السينما والفنون الدرامية

"وسائل التعبير الإنسانية"

د. السهلي بلقاسم


بالرغم من أن أصول أغلب الفنون التقليدية نشأت من أجل أغراض معيشية. فلقد اكتشف الإنسان فنون النحت والفخار والعمارة والتصميم الطباعي... لأغراض نفعية. كانت دائرة الفنون الدرامية تتسع لتعبر عن الحالات المزاجية والانفعالات النفسية والعاطفية الذاتية، لطبيعة البشر، ولطبيعة علاقتهم مع بعضهم البعض من جهة، ولطبيعة العلاقة بين الإنسان والطبيعة من جهة أخرى.

فكانت الدراما "DRAMA" بكل أشكالها التقليدية بدْءاً بالرقص وإيقاعات الطبول، وانتهاءً بفنون العروض الصورية الرقمية... انعكاساً للنشاط البشري ومظهراً من مظاهر التعبير البشري عن الهم الإنساني العميق.

 

 أصل الدراما:

يعتقد أرسطو في كتابه -فن الشعر- بأن أصل كلمة " DRAMA" يعود إلى الاشتقاق اللغوي من اللغة اللاتينية "Action" والتي تعني الفعل أو الحركة. وقسم أرسطو الفعل أو الحركة إلى مأساة "ragediaT"، الفعل الذي كان الإنسان يهرع إليه خوفاً من عقاب الآلهة، فيحاسب نفسه ويعاقبها بالأذى الجسدي الذاتي، طمعاً في قوة السماء "الآلهة" بأن تغفر له ذنبه المرتكب، الذنب والمخالف لقوة الطبيعة وقوانينها الصارمة. ويعتبر أرسطو "أوديب ملكا" "للشاعر الإغريقي "سوفو كليس" نموذجاً للمأساة الإنسانية. فيما اعتبر أرسطو الكوميديا "Comedia" نموذجاً لمظاهر الاحتفال والفرح، بتقديم قرابين للآلهة شكراً وتقديراً لها على نعمة العطاء الإلهي..

 السينما والمسرح:

لقد كانت السينما في بداياتها الأولى أقرب إلى العرض المسرحي المصور، بسبب افتقادها إلى العديد من تقنيات السرد الصوري، وغياب الصوت والمونتاج والتركيب والمؤثرات الصوتية والصورية وآليات العرض الصوري، وقاعات العرض السينمائي... غير أن السينما وبسبب تطورها التقني والتكنولوجي الرقمي، التطور الذي فرضته طبيعة العلاقة التنافسية بين السينما والتلفزيون والفيديو من جهة، وبين مختلف فنون العرض البصرية من جهة أخرى. إذ كان للسينما وتسجيل الصوت والفنون الإذاعية والتلفزيون والفنون الدرامية المختلفة تأثيرات عميقة عن طبيعة تطور بعضها البعض. تطور ساهم في امتلاك السينما لآليات صناعة سينمائية رقمية على مستوى مراحل الصناعة السينمائية، مرحلة ما قبل الإنتاج "Pre-Production"، ومرحلة الإنتاج "Production"، ومرحلة ما بعد الإنتاج "Post-production"، مراحل تستخدم فيها مختلف التطورات التكنلوجية الرقمية، التي عززت قدرات السينما وفن الفيديو على تطوير تقنيات السرد الصوري والصوتي...

 وتوازيا مع كل هذه التطورات المهمة في فنون العرض البصري، حاول المسرح المحافظة على عناصر عروضه التقليدية إلى حدّ بعيد. غير أن تقنيات العرض المسرحي باعتباره عرضاً بصرياً وسمعياً قد شهدت تطورات ملحوظة. فنحن مثلاً، يمكن لنا مشاهدة العرض المسرحي المعاصر، كما نريد نحن أن نشاهده طبقاً لسينوغرافيا العرض المسرحي والفضاء المسرحي وقوة الحضور الحي للممثل، وتقنيات الصوت والموسيقى والمؤثرات البصرية والصوتية. حتى أصبحنا نتحدث وننظر لمسرح معاصر، مسرح الصورة، واقترب بذلك العرض المسرحي إلى العرض السينمائي الذي نشاهده كما يريد لنا المخرج أن نشاهده. فنحن نشاهد في السينما الجزء المقتطع من واقع الإطار السينمائي اللقطة "SHOT" التي تعتبر أصغر وجدة بنائية في المشهد السينمائي، واقع محدد بأحجام "Shot''s size" طبقاً إلى السيناريو التنفيذي.

فالعرض المسرحي، هو عرض أقرب إلى الواقع، بينما العرض السينمائي عرض تداخلت في مجموعة من الحقول العلمية، منها علم الفيزياء فيما يتعلق بالمنظومة الإلكترونية لأجهزة الكاميرا، والعدسات الكبيرة والواسعة والعدسات المتعددة البعد البؤري "ZOOM". وعلم الكمياء في عمليات التحميض والطبع كان ذلك قبل 25 سنة، وعلم الميكانيك الذي طور من حركية الكاميرا السينمائية حتى إن الكاميرا استطاعت الآن أن تطير في السماء عبر تقنيات التصوير "DRON"1. كما طور علم الميكانيك وعلم الفيزياء من طرق العرض السينمائي.

كما اكتسبت السينما أهمية كبيرة في مسار تطورها، بالمقارنة مع العرض المسرحي، في الإمكانيات التي وفرها التركيب الصوري، في التداخل الزمني بين الحاضر والماضي والحاضر والمستقبل، وسرد القصة السينمائية عن طريق العرض المتوالي والمتوازي للأحداث.

 لغة المسرح الجديد:

لقد اكتسب العرض المسرحي الجديد المقدرة على الاندماج في مختلف الفنون المعاصرة، وسيطرة عليها من خلال توظيف العرض المسرحي لمختلف الفنون الحركية الرقص والموسيقى والبانتومايم2، الصورة والمؤثرات الصورية والمؤثرات الصوتية، وفنون الإضاءة والألوان والأشعة الضوئية. وعليه فإن أحد أهم وأقدم الفنون الدرامية التقليدية المسرح، وجد نفسه في علاقة إعجاب وتقارب أحياناً، وفي أحيان أخرى ضمن علاقة تكامل ناجحة مع التكنولوجيات الرقمية الجديدة. بالرغم من الميزة السحرية التي اكتسبها المسرح "فالمسرح هو المكان الوحيد في العالم، الذي لا يمكن فيه التواصل عبر إيماءة واحدة مرتين بنفس الطريقة "ففي المسرح القديم كان المتفرج يشارك في تجربة العرض، ويعيشها في مسرح التغريب وخاصة في المسرح الملحمي الحديث، المسرح الذي استلمهم مادته الدرامية من الملاحم الإنسانية الكبرى، وجعل لها أبعاداً اجتماعية مختلفة عن أبعاد الحدث الدرامي ذاته. ولقد حاول رائد مسرح التغريب "بريشت"3 إشراك المتفرج في العرض المسرحي الحي، بطريقة ذهنية تطبيقا لنظريته في تغريب الفعل الدرامي. وهذا ما ذهبت إليه السينما أيضاً في مجموعة من الأفلام التي عملت على الاستعارات الرمزية من أجل أغراض درامية وأيدلوجية وشكلية جمالية.

 السينما والموسيقى:

علاقة السينما بالصوت بشكل عام والموسيقى بشكل خاص علاقة معقدة، لقد كانت بدايات السينما صامتة، غير أن تطور الفنون البصرية ومنها السينما التسجيلية والسينما الروائية ونظام الفيديو... كل هذا أكسب السينما رهان الصوت والموسيقى، من خلال العديد من الأفلام أشهرها فيلم "عازف الجاز"، فحظيت السينما في علاقتها بالموسيقى بمكانة متميزة باعتبارها وسيلة سمعية بصرية، وأصبحت الموسيقى صوت الصورة المعبرة عن كل انفعالاتها، فكل الفنون كانت تطمح إلى الموسيقى لضبط إيقاع عرضها البصري، والسينما من الفنون التي استفادت من الموسيقى في ضبط إيقاعها البصري باعتباره فناً يستطيع التحكم في الخط الزمني للسرد الفيلمي.. من خلال استخدم مجموعة من المفاهيم الموسيقية، يتم التعبير عنها في أشكال بصرية، فاللحن والإيقاع الموسيقي قيم ذات تاريخ طويل في الفن السينمائي. فالأحداث يمكن التحكم بها بدقة داخل الكادر-الإطار- ويتم تحقيق توازن إيقاعي بين الأحداث والصور، وبدلك أصبحت الموسيقى جزءاً متكاملاً في التجربة السينمائية...

فهنالك دائما حاجة إلى التكامل بين الموسيقى والحدث في كثير من الأفلام، كالموسيقى التعبيرية الرومانسية وموسيقى الرعب. ومن الجدير بالذكر هنا بأنه كما يمكننا الحديث عن السينما الروائية يمكن كذلك الحديث أيضاً عن السينما الموسيقية، وسينما الأوبريت وسينما الأوبرا في مرحلة تاريخية مهمة من مراحل تطور أنماط العروض السينمائية.

 السينما والرواية:

بالرغم من امتلاك الرواية عبر تاريخها الطويل، الممتد مئات السنيين قبل اختراع السينما إلى تقنياتها السردية وإمكانياتها في التلاعب بالزمن والأماكن والأحداث، إلا أن العديد من المنظرين اعتبروا تحويل الرواية من نصها الأدبي إلى خطاب سينمائي مرئي، أضاف العديد من الامتيازات للرواية، أولها تحويل القارئ السلبي للرواية إلى مشاهد فعّال ومتفاعل إيجابي للفيلم السينمائي. لقد استطاعت السينما تحويل العديد من النصوص الروائية الشهيرة، إلى أفلام سينمائية، بالرغم من أن الفيلم السينمائي قد لا يستطيع أن يؤثر في مشاهديه كما تؤثر الرواية والعكس بالعكس..

غير أن السينما حاولت العمل على إكساب الفيلم السينمائي نفس قواعد بناء وتحليل العمل الأدبي، من حيث الشكل والإيقاع والصورة الذهنية والاستعارات الرمزية والتداخل الزمني للأحداث.. فيتم تحديد إيقاع الفيلم بالطريقة التي يتم بها المونتاج "التركيب الصوري للقطات والمشاهد".

كما تشترك الرواية مع السينما أيضاً في عناصر البناء الدرامي، الاستهلال، التقديم، الشخصيات بأبعادها. الاجتماعية والعضوية والنفسية. وكذلك الحوار والمنولوج الداخلي والصراع والحبكة والعقدة والحل، والنهايات بكل أشكالها المغلقة والمفتوحة... وقد أضافات السينما للقصص السردية، الصوت بكل تجلياته، الصوت البشري والمؤثرات الصوتية والبصرية والموسيقى والصمت، الذي تجسد في الفن السينمائي باعتباره لغة فلسفية عميقة، متعددة الأبعاد. والأحداث الرئيسية المتوالية منها والمتوازية، والصراع والراوي العالم بكل شيء...

وبالرغم من كل هذه التقاطعات بين الأدب الروائي والفن السينمائي، تبقى التقنيات التكنلوجية الرقمية الحديثة التي أضفت إلى الاقتباسات الأدبية للسينما لغة جديدة، تتمثل في التوظيف الخلاّق والمبدع للألوان والإضاءة والديكور والمكياج، والصوت والمؤثرات الصوتية وفنون الفيديو.

◄ السينما والفنون التشكيلية:

تعتبر السينما فن الرسم بالضوء، فعناصر التكوين داخل الصورة السينمائية بكل مفرداتها، من الإطار "الكادر" إلى الخطوط، مروراً بالأشكال الهندسية للتكوينات الجمالية داخل الصورة السينمائية، كالتوازن البصري، الكتلة البصرية، الضوء، الألوان، الخطوط والأشكال الهندسية.. جميع هذه العناصر التكوينية في الصورة السينمائية مستمد من الفنون التشكيلية، متخذة جميع هذه العناصر كقاعدة أساس للتكوين الشكلي الجمالي والتعبير الدارمي والفكري في الفيلم السينمائي.

إن الواقع السينمائي يعامل داخل الصورة السينمائية كدلالة نوعية للواقع الحقيقي، فهو ليس واقعاً مادياً للموضوع أو واقعَ التعبير الصوري، ولكن الواقع السينمائي واقع تشكيلي لصورة متحركة. ومن هذا المنطلق، ومن أدبيات علم جمال السينما، استعانت السينما باللوحة التشكيلية لتضفي جاذبية على رسالتها ومضمونها الإنساني والفني، من خلال ارتباط السينما في مسارها التاريخي بالمذاهب والمدارس الفنية التي تنتمي إليها الفنون التشكيلة، كالمذهب الواقعي والمذهب التعبيري والمذهب الرمزي والسريالي، والكلاسيكي والرومانسي الشعري...

بالإضافة إلى ارتباط السينما مع الفن التشكيلي من خلال عدد كبير من الإنتاجات الفيلمية التي تناولت حياة الفنانين التشكيلين.

◄ السينما والشعر:

انطلاقاً من اعتبار أن للسينما نظاماً لغوياً محدداً تستطيع من خلاله إيصال المعنى للمتلقي، فإنه لا بد من وجود تقاطعات بين فن الشعر وفن السينما، كلغة تركيبة، على غرار العلاقات التركيبية بين مختلف الفنون الدرامية الأخرى.

إن السعي إلى اكتشاف طبيعة التعبير الفيلمي، والوقوف على ما يمكن أن يتسم به من سمات شعرية في العرض السينمائي، هو ما يجعلنا نفكر في طبيعة العلاقة بين السينما والشعر، على سبيل المثال لا الحصر، إن اللغة السينمائية تعتمد سمات مشتركة بينها وبين فن الشعر، كالاختزال والكثافة والإيجاز والانزياح والاستعارة.. حتى إن العديد من الدارسين والأكاديميين المهتمين بالدراسات الجمالية، ذهب إلى أن السينما هي فن جمالي، تتجسد فيه لغة الشعر الجمالية في بناء اللقطة والمشهد السينمائيين. وإن اللغة الشاعرية في الفيلم قد تتمظهر من خلال التوزيع المبدع للإضاءة والألوان والملابس والتصوير والسرد الفيلمي. بالإضافة إلى أن اللغة الشعرية في الحوار السينمائي، تضيف إلى الخطاب السينمائي حمولات دلالية، والانزياح بالنص السينمائي إلى أبعاد تأويلية متسعة الأفق، خارج الإطار البصري للصورة السينمائية.. مع الإشارة هنا إلى أن وصف المشهد السنيمائي وكتابة الحوار السينمائي، وتقطيع مستويات الإلقاء الصوتي تخضع هي الأخرى، لمعايير اللغة الشعرية(4).
على الرصيف الآخر...
امرأة وحيدة تقف...
جفناها مليئة بالندى...
يعزف الريح بشالها الأسود(5)
يشرب مسعود قهوته ويدخن ...
يشرب مسعود كأس كأبته ويدخن...
مر طعم القهوة ...
 مر طعم الأيام...(6)

يمثل هذا التقطيع في لغة الشعر سمة مشتركة، بين لغة الشعر وحوار السينما، فهي آليات تشبه إلى حد بعيد آليات التقطيع في لغة السيناريو السينمائي. وبهذا تكون لغة السينما قريبة من اللغة الشعرية، لكنها تخلق لغة شعرية خاصة بها، بصفتها قصائد بصرية، يمكن مشاهدتها وقراءتها وكأنها قصائد تمتلك إيقاعها من خلال عناصر بنائها الصورية والصوتية. إن بين الشعر والسينما علاقة كالتي بين الشعر وغيره من الفنون الأخرى، لكن سرعان ما تتحول هذه العلاقة إلى سمفونية، تشاهد وتسمع بفضل الإيقاع البصري والصوتي الموسيقي، إيقاع يعمل على إلغاء الحدود الآمنة بين الشعر والسينما، وبين السينما وكل الفنون الدرامية في تعبيرها عن طبيعة الحياة الإنسانية.

 


هوامش:
1. DRON تقنية التصوير بكاميرا طائرة متحكم في درجة ارتفاعها وحركاتها.
2. (البانتومايم): تقنية التعبير التمثيلي عن طريق استخدام الإيماءات والإشارات الجسدية.
3. (برتولت بريشت)Bertolt Brecht كاتب وشاعر ومسرحي ألماني ولد عام 1898م وتوفي عام 1956م، ويعتبر رائد المسرح الملحمي، وصاحب نظرية التغريب في الدراما المسرحية. 
4. https://www.aljabriabed.net/n47_11kamari.htm
5. عائشة البصري، من ديوان "مساءات".
6. عبد الرفيع الجوهري، من ديوان "شيء كالظل".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها