التناصُّ الثقافيُّ.. في الأمثال العربية الإماراتية

د. خليل خلف السويحل

إنَّ ثقافةَ المشافهة فضاءٌ اجتماعيٌّ تحلِّق فيه دررُ المعاني ولآلئ الألفاظ، ولم تكن اللغة يومًا إلا سبيلًا للتعبير عن حاجات الإنسان، ورسالةً للتواصل بين الأجيال، وثقافة المشافهة متنوعة بما فيها من إبلاغ وبلاغة، فتتجلَّى في قصص وأمثال وأشعار.

ولعل الأمثال الشعبية تنتزع محل الصدارة وبكل جدارة في ميدان الإرث اللامادي للشعوب، وذلك أنها خلاصة تجارب عديدة وعصارة مواقف كثيرة، تصور بشكل واقعي تقلُّبات الحياة من حزن وفرح وغضب ورضا وخيبة وانتصار، فهي المرآة الصادقة لوجدان الشعوب بما فيها من عفوية حينًا ومحبوكة في حين آخر.

والأمثال العربية الإماراتية مشهورة معروفة، وكتب فيها كثير من الباحثين، ولكنني لم أجد من درسها من زاوية التناص الثقافي1 وهو منهج يسبر الأمثال الشعبية، ويكشف عن تقاطع النصوص الفكرية فيما بينها في إرث الثقافة الإنسانية، وهذا يمنح الدراسة تأصيلًا فكريًّا وبُعدًا جماليًّا.

ومن العبثِ الاستقصاءُ في بحث جميع الأمثال الشعبية الإماراتية، ورصْدها وتحليلها ضمن رؤية التناص؛ وإنما التركيز على الانتقاء الهادف للأمثال الأكثر تداولًا على الألسنة.

ومن أهم مصادر الدراسة:
 

◂ موسوعة الأمثال العربية لمحسن عقيل.

◂ من صبر قدر أمثال إماراتية لعلياء سعيد خليفة الشامسي.

النماذج التطبيقية

"اللي في الجدر يطلعه الملاس"

الملاس: هو المغرفة التي تستخدم خصوصًا في الطهي وتحريك الأكل وإخراجه من القدر، والمعنى: أن التجارِب والمواقف تكشف معادن الرجال، والأيام كفيلة بإظهار الحقائق كما هي، وما أروع قول طرفة بن العبد2:
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تَبِع لَهُ
بَتاتاً وَلَم تَضرِب لَهُ وَقتَ مَوعِدِ

ولكن الخسارة والمرارة من لم يتعلم من تجاربه، ولله در من قال3:
تُعَلِّمُنِي الأَيَّامُ مَا أَنَا جَاهِلٌ
وَلَكِنَّنِي أَنْسَى فَتَأْتِي النَّوَائِبُ
وَيَلْعَبُ قَوْمٌ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ
وَأَيَّاَمُ عَيْشِي كُلُّهُنَّ مَلاَعِبُ

"الشيفه شيفه والمعاني ضعيفه"

يصور المثل نمطًا معينًا من تناقضات البشر، فقد يختلف ظاهر المرء عن حقيقته، وقد تعجب بمنظره الجذاب، ولكنه أشبه بالحكمة التي تقول: "رب وجوه بعض الذئاب أقمار".

ومن المشين في الإنسان أن يتناقض شكله الجميل مع جوهره الدميم وصدق القائل4:
جمال الوجه مع قبح النفوس
كقنديل على قبر المجوس

"اللي ما يعرف الصقر يشويه"

إن من لا يعرف قيمة الأشياء من حوله سيتعامل معها بجهالة واعتباطية، فالصقر هنا رمز لكل ما هو ثمين، وشواؤه دليل على الجهل بقيمته، كالأعمى الذي في يده الجواهر، ويظنها حصًى، ولله قول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضحك كالبكا

"إذا ما طاعك الزمان طيعه"

إن التأقلم مع الواقع ومسايرة الزمن من أمارات ذكاء المرء، فالمرونة من أسباب النجاح والظفر في الحياة، قال المعرِّيُّ5:
ولمّــا أنْ تَــجَهّــمَــنــي مُــرادي
جَـرَيْـتُ مـعَ الزّمـانِ كما أرادا
وهَــوَّنْــتُ الخُــطــوبَ عــليّ حـتـى
كـأنـي صِـرتُ أمْـنـحُهـا الوِدادا
أفُـــلُّ نَـــوائبَ الأيــامِ وحْــدي
إذا جَـمَـعَـتْ كَـتائِبَها احْتِشادا

"الحيلة ما توصل دار"

يحاول الإنسان دومًا أن يتبع أقصر الطرق وأسهلها في تحقيق مصالحه، ولكن الطرق الملتوية وبال على متَّبعها؛ لأنها ستهوي به في هاوية سحيقة إذا ما انكشف أمره؛ وإنما الصواب مواجهة مصاعب الحياة بثبات وعزم وروية وصبر، قال ابن الوردي6:
فاترك الحيلة فيها واتّكل
إنما الحيلة في ترك الحيل

"اللي ما يعرفك ما يثمنك"

إن قيمة المرء بإخوانه الذين يعرفون فضله ومواقفه معهم، فإذا تغرَّب أو ابتعد عنهم بدا معزولاً مجرَّدًا من ألقابه، فالذي لا يعرف فضلك سيكون جاهلاً بقيمتك، والناس أعداء ما جهلوا، ورحم الله زهير بن أبي سلمى في قوله7:
وَمَنْ يَغْتَرِبْ يَحْسِبْ عَدُوًّا صَدِيقَهُ
وَمَنْ لا يُكَرِّمْ نَفسَهُ لا يُكَرَّمِ

"اللي فات مات"

هذا المثل وصفة نفسية ناجعة لمن ارتهن تفكيره للماضي، وهو مرض نفسي عضال؛ لأنه يؤذي التفكير السليم، ويشل حركة الإنسان في الانطلاق نحو المستقبل، فيغدو أسيرًا لترسبَّات الماضي وذكرياته المريرة، يسفح الدموع على أطلال الراحلين، ولكن الدمعة الساقطة لن تعود، ويأتي هذا المثل ليبث روح التفاؤل والانطلاق من جديد، وما أجمل قول من قال7:
ما فاتَ ماتَ، وفي الآمالِ متسعٌ
وفسحةُ الوقتِ للساعين لم تزَلِ

"اللي في قلبه صلاة ما تفوته"

من أراد شيئًا سعى إليه، ولم تنسه الظروف أهدافه، ولذا قيل8:
بقدر الكد تكتسب المعالي
ومن طلب العلا سهر الليالي

أما الاحتجاج بالظروف والنسيان؛ ففي الغالب تكون الأعذار واهية تعليلًا للفشل وعدم القيام بالواجب المترتب على المرء.

"اللي في بطنه ريح ما يستريح"

يُضرب هذا المثل لمن لا يستطيع كتم أسرار الآخرين، وأيضًا لمن يعاني من أمر يخصه، ولا يستطيع البوح به، فصدور الأحرار مقبرة للأسرار، ولكتمان السر وطأة ثقيلة على الصدر، وقد قال أبو نواس9:
ألا فاسقِني خمراً، وقل لي: هيَ الخمرُ
ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهرُ

كما أن إفشاء السر منقصة في الإنسان، وهذا يستدعي في الذاكرة الأدبية قول الحطيئة10:
أَغِربالاً إِذا استودِعت سِرًّا
وَكانونًا عَلى المُتَحَدِّثينا

وقد جاء في الأثر "استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان"11.

"الحي يحييك والميت يزيدك غبن"

إنها دعوة إلى مصاحبة الناجحين والمتفائلين بالحياة والابتعاد عن الفاشلين اليائسين المتشائمين، فلكلٍّ حالٌ يسري على صاحبه، وطاقة مؤثرة فيه، فالبيئة الإيجابية تبث روح الأمل والعمل في الإنسان، وقد قال علي رضي الله عنه12:
فَلا تَصحَب أَخا الجَهلِ
وَإيــــــــــــــــــاكَ وَاِيّــــــــــــــــــــــاهُ
فَكَم مِن جاهِلٍ أَردى
حَليماً حينَ آخاهُ

"اللي ما عنده عمل يكاري له جمل واللي ما عنده حيلة يلعب التيلة"

يتجاوز هذا المثل معناه الحقيقي إلى معانيه المجازية التي تدعو إلى ضرورة البحث عن الأعمال المفيدة والانشغال فيها، فنفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، والحث على الجد والاجتهاد والبعد عن سفاسف الأمور، وقديمًا قال أبو العتاهية13:
إنّ الشبابَ والفـراغَ والـجِـدَة
مَفْسَدَةٌ للمَـرْءِ أَيّ مَـفْـسَـدَة

"إذا جتك العوجة من السفيه خلها"

ليس من طبع النبلاء الرد على كل شتيمة؛ وإنما يكون التجاهل جوابهم، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}14.

وأبدع شعراء العرب في صياغة هذا المعنى، كقول شَمِر بن عمرو الحنفي15:
ولقد أمرُّ على اللئيمِ يسُبُّني
فمَضَيتُ ثُمَّتَ قلتُ: "لا يعنيني"

"أذنك من وين يا جحا"

يُضرب المثل لمن يترك الحلول السهلة الواضحة، ويلجأ في خياراته إلى حلول معقدة وصعبة وغامضة، وفيه نقدٌ ضمني للتشدد والتعقيد والغباء، نحو قول القائل16:
أَقُولُ لَهُ بَكْرًا فَيَسْمَعُ خَالِدًا
وَيَكْتُبُهُ زَيْدًا وَيَقْرَؤُهُ عَمْرَا

"الصديق قبل الطريق"

للمصاحبة دور مهمٌّ في تكوين شخصية الإنسان وصقلها، فالصاحب ساحب، والطبع سراق، ولهذا شددت التوجيهات الدينية والتربوية على وجود بيئة صالحة تهذب شخصية المرء بالطباع النبيلة؛ لأن الصداقة تحدد المصير، قال تعالى: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}17.

وقال أحدهم18:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه
ففيه دليلٌ عنه بالطبع تهتدي

"بغى يكحلها عماها"

هو كقولهم: زاد الطين بلة، أو صب الزيت على النار، ولهذا يدعو المثل إلى الحذر في الإقدام على الفعل أو اتخاذ قرار أو التكلم في نوادي القوم، وأن يعرف لكل شيء حدوده، فينتقي ألفاظه انتقاء ذكيًّا، متى يتكلم؟ وكيف يعبر؟ متحسبًا لرد السامعين، فيكون متَّزنًا يعرف من أين تؤكل الكتف، فلكل كلمة تبعات وتبعات.

"بغاها طرب صارت نشب"

يُضرب هذا المثل عندما تأتي النتائج عكس التوقعات، فكم من أمرٍ بُدئ بهزل، فأصبح حقيقة واقعة، والمقالب والوقائع على ذلك أكثر من أن تحصى، قال الشاعر19:
مازح صديقك ما أحب مزاحا
وتوقَّ منه في المزاح مزاحا
فلربما مزح الصديق بمزحة
كانت لباب عداوة مفتاحًا

وتتجاوز فلسفة هذا المثل إلى التأمل عميقًا في الحياة وتقلباتها، وقد قال المتنبي بعد أن تمرغ بأوحال الزَّمن20:
مَا كلُّ ما يَتَمَنّى المَرْءُ يُدْرِكُهُ
تجرِي الرّياحُ بمَا لا تَشتَهي السّفُنُ

وما أصدق قول الحطيئة في الذي ظن الحياة طربًا ولهوًا21:
يَصَبو إِلى الحَياةِ وَيَشتَهيها
وَفي طولِ الحَياةِ لَهُ عَناءُ

"بوطبيع ما ايوز عن طبعه"

إن الخداع والمراوغة تكشفها المواقف، فالضفدع ـ كما يقال ـ لو أُجلس على كرسي من ذهب يأبى إلا أن يقفز إلى المستنقع، ويعود إلى أصله، ورَوى الأصمَعِيُّ أن أعرابيَّة وَجَدَت جروَ ذئبٍ وليدًا؛ فَحَنَّت عليه وأخذته ورَعَته، وكانت تُطعمُهُ مِن حليب شاةٍ عندَها، حتَّى كبُرَ الذِّئبُ الصَّغير، وفي يومٍ عادَت الأعرابيَّة إلى بيتِها، فوجدت الذِّئبَ قد أكلَ الشَّاة، فأنشَدَت تقُول متحسرة22:
بقرتَ شُوَيهتي وفجَعْتَ قلبي
وأنتَ لشاتِنا ولدٌ ربيبُ
غُذِيتَ بدرِّها، ورُبيتَ فينا
فمَن أنباكَ أنَّ أباكَ ذيبُ
إذا كانَ الطِّباعُ طباعَ سوءٍ
فلا أدبٌ يُفيدُ ولا أديبُ

وصحيح أن الطبع يغلب التطبُّع، لكن هذا المثل ليس على إطلاقه، فللوعي والبيئة والظروف التي تحل بالمرء الدور الفعّال في تغيير الطباع والسلوك، فمن لم يؤدِّبه أبوه أدَّبه زمانه.

"بيضة اليوم ولا دجاجة باجر"

هو مبدأ في الحياة يدعو إلى الواقعية في التعامل والابتعاد عن الأوهام والأحلام، والبناء على ما هو قائم بالفعل لا ما هو ماثل في الخيال، فلا يلهث وراء السراب، وما عليه الإنسان في حاضره هو الذي سيحدد بوصلة مستقبله، وكما يقال في الثقافة السياسية: (خذ وطالب)، وعلى صعيد الثقافة الاجتماعية (عصفور في اليد أفضل من عشرة على الشجرة).

"تراب القبر له"

يضرب هذا المثل لمن يبذل جهدًا في غير فائدة كحال من يكتب على الماء أو ينفخ في الهواء، وهذا المعنى حاضر في الأساطير القديمة المتمثل بـ "صخرة سيزيف"23.

ولكن العمل وبذل الجهد بحد ذاته مفيد، وإن لم تكن له فائدة منظورة؛ لأنه يخلص نفس الإنسان من استبداد القلق، ويمنحها مناعة ضد التشاؤم والقنوط، فترك العمل بيئة جاذبة للأمراض النفسية القاتلة.

"ترقص وهي تنقص"

مَثَلٌ تحفيزيٌّ يدعو إلى إعادة التقييم المستمر لأفعال الإنسان وإخضاعها للنقد الذاتي لمعرفة الربح من الخسران، وهذا ما يدفعه إلى التغيير والعمل بذكاء وتحقيق غاياته من أقصر الطرق؛ لأن طريق الحياة يستدعي الحذر واليقظة لكثرة منعطفاته ومنحدارته، ورحم الله من قال24:
وطِّئ لرجلك قبل الخطو موضعها
فالعين تبصر ما لا تبصر القدمُ

"قديم البريسم ولا جديد الصوف"

يشير المثل إلى أهمية القديم والتمسك بالتراث الأصيل، فمن لا قديم له لا جديد له، والأصل إبقاء ما كان على ما كان عليه، فقالوا: "الصاحب القديم واصله واستديم"، ونلمح في المثل الخوف والحذر من التجديد والتغيير، والحق أن الإنسان يجب أن يتعامل مع الجديد دون انسلاخ عن قيمه وهويته جامعًا بين جذور الأصالة ومعطيات المعاصرة.

"حلاة الثوب رُكُعته منه وفيه"

يشير هذا المثل إلى مبدأ المجانسة في العلاقات الاجتماعية، وكلُّ امرئ يصبو إلى من يشاكله في الرأي والطبع والعمل، فالطيور على أشكالها تقع، ومن لم تجانسه فلا تجالسه، وفي الحديث الشريف: "المرءُ على دينِ خليلِه، فليَنظر أحدُكم من يخالِل25".

ولكن هذا المثل لا يُؤخذ على إطلاقه، فله سياقه الاجتماعي؛ فالتنوع والاختلاف هو رافعة لتطور المجتمعات وازدهار الأوطان؛ لأنه يخلق بيئة للتنافس والتحفيز والتغيير نحو الأفضل.

"ما يمدح السوق إلا من ربح فيه"

ينطوي المثل على ملحظ مهم، فالمدح غالبًا لا يكون بريئًا من المنفعة ومتجرِّدًا من المصلحة، وقد ارتبط المدح في تاريخ الأدب العربي عند كثير من الشعراء بالتكسُّب، ولهذا كان حب المديح جارحًا بشخصية الممدوح؛ لأن المدح يغذي في النفس النزعة النرجسية والسادية، إذا بولغ فيه، إلا ما كان وصفًا لواقع أو تشجيعًا على اكتساب الفضائل، قال أَبو ذؤَيب26:
لو كان مِدْحةُ حَيٍّ مُنْشِرًا أَحداً
أَحْيا أَباكُنَّ يا لَيْلى الأَماديحُ

"من بغاه كله خلاه كله"

يعالج هذا المثل قضية الجشع والطمع، فمن طمع بكل شيء سيفقد كل شيء، والطمع مرض اجتماعي قاتل وعواقبه الهلاك والخذلان، ولهذا كان التوسط والاعتدال سمة ذوي الألباب، فالقناعة كنز لا يفنى، والطامع كالشارب من ماء البحر يزداد منه شرباً فيزداد عطشاً، وقد قال أبو العتاهية في ذم الطمع والزهد في الدنيا27:
أذَلَّ الحِرْصُ والطَّمَعُ الرِّقابَا
وقَد يَعفو الكَريمُ، إذا استَرَابَا
كأنَّ محَاسِنَ الدُّنيا سَرَابٌ
وأيُّ يَدٍ تَناوَلَتِ السّرابَا

"العنز ما تشوف ذيلها"

يندرج هذا المثل ضمن مقاصد التربية الاجتماعية للفرد، فمن المؤلم أن يرى الإنسان عيوب الآخرين، وينسى نقائصه، وقد قال أبو العتاهية28:
دَع عَنكَ تَقويمَ مَن تُقَوِّمُهُ
وَابدَأ فَقَوِّم ما فيكَ مِن أَوَدِ

فالعاقل تشغله عيوبه عن عيوب الآخرين ورحم الله الشافعي حين قال29:
إذا رُمتَ أنْ تَحيا سَليماً مِن الأذى
وَدينُكَ مَوفورٌ وعِرْضُكَ صَيِنُّ
لِسانُكَ لا تَذكُرْ بِهِ عَورَةَ امرئٍ
فَكُلُّكَ عَوراتٌ وللنّاسِ ألسُنُ

"انفخ يا شريم قال برطم ما هست"

إن صاحب الشفاه المشقوقة لا يستطيع النفخ، ولكن هذا المثل يتجاوز المعنى الحقيقي إلى معان مجازية، فمنها أن الإنسان محدود القدرة فقد يريد أمرًا ما لكن دونه عقبات كؤودة، وقد صاغ هذا المعنى الزمخشري في قوله30:
مذ أفلح الجهالُ أيقنت أنني
أنا الميم والأيام أفلح أعلمُ

فصاحب الشفة المشقوقة (الفلحاء والعَلماء) لا يستطيع أن ينطق بحرف الميم، وأبدع من قال31:
يُريدُ المَرءُ أَن يُعطى مُناهُ
وَيَأبى اللَهُ إِلّا ما أَرادَ

"عدوك موب من قال فيك، عدوك من بلغك"

يشير هذا المثل إلى مرض اجتماعي ذميم وهي النميمة؛ لأنها سبيل إلى إثارة النعرات والفتن وانحلال القيم وضرب الثقة بين أبناء المجتمع واحد، ولا تصدر إلا من نفس مريضة، وروح سقيمة، والحق كما يقال: "من نم إليك نم عليك"32، وفي الحديث الشريف: "لا يدخل الجنة قتات"33، أي: نمَّام، ورحم الله من قال34:
من نمَّ في الناسِ لم تؤمنْ عقاربُه     
على الصديقِ ولم تؤمنْ أفاعيه

"الفضول قتل العيوز"

الفضول من الأخلاق الذميمة التي تحط من قيمة الإنسان وقد تورده المهالك، وهو محبة التدخل فيما لا يعنيه وانشغاله بما لا يفيده، والتطفل على حياة الآخرين فيقتحمها، ويهتك أسرارها، وهي ظاهرة سلبية تنتشر في المجتمعات التي تفتقد للقيم الحضارية والانشغال بما ينفعها، قال أحد الحكماء35:
عوِّد لسانَك قلَّةَ اللفظِ
واحفَظْ كلامَك أيَّما حِفظِ

وفي الحديث الشريف: «طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه، وأنفق الفضل من ماله»36.

ومع الحثِّ على ترْك الفضول نختتم دراستنا، وما قدمناه كان أشبه بشعاع الشمس المتسلل من حنايا النافذة، فالأمثال الإماراتية بحر زاخر من المعاني، تتجلى فيها القيم التربوية والاجتماعية والحضارية، وجديرة بأن تفرد لها مادة دراسيَّة؛ لتستقي منها الأجيال الحِكَم، وتغني رصيدها من التجارِب، وتتحصَّن بها من أوحال الحياة، فهي أشبه بلمعة البرق التي لا تلبث أن يعقبها غيث من التأملات والأفكار في سياق مفاهيم الحق والخير والجمال.

 



هوامش: 1. التَّنَاصُّ، أو التعالق النصي (بالإنجليزية: Intertextuality)‏ في الأدب العربي هو مصطلح نقدي يقصد به وجود تشابه بين نص وآخر أو بين عدة نصوص. (ينظر للتوسع: موسوعة ويكبيديا على صفحة الشابكة).│2. الديوان، ص: 29.│3. مقتبس من شبكة الألوكة الثقافية.│4. المنهاج الواضح للبلاغة، ج1، ص: 87.│5. الديوان، ص: 113.│6. جواهر الأدب لأحمد الهاشمي، ص: 420.│7. زهير بن أبي سلمى شاعر الحوليات لعيسى إبراهيم السعدي، ص: 22.│8. مقتبس من صفحات الشابكة.│9. الديوان، ص: 192.│10. الديوان، ص: 19.│11. الديوان، ص: 83.│12. صحيح الجامع برقم: 943.│13. الديوان، ص: 12.│14. الديوان، ص: 372.│15. سورة الفرقان – الآية: 63.│16. بدائع الفوائد لابن القيم، ص: 207.│17. ‏فتح المغيث شرح ألفية الحديث للحافظ العراقي، ص: 21.│18. سورة التوبة، الآية: 119.│19. مقتبس من ديوان الشاعر على الشابكة.│20. بستان الحكمة لعبد الله العطيات، ص: 16.│21. الديوان، ص: 270.│22. الديوان، ص: 105.│23. الأمثال العامية لأحمد تيمور باشا، ص: 10.│24. ملخصها: أن الآلهة أرغمت سيزيف على دحرجة صخرة ضخمة على تل منحدر، ولكن قبل أن يبلغ قمة التل، تفلت الصخرة دائما منه، ويكون عليه أن يبدأ من جديد مرة أخرى.│25. ديوان الحماسة لأبي تمام، ج2، ص: 26.│26. أخرجه أبو داود (4833).│27. الديوان، ص: 32.│28. الديوان، ص: 113.│29. الديوان، ص: 115.│30. الكشاف للزمخشري، ج4، ص: 310. الأفلح: مشقوق الشفة السفلى، الأعلم: مشقوق الشفة العليا.│31. شعر ابن صارة الشنتريني الأندلسي، ص: 72.│32. إحياء علوم الدين للغزالي، ج1، ص: 47.│33. متفق عليه.│34. روضة العقلاء لابن حبان البستي، ص: 177.│35. أدب الدنيا والدين للماوردي، ص: 87.│36. الترغيب للمنذري، الرقم: 1705.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها