متحف البطحاء.. حارس فاس وموطن أسرارها

حميد الأبيض


يعتبر متحف البطحاء بفاس المغربية، معلمة متحفية حاضنة لنماذج مختلفة من الفنون والعادات والتقاليد المتوارثة بين أجيال أهل المدينة وضاحيتها بتاونات وصفرو وتازة، لاسيما في مجال الطين والخزف والفخار، وفنون العيش ومظاهر الحياة الفكرية والدينية والعلمية، في تَماهٍ جميل بين الماضي والحاضر.


أكثر من 6 آلاف قطعة متحفية مختلفة، تحتويها 15 قاعة عرض، موزعة بين جناحين متباعدين منفتحين على بلاط طبيعي، تؤثثه حديقة يانعة أبدع ترتيب أشجارها الوارفة، ومركز الاستقبالات الملكية السابق للسلطان الحسن الأول وخلفه ابنه المولى عبد العزيز، قبل تحويله إلى متحف في عام 1915.

رخاميات ومنسوجات ومخطوطات وإسطرلابات، وقطع نحاسية طينية وخزفية وجبسية، وحلي وألبسة وأعمال فنية أثرية من إبداع الصانع المغربي في شتى المجالات، مصدر شهرة متحف لا يقتصر دوره على العرض، بل طالما شهد على ميلاد أول إذاعة جهوية وسهرات فنية أحياها كبار الفنانين عالمياً.

حديقة البلاط

لا يحتاج كل راغب في زيارة "متحف البطحاء" بمدينة فاس جهداً أو إتباع مسار موغل في دروب المدينة العتيقة الضيقة، بحثاً عنه، لوجوده في مكان سهل الولوج من عدة جهات وطرق، خاصة عبر ساحة أبي الجنود وبابها التاريخي، أو حديقة جنان السبيل، وساحة حي البطحاء القريبة منه.

قبالة عمالة فاس المدينة، تتراءى أسوار المتحف الشامخة الحاجبة كنوزاً وقطعاً متحفية نادرة يحتويها، على بعد أمتار قليلة من لوحة خطت عليها وثيقة مطالبة المغرب باستقلاله في عام 1944، التي حررت ووقعت من طرف قادة مقاومة المستعمر الفرنسي، في منزل المرحوم أحمد مكوار المقابل لها.

على طول المسافة القصيرة المؤدية إليه، أسهب مرافقنا في الحديث عن نفائس المخطوطات والرخاميات ومسكوكات وحلي وإسطرلابات ومنسوجات، وألبسة وقطع خشبية ونحاسية وجبسية وخزفية، موجودة بالمتحف قبل 103 عام، بعدما كان قصراً بناه السلطان الحسن الأول وحوله مكان إقامة واستقبال.

كل تلك الكنوز مباح اكتشافها لكل راغب في ذلك، بالولوج من بابه الرئيسي الوحيد الذي يفتح أعين الوافدين على فضاء داخلي، تؤثثه أشجار وارفة من أنواع مختلفة، متراصة بساحته الفسيحة، على مرمى حجر من قاعاته وغرفه الواسعة المتناثرة بين عدة ممرات وأقواس وأحواض، تسر ناظرها من زواره.

وسط المتحف يعاين الزائر حديقة بأنواع نباتات مختلفة محلية ومتوسطية، يغلب عليها الطابع الأندلسي الذي اقتبسه الحسن الأول في تأثيثه للفضاء؛ إذ تضفي جمالية خاصة على مكان كله بهاء وروعة، منفتح على خصوصية معمارية محيطة بالحديقة، في شكل قاعات استقبال البلاط، متحولة لعرض نفائس نادرة.

عنوان التميز

كل شيء يوحي بالتميز داخل "متحف البطحاء للفنون والعادات والتقاليد"، الذي تضفي عليه حديقة فنائه والأقواس والأحواض المائية، جمالية خاصة زادت بتعديلات أدخلها على الفضاء بانيه السلطان الحسن الأول في الربع الأخير من القرن 19، قبل استكمال تزيينه من طرف خلفه السلطان المولى عبد العزيز.

يؤكد مرافقنا في جولتنا الاستكشافية للمتحف: أن هذه المعلمة الممتدة على نحو هكتار، أسست في عام 1915 للميلاد مع بداية الحماية الفرنسية على المغرب، وتحتوي نحو 6 آلاف قطعة متحفية تختصر كل مظاهر الحياة الدينية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وفنون عيش سكان العاصمة العلمية للمملكة.

وتضع فضاءاته رهن إشارة الزوار المغاربة والأجانب المفتوح في وجوههم مقابل مبالغ مالية مختلفة، كوكتيلا فاتنا مما أبدعه الصانع التقليدي في فنون وحرف مختلفة، اشتهرت بها فاس منذ غابر العصور، في مجال الخزف والنسيج، وما توارثه عبر الأجيال المتعاقبة من عادات وتقاليد راسخة في القدم.

كل زيارة لتلك الفضاءات تتيح للوافد فرصة التمعن واكتشاف نفائس حرف بعضها انقرض، يتوخى من عرضها صيانة تراث وتقاليد عريقة، بهدف إرشاد كل راغب في اكتشافها، في ربط متحفي بين ماض زاخر بكنوز صناعة تقليدية اضمحل دورها نسبياً، وحاضر طامح لاسترجاع مكانتها المتراجعة.

كل ذلك -يؤكد مرافقنا- لأجل الحفاظ على تراث وعادات متوارثة بعمر مدينة فاس ذات 12 قرناً، والحاضنة مدينتها القديمة كنوزاً ثقافية وعمرانية ودينية نادرة، كما متاحفها الحاوية نفائس متحفية بما فيها متحفا البطحاء ونظيره لـ"دار السلاح"، الذي يحتوي عتاداً عسكرياً استعمله المغاربة في حروبهم.

15 قاعة للعرض

في 15 قاعة متراصة في جناحين، أثثت مجموعات متحفية مختلفة شاهدة على فترات وحقب تاريخية متباعدة من تاريخ المغرب، كاشفة معطيات حية عن دفء العيش عند أهل فاس، وما عاشوه من حضارة وأبدعوا في شتى أنواع الفنون وما توارثوا من عادات وتقاليد تم الحفاظ عليها دون تأثر بعوادي الزمن.

في الجناح الغربي لوحده، فتحت 10 قاعات لاحتضان مظاهر فنون العيش الحضرية والقروية بفاس ومحيطها المترامي من حوض سايس إلى الشمال والأطلس المتوسط، وما بينها من قبائل مختلفة العادات والتقاليد، في وقت خصص فيه الجناح الشرقي لاحتضان فنون الطين والنار، المرتبطة بحياتهم.

من مناطق التسول بتازة وسلاس وبني زروال، والحياينة بتاونات ومزكيلدة، ومناطق متفرقة ناحية فاس، اختيرت نماذج أخرى من الفخار القروي لتأثيث خامس قاعات العرض، بعد تأثيث خزف متعدد الألوان في القاعتين الثالثة والرابعة، والخزف الأخضر لتمكروت في الأولى، وخزف فاس الأزرقفي القاعة الثانية.

زيارة تلك القاعات تتيح اكتشاف إبداعات صانع الخزف الفاسي والقروي، وما أنتجه من حاجياته من أواني طينية، كما القاعات العشر بالجناح الغربي، التي خصصت أولاها لإبراز مظاهر الحياة الفكرية والدينية والعلمية، وثانيها لمنتوجات الطرز والحرير والأقشمة، وثالثها للحلي، وخامسها لفن النحاسيات.

في كل قاعة من هذا الجناح يعاين زائرها نماذج مختلفة من عينات إبداعية لأهل فاس وناحيتها، لاسيما في مجال فن الحدادة والحلي الفاسية والقروية والحجامة، والآلات الموسيقية، ومختلف مظاهر فني العيش القروي والزرابي القروية، والفروسية ولوازمها، في تناغم إبداعي يختلف من قاعة عرض إلى أخرى.

حارس "ماضي فاس"

تصف بعض المصادر التاريخية، هذا المتحف، بـ"حارس ماضي فاس وموطن أسرارها"، اعتباراً لصيانته التراث والتقاليد الأصيلة، عبر آلاف التحف تم إغناؤها عبر حقب زمنية مختلفة، من طرف الذين تناوبوا على تدبير شؤونه منذ إنشائه، بمن فيهم فرنسيين منهم المستشرق ألفريد بيا ومارسيل فيكير.

وما يميز فضاء العرض وقاعاته، أريحية يتيحها للزائر لاكتشاف نفائسه دون حاجة لبذل مجهود كبير، أو إثقال كاهله بتحف متراكمة بشكل قد يحسسه بالملل. تباعدها والإضاءة المسلطة عليها، تتيح له الاهتمام بكل تحفة على حدة، مما حرص مسيرو المتحف على تجهيزها بالوسائل اللازمة لتلافي ضياعها وتلفها.

لن يندم الزائر في جولاته عبر غرفه، طالما أن ذلك يتيح له فرصة لا تعوض لاكتشاف جميل عادات وإبداعات أهل فاس، ليس فقط في حرفهم ومهنهم التقليدية ومظاهر حياتهم، بل في فنون مختلفة بما فيها التشكيل والمنمنمات وأدوات التسفير والتنميق والتذهيب ومختلف أنواع المخطوطات والحفاظ عليها.

كتابات بالخط الكوفي وإسطرلابات من قطع منقوشة ومنحوتة لقياس الكواكب وضبط توقيت الصلاة، بعضها يؤرخ لمراحل تاريخية لبناء مساجد بفاس، وأخرى مؤرخة لوسائل عتيقة جداً للكتابة والزخرفة والطرز الأندلسي والفاسي، ولصناعة حلي العروس الفاسية والقروية من أساور وأقراط وعقود.

كل أنماط العيش وتجلياته، موجودة بالمتحف، في شكل أثاث وتحف وأقفال مفاتيح أبدعها حدادو فاس، أو أدوات إعذار الأطفال وتصفية الدم والحجامة وأواني نحاسية متنوعة وأنواع المد النبوي لتحصيل الزكاة، ومباخر ومصابيح وقناديل، ولوازم الفارس المغربي كالخناجر وعلب البارود، وغيرها من الأدوات.
 

هنا.. إذاعة فاس

"لم تمض 15 يوماً على افتتاح مذياع مراكش، حتى كان مذياع فاس مهيأً وميسراً لتبليغ الإذاعات على اختلاف لغاتها من عاصمة العلم والنبل والشرف، ولما أزف موعد الحفلة أخد أهل فاس يفدون زرافاتٍ ووحداناً على قصر البطحاء". مقال بجريدة "السعادة" المغربية يؤرخ لميلاد إذاعة فاس بهذا المتحف.

كان الانطلاقة من متحف البطحاء في حفل حضره الخليفة السلطاني المامون، والوزير حماد المقري، والعلامة الحاج عبد الحي الكتاني، ورجال سلطة بفاس وصفرو، وأرخ لميلاد إذاعة سرعان ما نقلت مقرها من المتحف إلى شارع أحمد الوكيلي بعد استقلال المغرب في 1961 بعد 25 سنة من ميلادها.

هذا الفضاء المتحفي شاهد على انطلاق أول بث إذاعي لإذاعة فاس الجهوية في عام 1936، لتظل منبراً رائداً يؤثث ويغني المشهد السمعي البصري بالمغرب، واحتضن الرعيل الأول والرواد المؤسسين في مجال الأغنية والفن والمسرح، ممن غنى بعضهم في المتحف ضمن فعاليات مهرجان الموسيقى العريقة.

وتشهد شجرة البلوط، عمرها أكثر من 200 عام، وتتوسط حديقة المتحف/ القصر الممتد على 4400 متر مربع 60 بالمائة منها عبارة عن رياض ومساحة خضراء، على سهرات فنية وموسيقية لكبار الفنانين العالميين، أحيوها لمناسبة المهرجان في مختلف دوراته العشرين، في تناغم مع عصافيرها.

من مختلف الجنسيات والثقافات أبدع فنانون وفرق موسيقية ألواناً غنائية وطربية تشهد هذه الشجرة وعصافيرها، على لوحات فنية رائعة استمتعت بها كل عصر طوال عمر واحد من أهم مهرجانات الموسيقى العالمية العريقة، نقطة توهج وشهرة متحف مزج بين العرض المتحفي والغناء والبث الإذاعي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها