يستطيع من خلاله الفنان إبلاغ رسالة تأثرية لها ما لها من أهمية. فقد أضحى ظاهرة اجتماعية نلمسها في كل المجمعات على اختلاف ثقافتها ومرجعياتها الفكرية والدينية. ومن هنا نلمس البعد التأثيري للفن كونه يحاكي ميول الإنسان ويحدد توجهاته الثقافية والمعرفية.
 

إنّ الفنون تُشكِل جانباً مهماً من حياة البشر وثقافتهم، تحظى بقدر كبير من اهتمامنا؛ إذْ تظل موضع احترام وتقدير الناس جميعاً، وتُخصص له العديد من الموارد المالية، فهذه الفنون على قدر هام من المتعة التي تحفز في الإنسان النزعة الجمالية التي يحتاج إليها لفهم ذاته فهماً عميقاً. فـ"الفنانون أناس يستلهمون تجربة الانفعال العميقة، ويستخدمون مهاراتهم (...)، والمؤشر الذي يدل على نجاحهم -في هذا التجسيد- هو أن يستثير العمل نفس المشاعر لدى الجمهور. وبهذه الطريقة، يمكن أن يقال عن الفنانين إنهم ينقلون تجربتهم الانفعالية للآخرين"(1). الفني إذن يرتبط بالجمالي على وجه التحديد لكونهما يشتركان في التحسيسي التفاعلي، فردة الفعل هذه هي ما يجعل للفن قيمة كونه يحفز الإنسان على تهذيب ذوقه، والتعالي على كل سمج وهامشي.

من هنا يأتي فن القول المتمثل في الشعر، على وجه التحديد، ليمثل خطاباً إنسانياً بامتياز. ونجده في الثقافة العربية الإسلامية يعتبر ديوان العرب، يضمّ مختلف مناحي حضارتهم وتصوراتهم حول العالم والإنسان والطبيعة، فقد اشتمل على العديد من المكونات الحضارية والفنية، وعلى رأسها اللغة (اللغة العربية) التي اعتبِرتْ مقدسة لأنّها لغة القرآن الكريم، مثال النقاء والصفاء، لذلك أحيطت بالكثير من العناية، فقد كان النص القرآني يُقرأ على أنه نص كوني، يشمل على ما هو روحي وفكري في آن، فلم يكن فطرياً فحسب، بل كان يمثل ثقافة وفكراً وجمالاً.

وقد اهتم العديد من النقاد القدامى بالشعر، أمثال الجاحظ وابن قتيبة والجرجاني وغيرهم، الذين بحثوا في قضاياه وحبروا العديد من المؤلفات التي شكلت الرؤية العربية الفنية للأدب عامة والشعر خاصة.فيتجاوز الشعر، وفق ذلك، ما هو لغوي إلى كونه جامعاً لعناصر جمالية فنية تجعله مستوعِباً لمجموعة من الأنساق الفكرية والثقافية، فيكون بذلك خطاباً فنياً وإنسانياً بالضرورة، يضم مجموعة من المشارب ذات طابع كوني في قالب لغوي، يمنح الذات الإنسانية مساحات واسعة للتعبير دون قيود وحواجز. وفي هذا السياق نجد الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري، يعطي وصفاً فنياً عميقاً يجسد من خلاله شعوراً إنسانياً يتمثل في حالة الفقد وما ينتج عنها من حزن وألم. يقول في قصيدته المشهورة "في ذمة الله ما ألقى وما أجد":
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ
أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا
عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا
تَجري على رِسْلِها الدُنيا ويتبَعُها
رأيٌ بتعليلِ مَجراها ومُعتقَد
أعيا الفلاسفةَ الأحرارَ جهلُهمُ
ماذا يخِّبي لهمْ في دَفَّتيهِ غد
(...)

إن الشاعر محمد مهدي الجواهري يرسم بقصيدته هذه لوحة فنية تختزل عمق المشاعر الإنسانية، وما تكابده النفس جرّاء فقْد الأحباب. وفي ذلك عمق إنساني يفتح للآخر منافذ العبور إلى الروح الإنسانية والسمو بها. وغير بعيد عن الجواهري نجد الشاعر نزار قباني شاعر الحب بامتياز، يبث في معظم أعماله الشعريّة أنفاسه المليئة بمشاعر الحب، من خلال رسم الكثير من الصور الفنية التي تظهر عمقاً إنسانياً في تجسيد شعور الحب تجاه المرأة التي تجسد بدورها عمق ارتباط الرجل/ الإنسان بالآخر، وتجسيد مفهوم الحياة في أرقى صورها. يقول في قصيدته "نهداك":
سمراء.. صبي نهدك الأسمر في دنيا فمي
نهداك نبعا لذةٍ حمراء تشعل لي دمي
متمردان على السماء، على القميص المنعم
صنمان عاجيان... قد ماجا ببحرٍ مضرمٍ
صنمان.. إني أعبد الأصنام رغم تأثمي
فكي الغلالة.. واحسري عن نهدك المتضرم
لا تكبتي النار الحبيسة، وارتعاش الأعظم
نار الهوى، في حلمتيك، أكولةٌ كجهنم
خمريتان.. احمرتا بلظى الدم المتهجم..
محروقتان.. بشهوةٍ تبكي، وصبرٍ ملجم

يبدو في القصيدة وصف حسي لجسد المرأة، لكن في صلب هذا الوصف يَظهر هذا الارتباط الوثيق بالمرأة رمز العطاء والخصب، فهذا الالتحام الجسدي هو في الأصل التحام وجداني روحي يسعى من خلاله الشاعر إلى تجسيد صورة فنية لقوة العلاقة الإنسانية التي تجمع الرجل والمرأة. وفي نفس المسار يسير الشاعر محمود درويش، مجسداً من خلال صوره الفنية وصفاً بديعاً لعمق العلاقة الإنسانية المتمثلة في الحب، والذي يبدو حسب محمود درويش حاجزاً يمنع الحرب ويدعو للسلام. والدال على ذلك قصيدته المشهورة "ريتا". يقول:
بين ريتا وعيوني... بندقيَّة
والذي يعرف ريتا، ينحني
ويصلي
لإلهٍ في العيون العسليَّة!
.. وأنا قبَّلت ريتا
عندما كانت صغيرة
عندما كانت صغيرة
وأنا أذكر كيف التصقتْ
بي، وغَطَّتْ ساعدي أحلي ضفيرة
وأنا أذكر ريتا
مثلما يذكر عصفورٌ غديرَهْ

ففي هذه القصيدة وغيرها كثير من الإبداع في رسم صور فنية تزخر ببعد إنساني.

إن الشعر العربي انطلاقاً من هذه النماذج، وغيرها كثير، شكل للقول الفني الجمالي يجرد الواقع ويفتح أفقاً جديداً للتغيير والتعبير الرمزي، جاعلاً الذات تقول كلومها وجراحها. فـ"يبني (الشاعر) ويعلي، فيهدم ليبقي على ما يصنع الشعر (...)، وهو ما يمكن تسميته بإقدار اللغة على احتضان، واستيعاب، وصهر الكون والأشياء، على إنطاء اللامرئي، واستباق الآتي، على اقتحام الزمن والمكان بالفكر الشعري، والشعر الفكري"(2). فالشاعر "حين يستخدم الكلمات الحِسيّة بشتى أنواعها لا يقصد أن يمثل بها صورة لحشد معين من المحسوسات، بل الحقيقة أنه يقصد بها تمثيل تصور ذهني معين له دلالته وقيمته الشعورية. وكل ما للألفاظ الحِسيّة في ذاتها"(3). يتماشى هذا الأمر مع طبيعة الشعر الفنية القادرة على فتح حوار حضاري، يسعى من خلاله الإنسان إلى البحث في أشكال الطبيعة لتحقيق تكامل وانسجام مع إيقاع الحياة، وتكسير الأنماط السائدة عن طريق التمرّد، والرفض، والهدم أحياناً، في كل ما من شأنه أن يجعل العالم في انسجام وسكون وسلام. وفي ذلك تكامل يقوم على عدّة أسس فنيّة وجماليّة بين الشاعر وقضاياه الحضارية اليوم وعلاقته بالآخر، "ليشمل الموسوعية العامة التي أنتجها الاستعمال الخاص للغة؛ أي الموصوفات الثقافية"(4). كما أن الشعر العربي خطاب يحمل مجموعة من الرسائل الإنسانية القادرة على فتح قنوات لتجاذب الرؤى والأفكار والمواقف.

وعليه فالنشاط التعبيري، في الشعر هو في الأصل نشاط ثقافي وسياسي وديني. وهذا يبين أن التعبير ليس أحادي الجانب، بل له تفريعات مختلفة وممتدّة، ومتداخلة. وبذلك يصير الشعر حقلاً مفتوحاً على تجاذب الرؤى التي تستدعي حضور الذات مفتوحة على الآخر. فهناك دائماً تداخل بين مجموعة من الحقول العلمية والأدبية ضمن الخطاب الأدبي برمته، مما يجعله شكلاً فنياً يستجيب لمعطيات حضارية. إذ يحضر، هذا الخطاب، باعتباره ذاتاً مدركة لوجودها واعية باللحظة التي داخل المكان والزمان.

 


هوامش: 1. فلسفة الفن مدخل إلى علم الجمال، جوردون جراهام ترجمة: محمد يونس، سلسلة آفاق عالمية، ط1، القاهرة 2013، ص: 53.2. محمد بودويك، ناده بما يشتهي ناده كما تشتهي (في ضيافة الشعر المغربي المعاصر)، منشورات بيت الشعر في المغرب ط1، 2015، ص: 104.3. عز الدين إسماعيل، الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية، دار الفكر العربي، ط 3/ 1966، ص: 132.4. فرانسوا راسيني، فنون النص وعلومه، ت: إدريس الخطاب، دار توبقال للنشر- الدار البيضاء/ المغرب، ط1/ 2010، ص: 83.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها