الفن هو اللغة التي يُعبّر بها الأفراد عَن أَفكارهم وَمَشاعرهم وَالبِيئة المُحيطة بِهم، ويلعب الفن دورًا مهمًا ومؤثِّرًا في تنمية وإثراء وعلاج عملية التواصل والتعبير، فالفن هو الوسيط الناجح في علاج الاضطرابات النفسية المُختلفة التي يُعاني منها الكثير من الأفراد، ويُعتبر فن الماندالا أحد أشكال الفنون الزُخرفية، وواحد من عِلاجات الطب البديل المُرتبطة بِفن الرسم والتلوين، ويُوصي عُلماء النفس بِأهمية فن الماندالا وفوائده الكَبيرة على صِحة ونفسية الكِبار والصغار.
مفهوم فن الماندالا: الماندالا هي نوع من أنواع الرُسومات والتصاميم الزُخرفية والتي تأخذ في الغالب الشكل الدائري، وكلمة مانديلا كلمة سِنسكريتية معناها الدائرة السحرية؛ حيث يعتمد هذا الفن في الأساس على وجود نقطة مركزية في منتصف الرسم تنبثق منها كل الرسومات والأشكال الهندسية الأخرى التي يتم إدراجها في الرسم، ويعتمد الماندالا على رسم التفاصيل الدقيقة دون خطة مُسبقة للشكل النهائى؛ أي أننا لا نرسم بهدف الوصول إلى شكل نهائي.
فن الماندالا؛ النشأة والأصول: ترجع نشأة فن الماندالا للفنون القديمة؛ فيرى البعض أنّ أصل هذا الفن يعود إلى الهند، ثم انتقل بدوره إلى منطقة التيبت، ثم انتشر بعد ذلك إلى الكثير من دول العالم1، وكانت له رمزية ومعان كثيرة في الحضارات القديمة؛ فهو عبارة عن مجموعة من الرموز والدوائر العريضة والمُتناغمة في ما بينها استُعملت من قِبل الهندوسيين والبوذيين للتعبير عن صورة الكون الميتافيزيقي، وكان لهذا الفن أصول فلسفية، وقدّم عالم النفس كارل يونج (1975-1961م) تفسيرًا رائعًا لهذا الفن؛ حيث يرى أن الماندالا ترمز إلى المركز أو الهدف أو التفسير؛ فهو يعود بكل شيء إلى نقطة مركزية مُفردة، كما يرى أنّ التركيب الدائري للماندالا يَرمز للذات أو النفس، وهي المُحصِّلة لكُلية الفرد مُشتملة الشعور واللاشعور وهي المُفوَّضة بِحمل كل ما هو ذات معنى أو هدف يسعى الفرد لتحقيقه.
الماندالا؛ تصميمات ورسوم رائعة: تأخذ رسومات الماندالا أشكالًا متنوعة رائعة، تعتمد بشكلٍ كبير على الأشكال الهندسية وفق ثلاثة أنظمة؛ الأول على شكل مربعات متداخلة مع بعضها البعض، والثاني على شكل دائري لا بداية ولا نهاية له، والثالث يجمع بين النظامين السابقين، أي المربع والدائرة، وتتنوّع أشكال الماندالا فقد تكون رسومات أو لوحات، وقد تكون رسومات مُؤقّتة تُرسم على الرمال، ويتم إزالتها خلال وقت قصير لبعض المناسبات، ويتم رسم الماندالا عن طريق تعبئة الدائرة الرئيسة ببعض الأشكال الهندسية والرموز، وكذلك الأنماط المُتناظرة باستخدام أنظمة الألوان المختلفة، ويحتاج رسم وتلوين الماندالا إلى تركيز جسدي وعقلي كبير؛ فيجب التركيز على الاندماج أثناء التلوين والحصول على الهدوء والانسجام، ولا يشترط بمن يقوم بها أن يكون رسّامًا ومُتمكنًا من تِقنيات الرسم، ويُستخدم في هذا الفن مُختلف الألوان المائية والزيتية والخشبية وغيرها، كما يمكن رسم الماندالا على مواد مختلفة سواء البلاط أو الحجارة أو الرمال، غير أن أشهرها المُنفّذة على الورق، والتي يجب مُراعاة نوعية هذا الورق ومدى تحمُّله لنوع الألوان المُستخدمة، ويمتاز فن الماندالا بأنّه مُناسب لجميع الفئات العمرية.
فن الماندالا وفوائده العلاجية: يُعتبر فن المانديلا أحد أَشكال العِلاج بالفن، وَقَد عَرّفت الجَمعية الأَمريكية العِلاج بِالفن بِأنه: "تَخصُّص في العِناية بِالصِحة العَقلية يستفيد مِن الآلية (العَملية)، الإِبداعية في الفن لِدَعم وَتَعزيز الرّفاهية الحِسّية وَالعَقلية وَالعَاطفية لِلأَفراد مِن كَافة الفِئات العُمرية"2، ويمتاز فن المانديلا بأن له فوائد علاجية ونفسية كثيرة؛ فهو نوع من الرياضة الذهنية التي تُساعد على الاسترخاء وتفريغ الطاقة السلبية من الذهن، فتلوين الماندالا ينشط الفص الأيمن من المخ، مما يُجهِّز الجسد للتخلُّص من ضغوط الحياة المختلفة وتوتراتها، ولذلك فهو وسيلة للتخلُّص من التوتّر العصبي والقلق والاكتئاب؛ لأنه يستدعي الاستغراق الفكري مما يدخل الفرد في حالة تأمُّل وهدوء نفسي يُؤدِّي إلى السلام الداخلي والرضا، ويُؤكّد خبراء الصحة النفسية أن رسم الماندالا لمدة نصف ساعة يوميًا يُمكن أن يُزيل التوتُّر والضغوطات التي يَشعر بها الإنسان على امتداد النهار بطريقة سهلة مِما يُساعد بِدوره في تخفيف الآلام المُختلفة وزيادة الشعور بالسعادة3، كما يُساعد فن المانديلا على تقوية الذاكرة والتركيز، حيث يعتمد على الدقة في رسم وتلوين المساحات الصغيرة؛ وهذا يُساعد بدوره في تعزيز الإيجابية والتأمل والإبداع، واكتشاف الذات ورؤية جديدة للمحيط4.
كما أثبتت الدّراسات الطبية الحديثة أن فن الماندالا يعمل على تعزيز جهاز المناعة، وتحفيز إفراز هرمون الملاتونين الذي يُساعد على النوم كما يُبطّئ من شيخوخة الخلايا، كما يُعتبر المانديلا مفيد بشكلٍ خاص للأشخاص الذين يُعانون من الأمراض المُزمنة كمرض السرطان؛ حيث يؤثر على مَشاعرهم ويُحسّن من حالتهم النفسية والمزاجية، ويساعد كذلك الأشخاص الذين يرغبون في الإقلاع عن التدخين.
الماندالا والطفل: يعتبر فن الماندالا من أهم أساليب العلاج التكميلي للأطفال الذين يُعانون من الاضطرابات المُختلفة، خاصة الذين يعانون من اضطراب طيف التوُّحد وفرط الحركة وتشتُّت الانتباه؛ فَهو يُحسِّن الحَالة المَزاجية للطفل وَيُقوِّي الصِحة النّفسية؛ وذلك لأَنّ تَنفيذ تَصميماته مِن أَفضل تَدريبات اليَقظة الذهنية التي أَكدت الكَثير مِن الدراسات عَلى فَعاليتها الفَائقة في تَقوية الصِحة النَفسية، كَما أنه مُفيد في عِلاج القُصُور الإدراكِيّ وَفَرط الحَركة وَقِلة الانتباه عند الأطفال؛ فيمتاز فن الماندلا بأنه فن مُحفِّز للعين، فهو يتميز بأشكاله المُتداخلة وخطوطه المُتناسقة والمُتشابكة وبألوانه المُميّزة، مما يُساعد الطفل على التركيز وتهدئة الأفكار المُتكرِّرة لديهم، كما أن رسم وتلوين الماندالا يُساعد الأطفال على التعامل مع المشاعر المُختلفة بشكلٍ أفضل، إذ يُمكنهم التعبير عن أنفسهم من خلال الفن والألوان، وتساعد رسوم المانديلا كذلك المُتخصّصين في نفسية الطفل من قراءة وتحليل تفاصيل شَخصيته، مما يُفيد بشكلٍ كبير في تشخيص كل حالة واكتشاف العلاج المُناسب لها.
وأخيرًا؛ فَإنّ فن الماندالا لَه أَبعاد فنية وَنَفسية وَتَرفيهية وفلسفية كبيرة، وَقد نَجح الماندالا في تَحقيق نَتائج إِيجابية كَعلاجٍ بديل لِبَعض المُشكلات وَالأَمراض النَفسية كَالقَلق وَالاكتئاب، وَالإِجهاد والضغط العصبي، ويجب الاهتمام بفن رسم وتلوين المانديلا خصوصًا للأطفال لدوره الكبير في تنمية الخيال والشق الإبداعي، والحفاظ على الحالة النفسية والعقلية والبدنية السليمة.
هوامش:
1. شاكر عبد الحميد: الأسس النفسية للإبداع الأدبى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992م، ص: 79-80.
2. سامية محمد صبري، فاعلية استخدام العلاج بالفن (الرسم) في التخفيف من الوحدة النفسية لدى عينة من طلاب الجامعة.
https://arttherapy.org/becoming-art-therapist
3. كامي بزيع، نعمة المعرفة (ما تبحث عنه يبحث عنك)، مؤسسة شمس للنشر والإعلام، ص: 284-285.
4. خالد خضر أحمد، العِلاجُ بالفَنّ: أنشطةٌ عَملية، ص: 214-215.