غفوة

محمود محمد القليني


وقفتْ توازن بين خطوتها وبين الهوة التي تضيق ثم تتسع ما بين عربتي القطار المسرع، ويظهر من خلال الهوة لمحات خاطفة من القضبان الحديدية، سرعة القطار واهتزازه جعلاها عاجزة عن الاستقرار في مكانها، ذراعها الأيسر محاط بطفلة صغيرة ذابلة متدلية الرأس، وباليد الأخرى كيس مملوء بالنعناع وعلب الكبريت، التي تبيعهما لركاب القطار، وبين الآونة والأخرى أثناء سيرها توشك الطفلة أن تنزلق منها، فكانت ترفع ركبتها إلى أعلى لتعيدها إلى مكانها، تتفزع الطفلة صارخة حينما تصطك عربتا القطار محدثة صوتاً حاداً.

انتهزت الأمُ الفرصة، وقفزتْ بقدر ما تستطيع وبسرعة قبل أن تتسع الهوة، ولكن سرعة القطار المفاجئة دفعتها إلى الوراء، ولو لم ترتكز على جانبها الأيسر بجانب العربة لسقطت في الهوة، ارتفع صراخ الطفلة من الألم فقد أوشكتْ ضلوعها الهشة أن تتحطم.

بعد أن اعتدلتْ في وقفتها وهي بين الأيدي التي امتدتْ إليها لتنقذها من السقوط في الهوة بين عربتي القطار، تحاشتْ النظر إلى الوجوه، وبحثتْ عن مكان خال بين الأقدام لتُسكت الطفلة التي لم يتوقف بكاؤها، جلستْ ووضعت الكيس تحت فخذها وضمتْ طفلتها إلى صدرها وانحنتْ عليها، وبحثت عن ثديها، وأخذت تجذبه، وأخرجته ممصوصاً تنتشر العروق الزرقاء فيه، ووضعت حلمة سوداء كقطعة الطين المتشققة من العطش في فم طفلتها المفتوح، أحاطتْ أصابع الطفلة الصغيرةُ النحيفةُ الصفراءُ بثدي أمها، وهي تنظر إلى الوجوه المتطلعة إليها، أما الأم فقد استمرت في عصره، وشعرت باسترخاء وهي تشعر بالقطرات الدافئة تنساب منها إلى الفم الماص بنهم، أسندت ظهرها وأراحت اليد الأخرى إلى الأرض، وأسلمت عينيها للنوم في غفوة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها