الخنجر.. إعجاز خرافي في النّقش العماني

د. بسمة سيف

التحف الخليجية

وسط بنايات حديثة من الزجاج اللامع يقف "شارع التراث " فريداً متميزاً بطابعه الخليجي الأصيل ومشغولاته اليدوية الفنية من الفضيات والسجاد الشرقي والسيوف والخناجر، خاصة "الخناجر العمانية" ذات الطرز الجميلة والزركشة الرقيقة، والإبداع المتألق، وبعد أن كان هدفها الأوحد "الدفاع عن النفس" أصبحت موروثاً شعبياً، وإبداعاً فنياً وهوية وطنية، هذا الشارع الذي يعـد أكبـر معرض للتحـف الخليجية، تأتيه بضائعه من كل دول الخليج، وزبائنه يأتون من كـل دول العالم، فقد أصبح سوقـاً عالمياً للتحف الشرقية الخليجية.
على بعد أمتار قليلة من "قصر الحصن" رمز الحكم في إمارة أبو ظبي قديماً يقع شارع التراث في الإمارات، هذا الشارع يكاد يكون مخزناً عالمياً للتحف الشرقية الخليجية، سواء من الإمارات أو غيرها من الدول القريبة، وعلى مدى سنوات تراصت المحال جنباً إلى جنبٍ في شكل فني بديع وأنيق، لتصنع شارعاً اسمه الآن "النصر"، حرفته الأولى بيع وشراء الآثار القديمة من التحف الشرقية.

في أواخر الستينيات كانت بداية شارع النصر عندما استقر فيه بعض تجار العاديات، وصناع التحف اليدوية من بعض أنحاء الخليج، وسرعان ما اجتذبت تلك الصناعات التقليدية أنظار المواطنين والأجانب المقيمين في الإمارات، لتجد تلك الصناعات والمشغولات الفنية الرائعة حظها ويرتفع ثمنها. ووسط بنايات حديثة من الزجاج اللامع، وبين عمارات أقرب إلى ناطحات السحاب، تحولت محلات شارع النصر إلى مزارات للسياحة الفنية لراغبي الشراء من الفضيات، والسجاد، والسيوف، والخناجر، والبنادق، ودلال القهوة وغيرها.

التحف اليدوية أصبحت زينة كل منزل اليوم، وحلم كل فرد خاصة الصناعات الشرقية منها، وفي الإمارات حيث الدخل والأجور مرتفعة للأفراد تجد هذه الأشياء في كل مكان، وتمثل الفضيات نسبة 90% من حجم المشغولات والتحف الموجودة بجانب ما يصنع على نطاق محلي في الشارقة ورأس الخيمة، وبعضها قديم يعود عمره إلى قرن كامل أو أكثر، وقد توارث التجار بعض القطع الأثرية أبا عن جد، ورغم أنهم تجار يبيعون ويشترون تلك التحف، إلا أنهم كثيراً ما يفضلون الاحتفاظ بما يشترونه أحياناً عندما يعرفون قيمته أكثر من أي شخص آخر.

أكثر ما يجذب النظر هو الخناجر العمانية، التي تعد أحد الموروثات الشعبية العديدة التي يتمتع بها الشعب العماني، وقد أصبحت سمة بارزة في الشخصية العمانية وجزءاً أساسياً في الزي الوطني العماني في كل مناسبة؛ إذْ يعرف الخنجر العماني بأنه الرمز أو الشعار الرسمي الوطني للسلطة، وإلى جانب ذلك فإن الخناجر العمانية تشير إلى مقدرة العمانيين على توظيف المعطيات البيئية وتحويلها إلى أشياء تنسجم مع طبيعة الشخصية العمانية، في اعتزازها بتاريخها وحفاظها على أصالة السلوك العربي.

يعد الخنجر العماني بلونه الفضي الرائع، وشكله الإبداعي رابطة التراث العريق ورمز الكرامة والرجولة للعمانيين الذين لم يتخلوا عن تلك الهوية مع اختلاف الثقافات وتطور العصر، وظل يشكل جزءاً مهماً من تراثهم الأصيل، وهو لهم الشعار اللامع البارز منذ مئات السنين، وله المكانة العليا فيما بينهم، حيث غمده الفضي عليه زخارف بأشكال هندسية جذابة المنظر، ويشده إلى الوسط حزام ينسج بالفضة وعليه نقوش وزخارف فضية رائعة المنظر، وتلبس الخناجر العمانية في المناسبات الاجتماعية والوطنية والاحتفالات الرسمية والخاصة.

الخنجر أهم مقومات الأناقة

يندر مشاهدة رجل عماني لا يتمنطق خنجراً في حفل رسمي، ولاسيما لدى الوجهاء والأعيان، وفي المناسبات الوطنية أو الخاصة كعقد قران أو زفاف أو تكريم أو غيرها، وإن كان الخنجر قديماً يحمل أساساً للدفاع عن النفس؛ فإنه حالياً يعد من مقومات الأناقة ولوازم الوجاهة التي لا غنى عنها، فالعماني يحرص على اقتنائه أو إهدائه كتحفة فنية رائعة، وحسب العرف والتقاليد فإن الصبي يتم تقليده أو تشريفه بالخنجر عندما يبلغ مبلغ الرجال، فضلًا عن أن الخنجر يصنع تقليدياً ليتناسب مع مكانة مرتديه بشكل دقيق، وذلك حسب جسم صاحبه، وأسلوبه الشخصي في ارتداء الملابس، وجميع هذه التفاصيل يهتم بها صانع الخنجر أثناء قيامه بصنع وتشكيل الخنجر لمن يطلبه.

في الماضي كان العمانيون يلبسون الخنجر فوق الدشداشة بشكل يومي لحماية أنفسهم، غير أنهم اليوم يلبسونه في المناسبات الرسمية والاحتفالات الشعبية الخاصة، ويُلبس الخنجر عادة مع حزام حول خاصرة الرجل، وعندما يلبس الرجل العماني الخنجر فوق الدشداشة لا بد من أن يلبس مصراً أو عمامة، وهي التي تلف حول الرأس، والخنجر حين يلبس يتم تحزيمه بشال، والشال عبارة عن قماش ذي لون أنيق يلف حول خاصرة الرجل، وتلبس هذه الملابس في المناسبات الرسمية والخاصة مثل مناسبات الخطوبة وعقد القران، وفي معظم المناسبات الرسمية يلبس الرجل الخنجر مع الحزام فوق الدشداشة ومعهم المصر مع عباءة شفافة مزينة بخيوط ذهبية أو فضية، وتسمى هذه العباءة باسم البشت.

يمثل كل خنجر مهارة فنية فردية أو مستقلة لمن صنعه يدوياً من ممتهني الصناعات الحرفية الزخرفية الذين توارثوا تلك المهارة الفنية المتأصلة من آبائهم، كما توارث أصحاب الصناعات الحرفية التفصيلات المعقدة لصناعة الخنجر ومشغولاته الفنية من أجيال متعاقبة في مهارات الفنون الحرفية كل في مجاله، أما اليوم فقد تم تطوير تلك الخبرات الفنية والمهارات وفق الأذواق المستحدثة وما يصاحب الحداثة والتكنولوجيا أيضاً.

الخناجر تصنع غالباً من الفضة الخالصة التي كانت تستخلص من صهر النقود الفضية المتداولة قديماً بعد فصل الحديد عنها، وهي عملية دقيقة قد تستغرق أكثر من شهر غير أن الوقت الأكبر كانت تستغرقه عملية النقش الزخرفي على صفائح الفضة، وتعتبر صناعية الخنجر العماني من أهم وأبرز الصناعات الحرفية الزخرفية بسلطنة عُمان التي ما زالت تشكل وجوداً مميزاً في كل المناسبات.

 يعتبر الخنجر العماني لوحة إبداع فنية تشكيلية متكاملة ومتجانسة يتجلى الجمال في كل نقطة منها وتنطق بالإبهار من كل الزوايا، وكثيراً ما توقف السياح العرب والأجانب خلال زياراتهم للسلطنة كي يتأملون في فن الإبداع الذي صاغته الأنامل العمانية لتقف احتراماً وانبهاراً لذلك الإبداع، وربما الإعجاز الخرافي الذي أنجز هذه التحفة القيمة ذات الدلالة الواسعة، ولا غرابة في ذلك؛ لأن صياغة الخنجر العماني فعلا تتطلب الكثير من الجهد والوقت والدقة والمهارة، وكثيراً ما يحرص العديد من السياح على اقتناء الخنجر العماني قبل العودة إلى بلادهم لتبقى معهم خير ذكرى تشكيلية، وصورة تعكس مدى العطاء الذي أبدعته الأيادي العمانية في مختلف المهن والمشغولات الفنية والحرف التقليدية.

إن كثيراً من التفاصيل الدقيقة تنبع من كون العمل كله يتم يدوياً، فنجد المبدع المختص في هذا المجال ينغمس في هذه الحرفة الفنية بكل اهتمام وتركيز؛ لأن كل الأجزاء تتسم بالدقة وتحتاج إلى مواصفات خاصة، وتمييز بين الصناعات التي تختلف من صناعة إلى أخرى ومن شخص إلى آخر، حيث إن العمانيين بمجرد ما يرون شكل الخنجر يميزون صناعته من أي منطقة، وكذلك أي شخص قام بصناعته، فالفنان العماني يمارس هوايته ومهنته وفق ضوابط صارمة حتى تبرز التحفة الفنية أخيراً بين أنامله لتتحدث بكل لغات العالم، وتنقل للعالم أجمع تراثاً عريقاً لشعب عنوان حياته الأصالة.

إعجاز خرافي في النقش العماني

الخناجر العمانية ليست نوعاً أو شكلًا واحداً، فهناك العديد من المسميات والأنواع، وذلك بحكم انتشار صناعة الخناجر في أجزاء عديدة من السلطنة، والتنافس بين صناعها في إظهار مهاراتهم الفنية في نقش وزخرفة هذه الخناجر التي تحمل مميزات بكل منطقة، عبر الأشكال والأنواع التي تشتهر بها، ولكل نوع منها مميزاته المنفردة وخطوطه الخاصة به، التي تظهر في المقبض، أو القرن وهو أعلى جزء من الخنجر.

هناك النزواني الذي يتميز بكبر الحجم مقارنة بالصوري الذي تُغرز في قرنه مسامير صغيرة على شكل نجمة أو متوازي أضلاع، وهناك أيضاً الخنجر السعيدي الذي ينسب إلى العائلة الحاكمة، والخنجر الصحاري وغيره، والاختلاف يأتي من حجم وشكل الخنجر، ونوع المعدن الذي يصنع منه، أو يطلى به، ويتكون الخنجر العماني في العادة من عدة أجزاء تتمثل في:

القرن (المقبض)؛ وهو الجزء العلوي أو المعجون أو القرن المكسو في بعض الأحيان بالفضة، وهذا الجزء يعد أغلى مكونات الخنجر، ويختلف من منطقة إلى أخرى، وأغلى المقابض ثمناً تلك المصنوعة من قرن الزراف أو الخرتيت.

أما الجزء الثاني فيعرف بالطوق، وهو موضع النصل (شفرة الخنجر)، ويختلف من ناحية القوة والجودة، ويعد من محددات قيمة وأهمية الخنجر. الصدر أو الطمس، وهو عبارة عن صفائح وأسلاك دقيقة، ويكون مزخرفاً بنقوش دقيقة من الفضة.

القطاعة (الغمد)، وتمثل الجسد أو غمد النصل، وغالباً ما تكون من الجلد المنقوش بأسلاك الفضة، أو تتكون من صفائح فضية مزخرفة بنقوش دقيقة جداً، في حين يغطي الجزء الخلفي من الخنجر بالمخمل أو الصوف.

أما نطاق الخنجر العماني؛ فإنه يصنع عادة من الجلد المزين بأسلاك فضية وفقاً لطول النطاق، وبأسلوب دقيق ينم عن مهارة الصانع المبدع.

والنصل: وهو (شفرة الخنجر) يختلف من ناحية القوة والجودة، ونجد مقتني الخناجر يتنافسون بجودة النصل وقوته، من حيث لو ضرب به آخر قطعه أو أحدث به تشققات وخدوشا، فينال النصل بذلك التميز، ويبقى في المكانة العالية حتى ولو قام صاحبه بتغيير الخنجر؛ فإنه يضع النصل في الخنجر الجديد اعتزازاً بجودته.

أما صدر الخنجر (أعلى الغمد) عادة ما يكون مزخرفاً بنقوش فضية تنم عن التراث الشعبي والفنون الشعبية المتوارثة، وتصل تلك النقوش إلى الجزء الأخير من الخنجر وهو القطاعة (عمد النصل)؛ إذ يعتبر هذا الجزء هو الأكثر جاذبية في الخنجر من حيث مظهره الرائع الذي يكون مطعماً بخيوط فضية.

وأما (القطاعة)؛ فإنها تصنع من الجلد العماني الذي يستجلب من نزوى وبهلاء، أما الفضيات فكانت تأتي من دبي، ولكن الآن أصبحت تتم الصناعة بالفضة العمانية؛ لأنها موجودة في السلطنة بكثرة، كما أن الاستيراد الآن قليل.

وأما القرون المستخدمة في صناعة الخنجر فهي قرن الزرافة، وقرن العاج الأبيض والصندل، حيث إن القرن يميز الخناجر العمانية من ناحية المنظر والجودة، وكذلك من ناحية السعر، فالخنجر المصنوع من قرن الزرافة هو أجود أنواع الخناجر العمانية وأغلاها سعراً، ويكون الطلب عليه أكثر من غيره.

أما حزام الخنجر فإن صناعته تكون من الجلد وينقش بالزخارف الفنية الملونة والزركشات الفضية، ويستغرق 20 يوماً ليصنع يدوياً، أما النصل فقد كان يتم استيراده حتى السبعينيات من دبي، لكنه الآن أصبح متوفراً محلياً في صلالة، وإبراء، وسنا.

إن الخنجر العماني بشكله المتكامل يتميز بالقرن والنصل والقطاعة والصدر، ومن ثم الطوق (أسفل المقبض)، وهناك قول سائد بين العمانيين في وصف الخنجر بأنه (زينة وخزينة) في آن واحد، وهم يولون الخنجر أهمية كبيرة، حيث إنه يعد عنواناً للأصالة والانتماء والتراث الجميل، وكان وما زال معهم الحاضر الدائم في كل المناسبات، وعلى ذلك نجد أن الكبار يحرصون كل الحرص على تعريف أبنائهم بأهمية الخنجر وكيفية اقتنائه وارتدائه، حتى إن البعض منهم يقدمه كهدية لابنه الصغير منذ نعومة أظافره، حيث يتم حمل الخنجر في مختلف المناسبات.

هناك طريقتان لنقش الخنجر هما:
◅ النقش بالقلع: وفيه يستخدم مسمار دقيق لنقش الصفيحة الفضية، حيث يتطلب ذلك صبراً ومهارة لتظهر النقوش كعمل فني متقن.
◅ نقش التكاسير: وفيه يستخدم الصانع خيوط الفضة في تزيين الخنجر، وهذه من الأمور المستحدثة في صياغة الخنجر.

 


أهم المراجع:
1. د. سهيل الراشدي – شارع التراث.. تاريخ وانبعاث – الدار الميمونة للطباعة والنشر 2001 م.
2. Dubai, Art. "Home - Art Dubai". Art Dubai

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها