على التخوم!

قراءة في "تطريز شامي" لسعد الدين كليب

د. محمد عبدو فلفل


المعنيُّ بمسيرة سعد الدين كليب الشعرية يدرك أنه شاعر له حضوره في مشهد الشعر العربي المعاصر مع أنه ليس من الشعراء المكثرين، ولعل مما يفسر ذلك أن سعد الدين كليب لا يكتب شعر المناسبات، ولا الإخوانيات، بل لعله لا يكتب إلا عندما يعتمل في نفسه فيوض شعرية يضيق بها صاحبها، فيسكبها نصاً يمثل جوهر الشعر كما يتراءى لمخياله وقريحته، وفي هذه الحالة غالباً ما يتسم المنجز الشعري بالصدق الفني، أو بالواقعية الفنية، وغالباً أيضاً ما يوضع في النص كل عنصر في السياق الذي يجعله يؤدي الدور المنتظر منه، مما يجعل العنصر فاعلا ومنفعلا مع سائر عناصر تشكيل القصيدة التي تكتب صاحبها، ويغلب في هذه الحالة أيضاً أن يتكامل في النص أضلاع الثالوث الذي يكُوِّن جوهر الفعل الشعري، وهي تشكيله اللغوي، ومكونه الموسيقي الإيقاعي، ومحمولاه الدلالي والانفعالي، فكل واحد من أضلاع هذا الثالوث يستدعي في الشعر الحق صاحبيه استدعاء تلقائياً، لا تشعر معه بأن أحد هذه المكونات عبء على صاحبيه.
 


يضاف إلى ما تقدم أن سعد الدين كليب شاعر حداثي كان التراث بأبعاده الجمالية والشعرية مصدراً أساسياً من مصادر تكوينه الثقافي العام، لذلك ترى نصه -ولو كان خليلياً- يضرب بِنَسبٍ مكين إلى تقنيات شعر الحداثة المتمثلة في أبرز تجلياتها بالنزوع إلى الغموض واستيحاء الأساطير والرموز والنص الديني، ولعل خير ما يمثل ويوضح هذا التصور للفعل الشعري عند سعد الدين كليب قصيدتُه الموسومةُ بـ"تطريز شامي"، فهذه القصيدة على ما تقوم عليه من موسيقا خارجية مضبوطة بوحدة الوزن والقافية، ومحروصٍ على تنوعها الايقاعي بتنوع بنياتها النحوية اتسمت بقدر لافت من الغموض، والتكثيف، والتلاحم العضوي بين مختلف مكوناتها، إضافة إلى استلهامها الأساطير والرموز والنص الديني في تكوين نسيجها وفي إنجاز محمولها الانفعالي المتباين الأطياف، وكأن هذه القصيدة قامت على المزاوجة بين الشعريتين1 الشفهية والكتابية، بل لعلها على التخوم الواصلة بينهما، فهي قصيدة منبرية صوتية، تميل جملها إلى القصر، ووضوح علاقاتها النحوية، وتخاطب السمع بقدر ما تخاطب الذهن والبصر، ووضوحُ العلاقات النحوية في بنيتها يوهم بوضوح مزعوم لا يلبث أن يزول إذا ما أردت الكشف عن مرامي النص واندياحاته الانفعالية، وذلك لما يواجهك فيه من غموض مثير ومغر بالكشف عما ينطوي عليه، وهذه القراءة تسعى إلى توضيح ما جاء في هذا التقديم، ولا باس في أن نمهد لها بذكر القصيدة موضوع الدرس رغبة في تفاعل المتلقي التفاعل الأمثل مع هذا القراءة التحليلية:
قلبي على حجرٍ في الشام سُكناه
لو لم يكن حجراً كنّا عبدناه
من طينة النور لا نارٌ تزايله
ومن نبيذٍ بنهد الحور سُقياه
أَلقت به ربَّة الينبوع في بردى
فانشقَّ سبعاً كما لو مسَّه الله
قال النبيّون هذا كوكبٌ عجَبٌ
يا ليته بلدٌ يدنو فنحياه
فكان ما كان ممّا لم يكن قدراً
فسيفساءٌ بصدر الشرق تيّاه
من كلّ سُرَّةِ أنثى فيه أُحجيةٌ
من كلّ شهوةِ غاوٍ فاغرٍ فاه
من كلّ سجدةِ خمَّارٍ بحانته
من كلّ جذبةِ صوفيٍّ بنجواه
من كلّ مئذنةٍ تزقو حمائمُها
وكلّ غبطةِ ناقوسٍ بنُعماه
من كلّ لوعةِ نايٍّ باح من شغفٍ
أو ناح من وجعٍ أو صاح ربَّاه
من نرجسٍ ياسمينٍ حنظلٍ حبَقٍ
ومن شقائقَ للنُّعمان تنعاه
عاصٍ على الريح قد شفَّ الفرات به
كأنّه آبِقٌ يزهو بتقواه
فسيفساءٌ تقول الجنُّ في ولَهٍ
كأنّما شاءه المولى لسُكناه
لو قبلةٌ تسَع الدنيا بلذَّتها
ما كان أَطلقَها إلا مُحيّاه
هذي الشآم ولو فسَّرتُ نكهتَها
لاغرورقَ الصخرُ واخضرَّت سجاياه
ما بالُ معدنِها يصطكَّ في أَلمٍ
وليس من أحدٍ يدنو ويرعاه 
كأنّ دُمَّلةً في القلب! لو جبلٌ
لناءَ من حمْلها واهتزَّ رُكناه 
قلبي على حجرٍ في الشام سكناه
لو لم يكن حجراً كنّا عبدناه

لعل حصيلة تفاعل الذائقة مع هذا النص تنتهي إلى أنه يصدر عن انتماءٍ مُــبَـرَّأ من ملوِّثات النبرة الشعارية؛ لأنه ليس حصيلة أدلجة مفروضة، ولا صنيعة لها، بل هو الانتماء المفروض على الإنسان، والملبّي لحاجات نفسية أساسية في حياته، فالانتماء على ما يترتب عليه أحياناً من مسؤوليات جسام، أو تبعات غير مرغوب فيها قدر في بعض دوائره، وهو في الوقت نفسه عامل من عوامل تماسك الشخصية واستقرارها، وذلك لأن الإنسان كائن منتم بالضرورة، ولأن الآخر لن ينظر إليك، أو لا يتعامل معك إلا على أنك منتمٍ. والجدير بالذكر أن النص الذي بين أيدينا أنجز رؤياه الانتمائية هذه مشبوبة بمختلف مشاعر الولاء والوفاء والإعجاب، والقلق والأسف والأسى، وقد عبَّر عن هذه الرؤيا عناصر لغوية تمثل بؤراً لهذه الأحاسيس المتباينة المتلاحمة، وذلك ضمن فضاءات من المعجز الأسطوري، والعجائبي الإدهاشي، إنها مغالاة الفن في الحلم والرفض والقبول والرجاء والتمني.

عن هذا المفهوم للانتماء تصدر رؤيا هذا النص، وعليه تقوم، وقد تعامل الشاعر مع عناصر تشكيله اللغوي في نصه هذا على أنها مثيرات، لا علامات دالة مقيدة بدلالات محددة، ذلك أن العنصر اللغوي في الاستعمال عامة، وفي الشعر خاصة لا ينجز دلالته النصية، أو حمولته الانفعالية بمكوناته الذاتية فقط، بل بتفاعل هذه المكونات مع مكونات النص الأخرى في السياقات الجزئية العارضة، وفي السياق النصي العام.

بهدي من هذه المقولات تتلقى المخيلة، قصيدة "تطريز شامي" ولاسيما مطلعها الذي يُـعَـدُّ مركز الثقل فيها، وأما سائر الجزئيات فحواش عليه، أو ارتدادات له، وخير دليل على ذلك وأوضحه أن أبيات القصيدة عامة فيما بعد لا تكاد تخلو من ضمير يعود على الحجر المذكور في البيت المطلع، أو من لوازمه، وذلك عامل أساسي من عوامل تماسك القصيد، ووحدتها العضوية، فجاءت كأنها سطر شعري واحد، أو جملة شعرية واحدة في النص التفعيلي:
قلبي على حجر في الشام سكناه
لو لم يكن حجراً كنا عبدناه

فما طبيعة هذا القلب؟ وما علاقته بالحجر الموصول به؟ بل ما طبيعة هذا الحجر؟ ولمَ جُعِـلَ في الشام؟ وهل هو من معبوداتنا حقاً؟ وما طبيعة عبادتنا له في حال وجودها؟ ولماذا أُفْــرِد ضميرُ المتكلم في الشطر الأول وجُمِعَ في الثاني؟ كل هذه التساؤلات ترى هذه القراءة نفسها مطالبة بالإجابة عنها طمعاً في أن تكون قراءة مقنعة بما تقوم عليها من مقولات وأفكار.

الظاهر أن القلب في (قلبي على حجر) ليس مقصوداً به فقط تلك العضلةُ القابعةُ في الصدر، وأن دلالته تترجَّحُ بين ذلك، وبين دلالة سياقية تتمثل بما يعتمل في هذه الجارحة من انفعال، وقد عُبِّـرَ بالقلب عن الانفعال لما بينهما من علاقة المحلية، فالقلب مقام الانفعال ومركز استشعارنا له، وفي ضوء ذلك تغدو العلاقة بين القلب والحجر علاقة سببية لا مكانية، وكأن البنية العميقة لهذا التركيب بنية إضافية حذف منها المضاف، وأقيم المضاف إليه مكانه، وذلك على غرار قولهم: "الليلةَ الهلالُ" وهم يريدون: الليلة طلوعُ الهلال، وكأن البنية العميقة لعبارة (قلبي على حجر) هي: خوفُ قلبي على حجر، أي بسبب هذا الحجر، أو عطف قلبي عليه، أي بسببه، والذي سوغ إقامة المضاف إليه مقام المضاف، والاستغناء به عنه، ما بينهما من علاقة المحلية كما قلنا، إضافة إلى أن هذه الإقامة جعلت عبارة (قلبي على حجر) مع قصرها بَـــوَّاحة بمختلف ما يعتلج في نفس المنشئ من مشاعر الحب والخوف والأسى والحنو والتفجع والتوجع، إلى غير ذلك من أحاسيس يمكن أن تعتمل في قلب ينتمي صاحبه إلى حجرٍ محروص عليه، ومضنونٍ به، ومُـتَـعَـجَّبٍ منه، ومُتألَّم مما هو فيه.

ومن نافلة القول أنّ هذه الحالة الانفعالية التي يعيشها الشاعر ويصدر نصه عنها ليست خاصة به، بل هي أيضا لسان حال كل منتم انتماء مبرأ من ملوثات النبرة الشعارية، لذا أفرد الشاعر ضمير المتكلم في (قلبي على حجر) وجمعه في (كنا عبدناه) وذلك إضافة إلى ما لهذا التناوب بين إفراد الضمير وجمعه من استجابة لطبيعة التكوين الموسيقي، ولا سيما التصريع.

وبعد هذا الاكتناه لطبيعة القلب الانفعالية في عبارة (قلبي على حجر) يغدو طبيعياً ألا يكون هذا الحجر جرماً مادياً جامداً، وفي النص من القرائن ما يؤنس بأنه مرموز به للوطن ببعديه البشري والحضاري، لذلك جعلت المخيلة الشام سكناً لهذا الحجر؛ لأنها قطب الرحى في هذا الوطن، وصاحبة القرار الأهم في شأنه، ويؤنس أيضاً بهذه العلاقة الرمزية بين الحجر والوطن نسبة السكنى إلى الحجر، والسكنى تشي بالسكينة، وهي حاجة أساسية من حاجات النفس البشرية، إنها السكينة المحلوم بها تضميداً لجراح الوطن وأهله، يضاف إلى ذلك ما للفظ السكنى من دور في إنجاز التصريع الذي يمثل حجر الأساس في تحديد مسار إيقاع النص عامة، ومما يؤنس أيضا بأن الحجر في هذا النص مرموز به للوطن أن جُعِلَ حجرا مشغولا من طينة النور، ومسقيا بنبيذ نهود الحور.

ولعل ما للحجر الأسود من تقديس وجلال في الذاكرة الجمعية هو الذي جعل المنشئ يختار الحجر رمزا لوطنه، يؤنس بذلك أن الحجر الوطن في المخيلة الشعرية جدير بوفاء وولاء بالغين حد العبادة في الجلال والسمو، فعبارة (لو لم يكن حجرًا كنا عبدناه) عبارة مخاتلة، فهي نفي في معرض الإثبات، نفي لعبادة التأليه والتقديس ببعده الديني، وإثبات لعبودية الولاء والانتماء المبرأ من كل زيف أو ادعاء.

وكأن عبادة الولاء الانتمائيةَ هذه حددت للنص فيما بعد الحقل الدلالي لمفرداته المفتاحية (الله والرب والمولى، والتقوى والسجدة، وربة الينبوع، والحور، وطينة النور، والنبي والصوفي، والمئذنة وحماماتها، والناقوس وغبطته) فهذه الألفاظ بغض النظر عن سياقاتها التركيبية مثيرات لما يكتنزه النص من حالة الاحتفاء بالمنتمى إليه، حالةٌ يعبر لسانها بكل ما في معجمه من مفردات السامي والجليل والأسطوري العجائبي المدهش، إضافة إلى ما في هذ الكلمات المفتاحية من تمجيد لجلال الحجر الوطن، ولما بين المتنوِّع من مكوناته البشرية من تعايش، وتآخ، أو انفتاح حضاري أزلي:
من كل سرة أنثى فيه أحجية
من كل شهوة غاو فاغر فاه
من كل سجدة خمار بحانته
من كل جذبة صوفي بنجواه
من كل مئذنة تزقو حمائمها
وكل غبطة ناقوس بنعماه

من كل لوعة ناي باح من شغف
أو ناح من وجع أو صاح رباه
من نرجس ياسمين حنظل حبق
ومن شقائق للنعمان تنعاه

ولا يخفى ما للبنية النحوية لهذه الأبيات من دور في التنوع الإيقاعي للنص، فقد طغت عليه جمل اسمية محذوفة المبتدأ؛ لأنه من لوازم الحجر الوطن الحاضر بلوازمه في السطر والصدر، وقد أفضى تتالي هذه التراكيب المتشابهة إلى تقطيعات إيقاعية متوازنة ومتناغمة، كما أبرزَ هذا التتالي بوضوح تدفق الفيض الانفعالي الذي يقوم عليه النص، وكأن ذروة ذلك كانت في هذا المقطع، لذا تراه يستغني في تماسكه بمحموله الانفعالي عما كان يجب أن يكون بين متعاطفاته من حروف العطف.

واللافت أن مخيلة المنشئ عولت أيضاً في إنجاز ما هي فيه من حالة انفعالية على ما في مخزونها الثقافي من عبارات أو مفردات لها في الوجدان الجمعي ما لها من إعجاز، وعجائبية:
ألقت به ربة الينبوع في بردى
فانشقّ سبعاً كما لو مسّه الله

فالراجح أن عبارة" انشق سبعا" تتفيأ في سحرها ظلال إعجاز قول تعالى: "اقتربت الساعة وانشق القمر" [القمر1]، ولعلها تعتمد في إدهاشها أيضا على ما للعدد سبعة من إيحاءاتٍ عجائبية في الثقافة العامة، فعجائب الدنيا سبع، وكذلك السماوات وأيام الأسبوع، وتسبيع جداول بردى بغض النظر عن حقيقته لا يقتصر إيحاؤه هنا على ما للعدد سبعة من العجائبية والإدهاش، بل يتجاوز الأمر ذلك إلى وفرة النعم التي حُبِيَت بها الربوع، فطمعت فيها الجموع، لذلك تَـصَوَّرَ مخيالُ الشاعر شامه غارقة في أوحال آلام تصطك منها الصخور، وتهتز لها الجبال:
هذي الشآم ولو فسرتُ نكهتها
لاغرورق الصخر واخضرّت سجاياه
ما بال معدنها يصطك في ألم
وليس من أحد يدنو ويرعاه
كأن دمّلة في القلب! لو جبل
لناء من حملها واهتز ركناه

ولعل اهتزاز ركني الجبل من آلام شام الشاعر صورة تمتح من معين سحر قوله تعالى:" لو أنزلنا هذا القرآنَ على جبل لرأيتَه خاشعًا متصدعًا من خشية الله" [الحشر 21]، وفي هذا البيت من الحذف النحوي ما يمثل استجابة لمحموليه الدلالي والانفعالي ولمكونه الموسيقي، فالبنية العميقة لعبارة(لو جبل لناء من حملها) هي: " لو حمل هذه الدملة جبل لناء من حملها" ولكن الشاعر حذف المسند، وهو الفعل(حمل) لأنه مفهوم من قرينة لفظية في عبارة "من حملها" وثانيهما وهو الأهم فنيا، أن المسند إليه، وهو الفاعل الحامل أي الجبل هو الأهم في هذا السياق، أي أن النكتة هنا في الحامل لا في الحمل، وذلك على ما بينهما من علاقة الضرورة واللزوم، وشبيه بذلك تقديم الشاعر للمسند إليه في قوله:
لو قبلة تسع الدنيا بلذتها
ما كان أطلقها إلا محياه

فهذا البيت كسابقه فيه عدول مألوف عما هو مقرر من أن حرف الشرط (لو) لا يدخل إلا على الجملة الفعلية، أي أن (لو) لا بد أن تباشر فعلا، ولكن هذا الفعل قد يحذف كما لاحظنا قبل قليل، أو قد يتأخر عن فاعله لأسباب دلالية انفعالية تتمثل بأن يكون المسند إليه أي الفاعل هو الأهم في التعبير عن مراد المنشئ، فيقدمه على فعله، ومن هذا القبيل المثل المشهور (لو ذات سوار لطمتني)2، وقول عمر بن الخطاب لأبي عبيدة (لو غيرُك قالها)3 معاتباً إياه على مقولة صدرت منه، ومن هذا القبيل قول شاعرنا: "لو قبلة تسع الدنيا بلذتها"، فالبنية العميقة لهذه العبارة هي (لو تسع قبلة الدنيا بلذتها...) ولكن الشاعر قدم وأخر، قدم القبلة وأخر ما أسند إليها من سعتها للدنيا، لأن القبلة هي الأهم في المخيلة، بدليل أنها أعادت ذكرها ثانية (ما كان أطلقها إلا محياه)، ولا شك أن هذه القبلة ما كان لها أن تسع الدنيا بلذتها، وما كانت لتكون بهذه المنزلة في المخيلة الشعرية لو لم يكن مطلقها محيا الحجر الوطن الذي يمثل حجر الزاوية في هذا النص.

ولعل فيما تقدم بيانا لاستثمار النص لمعطيات البنية النحوية للجملة العربية استثمارا يشي بالصنعة بقدر ما يشي بالتلقائية والعفوية، وهو ما يمكن تسميته بالصنعة المطبوعة، وقد تمثلت معالم من ذلك بتنوع في البنية النحوية للنص، لذا جاءت جمل أبياته الخمسة الأولى تامة الأركان، وموزعة بين الفعلية والاسمية، تلتها سبعة أبيات، أساسها، جمل اسمية محذوفة المبتدأ في الغالب كما لاحظنا، وكأن هذه الأبيات دفق شعوري اكتمل ليبدأ دفق آخر، أنجزه مقطع أخير مكتمل الجمل. والظاهر أن تنوع البنى النحوية في هذه القصيدة جعلها ذات إيقاع حيوي نشط ومتلون، فيه نكهة الموسيقا الجنائزية موسيقا تعظيم الوطن وتمجيده، والخشية عليه، والقلق من مستقبله المجهول

ومما يستوقف المرء في "تطريز شامي" أنه يكاد يخلو تماما من التراكيب الإنشائية بالمفهومين البلاغي والنحوي، وفي ذلك تأييد وتوضيح لمقولة، مفادها أن الشعر الحق خطاب إنشائي، ولو كان خبري التراكيب، فمن وجهة تداولية "وظيفة اللغة هي التأثير في العالم وصناعته، وهي ليست مجرد أداة للتفكير، أو لوصف الأنشطة الإنسانية المختلفة"4، والمتكلم ينجز أحياناِ الأحداث لحظةَ التفوه بما يُعَبِّـرُ عنها، وهو ما يعرف بنظرية الأفعال الكلامية5، ولا شك أن الشعر الحق يغير الحال الانفعالية لمتلقيه، وهو لا يصف انفعالات منشئه، أو يخبر عنها، بل ينجزها، أو يعيشها، والكلام في الشعر هو انفعالات صاحبه، أو المعادل الفني لها، لذا لا نملك إلا أن نتأثر بها، وأن نتفاعل معها، وذلك عندما يتحقق الصدق الفني الانفعالي في النص، وعندما لا يستشعر المنشئ هذه الانفعالات حقيقة، أو لا يعيشها لحظة صياغته لها لا يؤثـِّــر في المتلقي التأثيرَ المأمول، لأننا ببساطة نتأثر بمن يتألم أمامنا، أكثر بكثير من تأثرنا بمن يصف لنا آلامه، أو يخبرنا عنها.

 


الهوامش: 1. أبرز معالم الشعرية الشفاهية أن تكون القصيدة منبرية ذات موسيقا خارجية، وداخلية مطربة ومثيرة، وتمتاز بقصر جملها ووضوح العلاقات النحوية والدلالية بين عناصرها، فالقصيدة في الشعرية الشفاهية تخاطب حاسة السمع في المقام الأول، أما الشعرية الكتابية فأبرز ما يميزها التكثيف الدلالي، وغموض العلاقة النحوية بين عناصر الجملة، وتعقيد هذه العلاقة، وتباين أسطرها الشعرية، أو جملها الشعرية طولا وقصرا، فالقصيدة في الشعرية الكتابية تخاطب حاسة البصر في المقام الأول، ويحتاج تلقيها إلى المزيد من إعمال الذهن، وعمق التفكير، انظر: أحمد محمد قدور، صور من التحليل الأسلوبي، ط1، دار الفرقان للغات، حلب، 2015، ص: 9، 15-16، 19، 41، 65، 141. وحسن البنا عز الدين: الشعرية والثقافة، ط. المركز العربي للثقافة، ٍبيروت- الدار البيضاء،2002، ص: 74.2. يُضْرَب لمن يُـهينه من هو أحط منه منزلة، أو للحر يُـهينه العبد. يريد لو كانت اللاطمة حُرَّة لكان أخفّ عليَّ3. قْال ذلك عمر بن الخطاب لأبي عبيدة بن الجراح معاتبا إياه، ذلك أنَ عمر رأى وهو في طريقه إلى دمشق أن يعود إلى المدينة لما سمعه من أن وباء ينتشر في دمشق، فقال له أبو عبيدة: أَفراراً من قدر الله تعالى؟ فقال له عمر: لو غيرُك قالها يا أبا عبيدة! نعم؛ نفر من قدر الله إلى قدره.4. مسعود صحرواي: التداولية عند العلماء العرب، ط1، دار الطليعة، بيروت، 2005، ص: 222.5. انظر: المرجع السابق، ص: 40-44.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها