الكتابة في درجة الصفر

قراءة في آفاق المصطلح النَّقديِّ عند رولان بارت

د. أحمد راشد إبراهيم


رولان بارت Roland Barthes


رولان بارت أحدُ أربعةٍ لا يمكنُ تصنيفهم ضمن توجه نقدي بعينه كالبنيوية أو ما بعدها، وعلى شاكلته فوكو ودريدا وجاك لاكان، وجميعهم يشتركون في توجيه عملهم إلى اللغة وفحصها، وإن كان لاكان محللاً نفسياً، إلا أنَّهُ مثلَهم لا يقبل التصنيف ولا يرضى به.
وَقَدْ اشتهرَ بارت بمصطلحاته النَّقديةِ التَّي أخذتْ مكانها في السَّاحة النَّقديةِ منذ أطلقهَا، ومِن بينها الكتابة في درجة الصِّفر، وموت المؤلف، ولذة النَّص، والنَّصُّ المقروء، والنَّص المكتوب، وسنقتصر هنا على أوَّلِ مصطلح أطلقه، وهو الكتابة في درجة الصِّفر، ونُفصِّلُ القولَ فيه كما أملت علينا نصوص بارت النَّقديةِ في كتابه الَّذي حمل هذا المصطلح عنواناً له.

وَقبلَ الشُّروعِ في هذا التَّفصيلِ لابد من الإشارة إلى أمرين:
الأوَّلُ: أن "الكتابة في درجة الصِّفر" يُعَدُّ باكورة إنتاج رولان بارت النَّقدِيِّ، وهو أول خطاباته النقدية، فقد صدرت بعض صفحاته في جريدة كومبا الفرنسية سنة (1947-1950م)، وقد كان رئيس تحريرها وزعيمها كتابةً الرِّوائي الجزائريُّ المَولِد، الفَرنسيُّ الأب، الإسبانيُّ الأم، أديب وفيلسوف اللاَّمعقول والثَّورةِ والتَّمرد ألبير كامي.

وَبعدَ ذلك صدرَ الكتابُ كَامِلًا في عام 1953م، ضامّاً بين دفتيه الكتابات الأولى التي أصدرها بارت في الأربعينيات من عمره.
الثَّاني: يبدو أنَّ الدَّافع وراء ظهور هذا الكتاب أمران: الأوَّلُ: محاولة بارت أن يبين "كيف يمكن أن يكون تاريخ متمركس معاصر للأدب الفرنسي"1. والثاني: محاولة رولان بارت تقديم إجابة للأسئلة التي طرحها أستاذه الوجودي جان بول سارتر في كتابه المسمى "ما الأدب؟"، والذي بناه على مجموعة من الأسئلة بيانها على النِّحو التَّالي: الأوَّلُ: ما الكتابة؟ الثَّاني: لماذا نكتُب؟ الثَّالث: لمن نكتُب؟ الرَّابع: موقف الكاتب في العصر الحديث.
وما كان من رولان بارت -الذي آمن بالفلسفة الوجودية العدمية على الصورة التي انتهجها أستاذه سارتر- إلا أن يجيب أستاذه عن سؤاله ما الأدَبُ؟ بقوله: الكتابة في درجة الصِّفر، فَكَأنَّ نص الإجابة: الأدب هو الكتابةُ في درجة الصِّفر.

والدَّاعي إلى هذا التفسير مجموعة من الأسباب، بيانها على النَّحو التَّالي:
الأوَّلُ: العلاقة الوطيدة بين الفلسفةِ الَّتي تجمع بين رولان بارت وأستاذه سارتر، فأولهما تتلمذ على فلسفة أستاذه الوجودية، وهذا يعني التَّكاملَ والتَّرابط الفكريَّ بين الاثنين.
الثَّاني: أنَّ محتويات الكتابة في درجة الصِّفر تكادُ تطابق ما أراده سارتر في سؤاله عن الأدب.
الثَّالثُ: أنَّ المِعيارَ الأمثلَ والنَّموذج الحقيقي الَّذي يجعله رولان بارت خير ممثل للكتابة الصفرية هو كتابة ألبير كامي الأدبية، وقد أشرنا آنفًا إلى كامي، وأنَّه فيلسوف وأديب الثَّورة والتَّمرد واللاَّمعقول، وهذه الأشياء كُلُّها نابعةٌ من فلسفته الوجودية.
الرَّابِعُ: إشارة رولان بارت في عنوان كتابه "الكتابة في درجة الصِّفر" إلى معنى الأدب في الفلسفة الوجودية، فدرجة الصِّفر هي الَّتي تتحرر من القيودِ كُلِّها في الكتابة.

وأعود هنا فأبين المراد بالكتابة في درجة الصفر، ثم أوضح دلالة هذا المصطلح على وجودية بارت في النَّقاط التَّاليَّة:

بيان مفهوم الكتابة الصِّفريَّةِ عند رولان بارت

أشير بداية إلى أمرين: أولهما: أنَّ عنوانَ الكتاب تُرجم بترجمة معادلة وهي: "درجة صفر الكتابة". والأمر الثَّاني: أنَّني سأستخدم مصطلح الكتابة الصفرية بديلاً عن عنوان الكتاب من باب الاختصار، وقد استندت إلى استخدامه ووجوده في معجم المصطلحات الأدبية الحديثة2.

ومن المعلوم كما سبق بيانه أن جان بول سارتر قد استخدم مصطلح الكتابة هذا في كتابه المسمى "ما الأدب؟" وكان من بين الأسئلة المطروحة سؤاله عن الكتابة، ثم أتى رولان بارت وقدَّم إجابة وافية عن سؤال أستاذه.

ومن إجابة بارت يمكننا بيان مفهوم الكتابة الصِّفرية بإجمال وتفصيل، أمَّا الإجمال فنقول فيه: إنَّ الكتابة الصفرية هي: "الكتابة الَّتي تتحرر من جميع القيود والأفكار والمعتقدات السَّالفة"، وهذا المعنى يفسره استخدام بارت المركب الإضافي "درجة الصفر" فالصِّفرُ دائماً منفرد ومتحرر من القيود طالما أنه لم يرتبط بقيمة عددية أخرى، وهذا أقرب إلى بيان المراد من قوله الكتابة في درجة الصفر، أو درجة صفر الكتابة، هذا بوجه عام في بيان مفهوم الكتابة الصفرية.

وأمَّا المفهومُ مُفَصَّلًا فَنُبيِّنُ فيه دلالةَ الكتابةِ الصِّفرية في مجموعة من الكتابات النَّقديَّة التَّاليَّةِ:

ففي دليل النَّاقد الأدبي ورد ما نصه أنَّ البنيويين قد جاءوا "بهذا المفهوم ليعني "الكتابة" كمؤسسة اجتماعية تندرج تحت مظلتها مختلف أنواع الكتابة، لكل منها أعرافها وشفراتها، ومن هذا المنظور اندرج النَّص الأدبي تحت هذه المظلة الاجتماعية، وكان أشهرُ من نادى بهذا المفهوم وتبنى إشاعته والدفاعَ عنه هو رولان بارت، فأصبح النص الأدبي عند دعاة الكتابة بهذا المفهوم هو جنس من أجناس المؤسسة الاجتماعية (أي الكتابة الأدبية: الأدب)، يشاركها في سماتها العامة ويتميز عنها بخصائص مقننة هي الأعراف والشَّفرات الأدبية والتقاليد المتعارف عليها"3.

هكذا قدم الدليل مفهوماً للكتابة التي حاول رولان بارت إثباتها والعمل على تدعيمها من خلاله محتويات كتابه المذكور، وهو الكتابة في درجة الصفر.

ومن ناحية أخرى فإنَّ دليل الناقد لم يتعرض لبيان مفهوم الدرجة الصفرية بصورة مباشرة، لكننا نستطيع استنباط معناها من خلال ما ورد في الدليل من إشارته إلى كتاب نجيب العوفي، الذي عارض فيه رولان بارت وسماه "درجة الوعي في الكتابة (1980م)"، والذي كان العوفي فيه يرفض وينتقد المنهج البنيوي التكويني معتبراً إياهُ تداريب ورياضات فكرية4.

والواضح ممَّا سبق أن العوفي قد جعل الوعي مقابل الصفر، وهذا يشير إلى أنَّ ثمة تناقضاً بين المصطلحين فالوعي يضاد الصفر من حيث إنَّ الصفرَ لا يرتبطُ ولا يتقيدُ بدلالةٍ حالة انفراده، فهو متحررٌ من كل دلالةٍ.

وفي معجم المصطلحات الأدبيةِ ورد ما نصه: إنَّ "سبب استخدام الكلمة الفرنسية –الكتابة- في النَّقد الأدبي الإنجليزي هو المعنى الخاص الذي وضعه لها رولان بارت؛ إذ أنشأ مقابلة بينها وبين الأدب، وهي مقابلة تشبه المقابلة التي يجريها بين نص القراءة السلبية الموجه للقارئ ونص القراءة الإيجابية، أي الَّذي يشارك القارئ في كتابته"5.

وينتقل المؤلف ليبين المراد بدرجة الصِّفر فيقول: "أما درجة الصفر في الكتابة فهي كتابة لا لون لها، تحررت من كل ارتباط (أو عبودية) لحالة لغوية مقدورة سلفاً، وهي تمثل محاولة لتجاوز الأدب بأنَّ يعهد الإنسان بأقداره إلى نوع من الكلام الأساسي بعيداً عن اللَّغات الحيَّةِ، وعن لغة الأدب المعتمدة"6.

هذا، ولم يكتفِ المؤلف بالدلالة السَّابقة لدرجة الصفر في الكتابة، لكنه رأى أنها تحتاج بياناً أكثرَ فتعقبها قائلاً عن دلالتها عند رولان بارت: "فالحق أنه يعود في هذا الكتاب الذي صدر أول الأمر عام 1953م، إلى فكرة الرومانسيين الإنجليز بزعامة وردزورث الخاصة بكتابة شعر منسوجٍ من لغةٍ بريئةٍ من حيَّلِ الصَّنعةِ ومظاهِرِ الأسلوب، التي اتصف بها الأدب الكلاسيكي أو الأدب الرسمي على مر التاريخ"7.

ومن بعد هذا يصرح المؤلف بقوله: "ونحن حين نستخدم المصطلحات الجديدة نقول إنه أسلوب يتميز بالغياب، أي الإيحاء بعدم تدخل البشر في صنعه، على نحو ما ذكر ماثيو أرنولد عام 1886م من أنَّ يد الطبيعة هي التي كتبت شعر وردزورث"8.

ومن النصوص السابقة نعلم أنَّ الدَّلالات التي أشير إليها في المعجم لا تعارض ولا تناقض بينها، بل تصب جميعها في دلالة واحدة، أقصد دلالة الكتابة الصفرية على التحرر من كل القيود، فهي في النَّص الأول كتابةً متحررةً، وفي النَّص الثَّاني بريئة من حيَّلِ الصَّنعةِ والأدبِ الكلاسيكي فهي غير مرتبطة بتقاليد أو قيم أو أعراف متفق عليها.

هكذا أثبت المصطلح البارتي وجوده فهو مصطلح يدلُّ على الغموض ويوحي به؛ لأنَّ الأسلوبَ الَّذي تكون به الكتابة في درجة صفرية إنما هو أسلوب يتميز بالغياب، وهذا الغياب يوحي بالعدمية والفقدان والضَّياع، كذلك فإنَّ هذا الغياب في الأسلوب هو الذي شكلته يد الطبيعة.

هذه الدَّلالات المذكورة آنفاً توحي بما أملته فلسفة رولان بارت الوجودية عليه في صياغة مصطلحه "الكتابة الصفرية"، والدليل على هذا أن الوجودية العدمية التي اتبعها بارت لا تؤمن بإله فليس أمامها إلا الطبيعة، والطبيعة عندهم حمقاء تفعل ما تريد، وأفعالها وتصرفاتها ليس لها دلالة ولا وجه، وعليه يمكننا القول بأن: "درجة الصفر في الكتابة"، إنما هو مصطلح صنعته وجودية بارت العدمية الحرة، التي لا ترى في الكون شيئاً يفعل إلا الطبيعة الحمقاء، كما هي رؤية شوبنهاور ونيتشه من قبل.

وأمَّا إديث كريزويل النَّاقدة الأمريكية فقد ذهبت إلى أن رولان بارت كان يسعى في مراحل كتاباته الأولى إلى "تعرية الأدب والأفكار من البلاغة الزائفة ومن كُلِّ تركيب لا لزوم له، ليصل إلى قرارة الأسلوب، فيكشف عن جوانب من النَّماذج العليا لِلاَّوعْيِ"9، ومن ناحية أخرى "أراد بارت أن يتجاوز أصوله البرجوازية الصغيرة بواسطة التعبير عن إنسانيته بعون من الأدب الملتزم، متأثراً في ذلك بسارتر وغيره من مفكري اليسار، إذ على الرغم من الخلافات النظرية بين هؤلاء المفكرين إلا أنَّهم آمنوا بأن الأثر السياسي والاجتماعي للكُتَّاب يمكن أن يُثوِّر المجتمع، وكانت أفكارهم الماركسية -عندما نضم إليها الكتابة البيضاء (أي الكتابة التي تتجرد من الأفكار المقبولة)، التي استخدمها كامو في رواية "الغريب"- تتمثل في التعبير المطلق عن شغف الكتابة الَّذي يمزق الوعي البرجوازي، ويعيد توظيف الكتابة على نحو دال يظهر -في النهاية- "أن الشَّكل الموضوعي للأدب وأسلوبه يحتويان أخلاق لغتهما"10.

وبتأملِ النُّصوص السَّابقةِ نلحظ أمرين:
أولهما: وقوع ما يدل على أنَّ الدرجة الصفرية عند بارت هي الدَّرجة التي تكون الكتابة فيها متحررة من كل أنواع القيود، دينية كانت أو تاريخية أو اجتماعية أو سياسية، أو غيرها.
والدَّليلُ على أنَّ الكتابةَ الصِّفرية كتابة تتحرر من القيود أن هذه الكتابة تمزق الوعي البرجوازي الذي يؤمن بسلطات نافذة كسلطة العقل، كما أنَّها تمارس نوعاً من الكتابة ذي شكل وأسلوب يمثلان أخلاق لغتهما المتحررة.
والثاني: أنَّ بارت حاول تجاوز أصوله البرجوازية بعون من الأدب الملتزم، والمقصود به الأدب الوجودي، فهو أدب يلتزم موقفاً معيناً تجاه قضية من القضايا، وقد أُطلق على الأدب الوجودي أدب الالتزام، وفي هذا دلالة على نزوع بارت إلى الوجودية وتأثيرها فيه بصورة مباشرة، باتخاذه أفكارها سبيلاً إلى نقده الموجه إلى المجتمع.

وأمَّا جون ستروك فقد حرَّر في مقاله عن رولان بارت بياناً عن مفهومِ الكتابةِ الصفرية، وذلك بعدما أثبت أن: "الكتابة في درجة الصفر" جاء ليوضح كيف يمكن أن يكون تاريخ متمركس معاصر للأدب الفرنسي، وأن ذلك لا يمكن إلا بعد التَّخلص من هيمنة الكتابة البرجوازية الَّتي هي الكلاسيكية الفرنسية كما يدعوها بارت.

وتحرير جون ستروك يبين أنه بعد انهيار البرجوازية الفرنسية في منتصف القرن التَّاسع عشر ظهرت أنواع جديدة من الكتابة، وكان على الكُتَّاب أن يتخذوا موقفًا التزاميّاً بطوليّاً تجاه النوع الكتابي الذي سيتخذونه نموذجاً لكتاباتهم، وهذا هو موقف سارتر وأتباعه من الوجودين الملتزمين، ولكن فريقاً من الكُتَّاب الوجوديين حاولوا البحث عن نوع "فارغ" أو "محايد" من الكتابة، وكامو هو المثال الذي يعطيه بارت؛ لأن كامو كان في ذلك الوقت قد انفصل عن صديقه اليساري السابق سارتر، وهي كتابة بلغت من لا شخصانيتها أنها بدت وكأنها منفصلة عن أي موجبات تاريخية على الإطلاق. لكن ذلك -بطبيعة الحال- وهم من الأوهام، فقد كانت تلك الكتابة وثيقة الالتصاق بالتاريخ"11.

يبين النص السابق أن النَّموذج الذي اختاره رولان بارت مثالاً للكتابة الصفرية هو ألبير كامي، والمعروف أن كامي كما ذكرنا قبل ذلك هو أديب وفيلسوف الثورة واللاَّمعقول، وعليه فإننا نفهم ضمناً أن الكتابة الصفرية التي اعتُبر كامي نموذجاً ومثالًا لها إنما هي كتابة اللاَّمعقول والثورة والتمرد، وهذه كلُّها من قِيَم الوجودية وأخلاقها.

دلالة الكتابة في درجة الصفر على وجودية رولان بارت العدمية

 إنما هي دلالة مطابقة؛ فالوجودية العدمية متحررة من كل القيود، ورافضة لكل ما سلف، وكذلك الكتابة في درجة الصفر متحررة من كل القيود، وترفض كل ما سلف، فالكتابة الصفرية تطابق الوجودية الحرة، وهي النوع الأول من الوجودية، أما النوع الآخر فهو الوجودية المقيدة، وهي التي تركن إلى وجود إله للطبيعة فتسلم أمرها إليه، وإن كان الإله الذي تتخذه الوجودية المقيدة هو إله من صنعهم وفكرهم، فهو عندهم خرافة نافعة يركنوا إليه متى أرادوا ذلك.

وقبل أن ننتقل إلى بيان الغموض المحيط بمفهوم اللَّغة عند بارت، أشير إلى ما يقطع يقيناً بأن الكتابة عنده إنما هي نوع من الغياب والقتل والإخفاء، وذلك في قوله: "إن الكتابة بانطلاقها من العدم حيث يبدو الفكر متعالياً لحسن الحظ على ديكور الكلمات، قد اجتازت كل أحوال الترسيخ التدريجي: فكانت في البدء موضوعاً للتأمل، ثم موضوعاً للفعل، وأخيراً موضوعاً للقتل، وبلغت اليوم تحولها النهائي وهو الغياب، الغياب داخل هذه الكتابات المحايدة التي ندعوها هنا "الكتابة في درجة الصفر"12.

هكذا أقرَّ رولان بارت بأن الكتابة قد وصلت منتهاها وذلك بدخولها حيز الغياب والغموض، وهذا هو ما تسعى إليه الكتابات الأدبية الحديثة في غمار عالم لا يعلم من أين جاء؟ وإلى أين يذهب؟ كما يعتقد الوجوديون.

وإذا كان الأمرُ كما مرَّ بنا بالنسبة لمفهوم الكتابة الصفرية، فإن الغموض نفسه قد سيطر على المفهوم البارتي للغة، وهذا يتضح من قوله: "اللغة جملة من المقررات والعادات... إنَّها مثلُ حلقة حقائق مجردة وخارجها فقط تبدأ كثافة القولِ الوحيدة بالترسب... وهي بكلمة: الاتساع لتناسق مطمئن... إنَّها مناخ الفعل وتعريف الممكن وانتظاره، إنها ليست موضعاً لالتزام اجتماعي، ولكنها استجابة فقط دون اختيار... كما أنَّ اللَّغةَ بالنسبةِ للكاتبِ ليست سوى أفق إنساني، تترسخ في مداه ألفة ما، وهي سلبية تماماً"13.

الملحوظ في التعريفات التي ذكرها رولان بارت للغة أنَّها تفتقد الصَّراحة والبيان والوضوح في كثير منها، أما الغموض فهو المسيطر بصورة واضحة، فلا نكاد نستقر على فهم معين، حتى يفاجئنا بارت بتعريف جديد يكتنفه الغموض كما ورد في النصوص السَّابقة، وهذا دليلٌ آخر على اكتناف الغموض بعض المفاهيم الأساسية عند رولان بارت.

ولعلنا نلحظ في قوله السَّابق عن اللغة: "ولكنها استجابة فقط دون اختيار"، ما يشير صراحة إلى وجودية بارت في تعريفه للغة، فهي كالطبيعة عنده تفعل ما تشاء، وما البشر بالنسبة لها إلا كالريشة في الهواء يحركها كيف ومتى شاء.

كذلك الحال في تعريف رولان بارت الأسلوب، فنجده يقول عنه: "الأسلوب لا مبال وشفَّاف بالنسبةِ إلى المجتمع، وهو مسيرة الشَّخص المغلقة وليس نتاج اختيار على الإطلاق أو تأمل حول الأدب، إنَّه الجزء الخاص لما هو شعائري... الأسلوب -على التَّحديد- هو ظاهرة نظام توريثي وتحول مزاج... ليس الأسلوب سوى استعارة، إن الأسلوبَ بأصله البيولوجي، يتموضع خارج الفن، أي خارج العقد الَّذي يربط الكاتب بالمجتمع..."14.

وهذه الإشارات السَّابقة في كلامه عن الأسلوب لا توحي بأكثرَ من التَّعارض والتَّناقض والغموض، وتداخل المصطلحات بصورة لا تخفى على العين، فمثلاً كيف يكون الأسلوبُ -على حد قوله السابق- ليس نتاج اختيار على الإطلاق أو تأمل حول الأدب، في حين أنه من ناحية أخرى، ليس الأسلوب سوى استعارة، كذلك كيف يكون الأسلوب لا مبالٍ وشفاف بالنسبة إلى المجتمع، وهو من ناحية أخرى يتموضع خارج الفن، أي خارج العقد الَّذي يربط الكاتبَ بالمجتمع، فأنَّى يلتقيان، ولا أدلَّ على الغموض والاضطراب والتعارض مما سبق.


الهوامش
1. البنيوية وما بعدها من ليفي شتراوس إلى دريدا: تحرير، جون ستروك، ترجمة د. محمد عصفور، ضمن منشورات سلسلة عالم المعرفة، فبراير 2006م، ص: 69.
2. المصطلحات الأدبية الحديثة: دراسة ومعجم إنجليزي ــ عربي، د. محمد عناني، الطبعة الثالثة، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، مصر، 2012م، ص: 24.
3. دليل الناقد الأدبي: د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي، الطبعة الثالثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، 2002م، ص: 260.
4. دليل الناقد: ص: 399.
5. معجم المصطلحات: ص: 23.
6. السابق: ص: 24.
7. السابق: ص: 24.
8. السابق: ص: 24.
9. عصر البنيوية: تأليف: إديث كريزويل، ترجمة: جابر عصفور، الطبعة الأولى، دار سعاد الصباح، الكويت، 1993م، ص: 250.
10. السابق: ص: 251.
11. البنيوية وما بعدها: ص: 69.
12. الكتابة في درجة الصفر: رولان بارت، ترجمة: د. محمد نديم خشفة، الطبعة الأولى، مركز الإنماء الحضاري، سورية، 2002م، ص: 10.
13. الكتابة في درجة الصفر: ص: 15-16.
14. الكتابة في درجة الصفر: ص: 17- 18- 19.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها