الطراز التلقيطي والهوية المعمارية

د. محمد أحمد عبد الرحمن عنب

يُعرّف الطراز التلقيطي بأنه أحد الطرز المعمارية الأوربية الغربية، ويُقصد به لاتجاه نحو التجميع من مختلف الطرز لعمائر في الحضارات السابقة ودمجها معاً وإخراجها جميعاً في مبنى واحد، ولذلك يُعرف الطراز التلقيطي بالطراز التجميعي أو المقتبس، أو اللاتجاه في العمارة أو العمارة الانتقائية1، ويُعرف الطراز التلقيطي باللغة الإنجليزية Eclecticism وهو مشتق من اللفظ اليوناني اكيلتيكوس (κλεκτικός-Eklektikos)، ويعني (القدرة على الاختيار، اختيار الأفضل) ويُترجم هذا المصطلح إلى العربية بالاصطفائية أو الانتخابية؛ حيث يهدف إلى انتخاب عناصر من أساليب فنية سابقة وموالفتها على نحوٍ مدروس لإنشاء عمل جديد، فالتلقيطية هي مصطلح يستخدم لمزيج من عناصر من مختلف الأنماط التاريخية المعمارية، والفنون الجميلة والزخرفية، في عمل واحد2.
 

والطراز التلقيطي هو اتجاه في العمارة ظهر عندما سعى روّاد الحداثة في العمارة في منتصف القرن التاسع عشر إلى التحرر من تشدد الاتباعية (الكلاسيكية) ومن الحظوة التي نَالتها الابداعية (الرومانسية) في حنينها إلى العصر الوسيط وأطلقوا هؤلاء الرواد على أنفسهم اسم انتقائيين، وتردد استعمال مصطلح الانتقائية طويلاً حتى استبدل بمفهوم آخر، وهو عمارة الأساليب التاريخية أو مصطلح التأريخية Historisme، وقد عمل دُعاة الاتجاهين الانتقائية والتأريخية على اختيار عناصر من أساليب العمارة في الأزمان الغابرة وجمعها في عمل واحد بتآلف جديد غير عابئين بما كان للعنصر الواحد من مكانة في تآلف عناصر الأسلوب الذي يَنتمي إليه في الأصل3، وانتشر هذا الطراز من فرنسا إلى بقية دول العالم بما فيها العالم الإسلامي حيث أصبح العالم وحدة فنية مركزها باريس4، حيث ظهر هذا الطراز في عدد من بلاد أوربا الغربية وأمريكا وروسيا بين عامي 1830 و1850م واستمر حتى العقد الأول من القرن العشرين الميلادي5.
وأصدق تعريف لهذا الطراز تلك المقولة لأحد المؤرخين المعماريين 1873م ويُدعيFedor Dostoevskii حيث ذكر عن شكل العمارة الأوربية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بقوله: (كنت حقًا غير قادر على تحديد البنية الحالية، فهي نوع من الفوضى غير المنضبطة تماماً، وتُشكل اضطراباً شديداً في كل القواعد)6، كما عبّر عن الطراز التلقيطي المعمار الفرنسي سيزار دونيدالي Cézar Denis Daly (1811-1894م)؛ (على أنها خلاصة لأفكار الحضارات السابقة).


الشكل: توضيح للطرز المعمارية المختلفة فيما يسمي بشجرة العمارة، وقد اقتبس الطراز التلقيطي عناصر معمارية وتفاصيل زخرفية من كل هذه الطرز وجمعها في طراز واحد.
المصدر Source: A History of Architecture on the Comparative Method (Fifth Edition), London

 

أسباب ظهور هذا الطراز

وكان السبب في ابتكار هذا الطراز هو أنه عندما حدثت عملية الإحياء في أوربا انتشر نوعان من الطرز هما الإغريقي والقوطي باعتبارهما من أرقى الطُرز التي مَرّ عليها التاريخ إلا أنه قد حصل قلق متزايد من بعض المهندسين نَتَج عن عدم رضاهم بمحاولة تقليد هذين الطرازين فرَجع بعضهم إلى عمارة عصر النهضة والبعض الآخر حاول البحث عن طرز أخرى يُقلدها كالطراز الإسلامي والهندي وغيرها ونَتج عن ذلك هذا الطراز التلقيطي، ونجد أن معظم المباني في فترة في ق13-14هـ/19-20م تشترك مع بعضها في عدة طرز في آن واحد، ويُعتبر هذا الطراز من أكثر الطرز مسايرةً وانتشاراً للاتجاهات المعمارية في أوربا في تلك الفترة7.
وقد نشأت في العالم الإسلامي حُمى تقليد العمارة الغربية خاصة منذ أوائل ق13هـ/19م، باعتبار هذا مظهرًا من مظاهر مجاراة المدنية وحضارة أوربا، فكان الاهتمام بالشكل وطرازه وأعمدته وكرانيشه، وليس بالمغزى الحقيقي له ووظيفته والغرض منه، فأصبحت العمارة مأخوذة شيئاً ما من الطرز الأوربية المختلفة دون الرجوع إلى معلَم معين، ودون شخصية مُميزة8.

النقد الموجه للطراز التلقيطي

وجه العديد من مؤرخي العمارة النقد لهذا الطراز المعماري؛ حيث اعتمد هذا الطراز على أخذ عنصر من كل طراز واستخدامه في مبنى واحد، مما أفقد المبنى أسلوب الوحدة، وقد أساء هذا النوع للعمارة حيث أصبح المبنى عجيباً وغريباً، وقد اعتبر استخدام هذا النوع من الطراز استغلالا سيئاً لمفاهيم المباني التاريخية، حيث ازداد جهل الناس في الثقافة المعمارية، مع أن التنويع مطلوب في العمارة من حيث المادة واللون والملمس والطول والشكل والفتحات والحوائط وغيرها مع عدم المبالغة في التنويع حتى لا تتنافر الأجزاء وتتناقض أي يجب أن يبقى تنويع داخل الوحدة9، لذا وجب تحديد مفهومين مهمين هما التغيير والتطور في العمارة، فالتغيير يقصد به الخروج عن النمط المعتاد، أما التطور فهو إحداث إضافات تلائم المستجدات، وما حدث في العصور الإسلامية المتلاحقة هو تطور طبيعي وتلقائي نتيجة للخبرة المتراكمة، أما ما حدث خلال القرن التاسع عشر في دول العالم الإسلامي فهو تغيير جذري في النقل والاقتباس من الطرز المعمارية الغربية تبلور في صورة أَفقدت العمارة الإسلامية والمدن الإسلامية هويتها في القرن العشرين، ولذا فهناك بعض المعماريين من يَعتبر القرن التاسع عشر أسوأ العصور على الإطلاق في المجال المعماري إذ أدى الاهتمام فيه بثقافات العصور السابقة إلى التَنقل بين الطُرز والتلقيط والاقتباس من كل مكان دون وجود طراز مُوحد ومُميز لهذه الفترة.

وللأسف انتشرت التلقيطية بوجهها السيء القبيح في كل مناحي الحياة سواء العمارة أو الفنون أو حتى في العادات التي نقلناها نقلاً أعمى من الغرب، الذي نظرنا إليه نظرة إعجاب ودهشة، وتَنَاسينا أن الشرق وبالذات العرب كان لهم السبق في كل ميادين الحضارة، وأن الأوربيين تعلّموا من العرب فاستيقظوا وصنعوا عصر نهضتهم، وأصبحت العمارة مزيجاً من الأنماط المتنافرة منها ما هو متأثر بالعمارة التراثية، ومنها ما هو منقول عن العمارة الغربية التي غَزت وسيطرت على الساحة المعمارية، وأصبح التغريب مبدأ يَرمز إلى التقدم والتطور؛ ومن ثم أصبحت العمارة فاقدة لهويتها من خلال فقدانها لمقوماتها النابعة من القيم الإسلامية والمعبرة عن البيئة الطبيعية والاجتماعية وحتى المناخية.


هوامش
1.منال أحمد أسامة خليل: انعكاسات الثقافات الوافدة علي العمارة والعمران في مصر مع ذكر خاص لمدينة القاهرة (ضاحية المعادي)، رسالة ماجستير، كلية الهندسة، قسم العمارة، جامعة القاهرة، 1997م، ص: 162.
.2Whittick, A, 1974. European Architecture in the Twentieth Century. 1st Ed. New York: Leonard Hill Books. pp. 17–27, The Question of "eclecticism": Studies in Later Greek Philosophy, john M. Dillon and a.a .long, university of California press 1988,p 16
3.الانتقائية في العمارة والتصوير والنحت، الموسوعة العربية، ص: ٦.
4.كانت باريس تمثل قلب العالم المعماري؛ حيث كان يوجد بها مدرسة الفنون الجميلة، التي تعتبر واحدة من أولى المدارس المعمارية المهنية لتدريب الطلاب بطريقة صارمة وتزويدهم بالمهارات العلمية والمهنية، وكان المعلمون في المدرسة بعض من كبار المهندسين المعماريين في فرنسا، وكانت هذه الطريقة الجديدة في التدريس ناجحة جداً، وجَذبت الطلاب من جميع أنحاء العالم، ويرجع الفضل لهذه المدرسة في ظهور هذا الطراز.
Piles, J, 2005.A History of Interior Design. 3rd ed. London: Laurence King Publishing. pp.305–327.
5. للمزيد عن الطراز التلقيطي في روسيا وأوربا انظر:
William craft brumfield, a history of Russian architecture, Cambridge university press, New York. 1993, Mohamed kamalAlyKandil , an analysis of architectural styles in Cairo s downtown 1863-1914 , MSc, faculty of engineering , Cairo university, 2000, p. 298:303
6. جاءت هذه المقولة ترجمة حرفية باللغة الإنجليزية، والمقولة الأصلية هي:
You really can’t define our current architecture- It is a sort of disorderly messentirely, by the way, appropriate to the disorder of the present moment).
Fyodor Dostoevsky, A Writer's Diary Paperback, Gary Saul Morson (Editor, Introduction), Kenneth Lantz (Translator), Abridged, March 17, 2009.
7.عصام الدين عبدالرؤوف: اتجاهات العمارة المصرية من التراث إلى المعاصرة، رسالة دكتوراه، كلية الهندسة، جامعة الأزهر 1976م، ص: 65- 120.
8. خالدعزب: العمارة الإسلامية والتحول نحو الغرب، بحث على شبكة الإنترنت.
9. تُعتبر الوحدة من أهم مبادئ التكوين المعماري وهي شرط أساسي لكل الفنون... للمزيد انظر: عرفان سامي، نظريات العمارة، مقرر السنة الأولى لطلبة العمارة، طبعة خاصة، مطابع مؤسسة طباعة الألوان المتحدة، 1967م، ص:41-45.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها