رُواد القصة القصيرة.. أعمارهم قصيرة أيضاً

د. مفيده سليمان عبدالله


لا شك في أن القصة القصيرة وريثة الحكاية، ومعها انتقل القص من المشافهة، إلى التدوين، وبذلك لم يعد المؤلف مجهولاً، بل صار معروفاً باسمه الصريح الذي ينشر إلى جانب نصه، وهذا بفضل الصحافة التي غيرت الكثير من المفاهيم حول فنون الحكي والقص.


ومن الجدير بالذكر أنه أثناء مراجعتنا لسير حياة رواد ومؤسسي القصة القصيرة في العالم وجدنا أن أكثرهم من أصحاب الأعمار القصيرة، وهذه مفاجأة غير متوقعة! وحزينة أيضاً! لهذا فضلنا الكتابة عنهم لأن حياتهم كانت ثرية ومدهشة بالفعل. فخلال مدة قصيرة لا تتجاوز نصف القرن قدم كل من هؤلاء العباقرة إنجازات خلدت سيرهم الحياتية وأعمالهم الأدبية في سجل الإبداع على مر العصور.

وسوف نبدأ بعرض سير أساطين القص بحسب ما بلغوه من العمر، مع مراعاة تاريخ الميلاد.


الكاتب الأمريكي (إدغار آلان بو Edgar Allan Poe) ولد في (19 يناير 1809)، وتوفي في (7 أكتوبر 1849)؛ أي عاش أربعين عاماً وبضعة أشهر- وفي هذا العمر بدأ كتاب القصة بالرحيل- أما سبب وفاته فيعود إلى الإدمان.

كتب (بو) في مجالات الرواية والشعر والنقد الأدبي، ولكنه اشتهر بقصصه التي تجمع بين عوالم الرعب وأجواء الغموض، لهذا تكثر في قصصه الأحداث الغريبة، والمصادفات غير المتوقعة، لاسيما في الخواتم المفاجئة. وقد حرص هذا الكاتب الذي قرع أبواباً لم تفتح من قبل على هذا الأسلوب المتفرد لجذب القراء قدر استطاعته؛ لأن ازدياد عدد القراء يرفع مبيع عدد الصحف التي كان ينشر فيها، وبذلك يقنع هيئة التحرير بشراء المزيد من قصصه المميزة، فقد كان (بو) من أوائل الكتاب الأمريكيين الذين لم يكن لديهم عمل غير الكتابة، ولهذا لم تكن الظروف المالية مستقرة لهذا الكاتب سيء الحظ، وبالنتيجة انعكس الأمر على حياته المضطربة منذ طفولته، فقد توفيت والدته وهو طفل صغير، ثم تخلى والده عنه، وهذا ما قاده إلى الحانات في سن مبكرة.

ويعد (بو) المعلم الأول للأدب البوليسي في العالم، وما زالت قصصه مصدراً لتعلم كتابة القصص البوليسية، أو قصص الرعب التي ما زالت رائجة حتى اليوم.

ومن الجدير بالذكر أن أشهر قصائد (بو) حملت عنوان (الغراب)، أما قصصه الأشهر فهي: (القلب الواشي)، و(الحشرة الذهبية)، و(القط الأسود).

الكاتب الأمريكي (جاك لندن Jack London) ولد في (12 يناير 1876)، وتوفي في (22 نوفمبر 1916)؛ أي عاش أربعين عاماً وبضعة أشهر، كقرينه (بو).

انحدر (لندن) من أسرة فقيرة، وعمل في سن مبكرة في المصانع والمناجم، ثم تطوع في الشرطة البحرية، ثم انتقل للعمل في مهنة أقرب إلى ميوله، وذلك عندما اشتغل مراسلاً صحفياً.

كتب (لندن) المقالات، والسير الذاتية للشخصيات المشهورة، وسيناريو الأفلام السينمائية. أما أهميته ككاتب فتأتي من كتاباته في مجالات الإبداع الأدبي، وذلك بعدما كتب الرواية والقصة القصيرة، ولم يحقق الشهرة ذاتها كشاعر.

ونتيجة ظروفه الحياتية الصعبة منذ سن المراهقة عانى الكثير من الأزمات النفسية، وتوفي بسبب الإجهاد الشديد، وهناك من يرجح أن الإدمان قاده إلى الانتحار في لحظة يأس، وإذا صح هذا الزعم يكون (لندن) الكاتب الوحيد الذي انتحر من بين رواد القصة القصيرة.

كتب (لندن) عن التفاوت الطبقي في المجتمعات الصناعية، وكان يدعو إلى الإنصاف في العلاقة بين الإنسان والإنسان، أو بين الإنسان والطبيعة، وهذا ما دفعه إلى كتابة الكثير من القصص، وأبطالها من الحيوانات.

وصرح (لندن) أن روايته (أهالي قعر المجتمع) أهم رواياته، أما روايته الأشهر فهي (العقب الحديدية) التي أصبح بفضلها الكاتب الأكثر شعبية في أمريكا آنذاك، رغم أنها رواية لا تخلو من المباشرة والتنظير الفكري.

الكاتب الروسي (نيكولاي غوغول Nikolai Gogol) ولد في أوكرانيا بتاريخ (20 مارس 1809)، وتوفي في روسيا بتاريخ (21 فبراير 1852) حيث قضى معظم حياته، وقد عاش اثنين وأربعين عاماً وبضعة أشهر.

ويعد (غوغول) من كبار آباء الأدب الروسي في العهد القيصري حيث بلغ ذروة أمجاده في تلك الحقبة، ففي ذلك العهد اجتمع أهم أدباء روسيا الذين جمعتهم الصداقة أمثال: ليو تولستوي، وأنطون تشيخوف، وفيدور دوستوفسكي صاحب المقولة الشهيرة عن أدباء روسيا: (كلنا خرجنا من معطف غوغول).

كتب (غوغول) في مجالات الرواية والمسرح، والنقد الأدبي، والشعر، ولكنه تميز بالقصة القصيرة خاصة، وتعد قصصه علامات فارقة في الأدب العالمي.

وتميزت أعمال (غوغول) بالواقعية، حيث كتب عن البيئة التي عاشها وعرفها منذ طفولته. ونجد أن معظم شخصياته من الفقراء، والفلاحين، وصغار الموظفين، ولم تخل بعض أعماله من الدعابة اللطيفة أحياناً، والنقد الساخر أحياناً أخرى، وهذا ما ميز أسلوبه في عصره.

ومن أهم أعمال (غوغول) رواية (النفوس الميتة)، ومسرحية (المفتش العام)، وبالطبع قصته الشهيرة (المعطف).

الكاتب الفرنسي (غاي دي موبسان Guy de Maupassant) ولد في (5 أغسطس 1850)، وتوفي في (6 يوليو 1893)، وقد عاش اثنين وأربعين عاماً وبضعة أشهر كـ(غوغول). وتوفي في إحدى المصحات العقلية بعد معاناة قاسية مع المرض.

تتلمذ (موبسان) على يد الكاتب المعروف (جوستاف فلوبير) وكتب في مجالات الرواية، والقصة القصيرة. ولكن مكانته الأدبية التي بلغها تأتي من قصصه التي برع فيها حتى عدت نماذج للقصة القصيرة الناجحة. وقد اجمع النقاد على تميز تلك القصص بحبكتها المتينة، وشخصياتها المقنعة، والتطور الموضوعي للحدث، والتدرج للوصول إلى النهاية المقنعة.

ومن أشهر ما كتب (موبسان) رواية (بيير وجان)، ومن أهم قصصه القصيرة (العقد) و(في الحقول).

الكاتب الروسي (آنطون تشيخوف Anton Chekhov) ولد في (29 يناير 1860)، وتوفي في (15 يوليو 1904) وعاش أربعة وأربعين عاماً وبضعة أشهر- لهذا يعد الأطول عمراً بين النخبة التي اخترناها- وقد توفي متأثراً بمرض السل الذي عانى منه في سنواته الأخيرة.

كتب (تشيخوف) في مجال المسرح والقصة القصيرة والرواية، ويعد من كبار الأدباء الروس، ومن أفضل من كتب القصة القصيرة على مستوى العالم. وقد كتب مئات القصص القصيرة، وتعتبر الكثير منها إبداعات فنية كلاسيكية، وتمتاز بانتقادها اللاذع لسلبيات المجتمع والأفراد، كما لا يخلو بعضها من الطرافة والسخرية.

أما مسرحياته فكان لها أعظم الأثر في تطور هذا الفن في أوروبا، بل تعد من كلاسيكيات المسرح في عصرها.

ومن أهم مسرحياته (بستان الكرز) ومن أبرز قصصه: (حلة النقيب)، و(وفاة موظف)، و(الشقاء)، و(الحرباء).

لقد ترجمت أعمال هؤلاء الكتاب إلى معظم اللغات المعروفة في العالم، ومنها العربية بالطبع، وتدرس كنماذج لكبار كتاب القصة القصيرة في العالم. وما زالت تطبع حتى اليوم لأنها لم تفقد قيمتها نظراً للقيمة الفنية والأدبية التي تحملها لذلك ما زالت محافظة على مكانتها في المكتبة الأدبية العالمية.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها