
لَقدْ اعتقدنا منذُ أمدٍ بعيدٍ أنَّ ديكارت Descartes هو مؤسس العصر الحديث وأنه النقطة الفاصلة بين العصر الوسيط وبين الأزمنة الحديثة، وكانت هذه الأفكار بمثابة مسلمات لم يعد يبدي أحدٌ تجاهها أدنى قدرٍ من الشك، فقد سيطرت على ذهن القارئ بفعل تراكم المعارف والصور المغالطة التي روج لها العديد من المؤرخين المهتمين بالفكر الفلسفي.
إنَّ الرُّجوع إلى هذه اللحظة التَّاريخية من الفكر البشريِّ لم يعد يُشكل "تحديّاً للحس السليم"1. بل من غير السليم أن ينطلق مؤرخ الفلسفة من الفكر اليوناني إلى ديكارت مباشرةً ويتخطى العصر الوسيط، كأنَّ تاريخاً جديداً يبدأ مع ديكارت؛ "الفراغ لا يوجد في التَّاريخ"2، فالتاريخ تاريخ واحد ليس فيه فراغات، فلا ينبغي أن نجعل من العصر الوسيط مجرد جسر نعبره ولا نعمره، قادمين من اليونان ومتجهين إلى هولندا تاركين باريس وروما والإسكندرية وبغداد ومراكش وقرطبة وطليطلة3. لو لم تكن العصور الوسطى لما أمكن لنا الحديث عن ديكارت وعن العصر الحديث ككل بمفكريه وعلمائه وبمؤسساته4.
المتأمِّلُ في فلسفة ديكارت سيصلُ حتماً إلى نتيجةٍ مُناقضةٍ تماماً للمسلمة المعتادة، وسيكتشف، دون عناء، أن ديكارت ليس إلا فيلسوف مقلد لمحتوى الفلاسفة السكولائيين والكلاسيكيين (من أمثال القديس توما الأكويني والقديس أوغسطين، وألبير الكبير...)، تقليداً يكاد يكون مطابقةً تامةً.
يجوز لنا إذن أن نبحث عن المنبع الأصيل للعصر الحديث غير ديكارت، ومن جاء بعده ممن ورثوا التجربة الغنية التي تركها عظماء العصر الوسيط من المعلمين الكبار.
إذ كيف لا يستوحي ديكارت جُلَّ الأفكار التي شيد بها مذهبه الفلسفي من هؤلاء المعلمين الذين أثبتوا أصولَ الفكر الفلسفي عبر تحرير فصول بمثابة تعليقات دقيقة على أهمِّ المصادر الفلسفية اليونانيةِ والعربية الإسلامية، وقدموا حلولاً مبينة ومفصلة لإشكالات ميتافيزيقية عويصة (على سبيل المثال إشكالية الله والوجود) كانت قد شكلت تحديّاً للعقل اليوناني، وبدون شك كانت ستشكل تحديّاً أكبر للعقل الحديث لو لم تعالج في القرون الوسطى. وقد أضحت تلك الشروح والتعليقات فيما بعد منطلقاً أساسياً لفلاسفة العصر الحديث في وضع اللبنات الأولى لمذاهبهم.
لكن الإشكال المطروح في هذا السياق تحديداً هو: ما الدور الذي لعبه العصر الوسيط في تشكل الفكر الحديث؟ وكيف تم الانتقال من العصر الوسيط إلى الأزمنة الحديثة؟ كيف تكون القرون الوسطى التي ننعتها بقرون الظلام والجمود الفكري هي منبع العقلانية الخالصة التي يزعم بعض مؤرخي الفلسفة أن ديكارت هو واضع أسسها؟ بماذا نفسر جهلنا بحقيقة العصر الوسيط؛ بمفكريه وبمدارسه وبتياراته وبمناهج العلم فيه، وكُلُّ ما له علاقة به ديناً أو فلسفةً أو ثقافةً أو فناً؟
تجدرُ الإشارة إلى أنَّ الغايةَ من هذه الدراسة؛ أقصد البحث عن الأصول السكولائية والأوغسطينية للفكر الديكارتي ليس الوصول إلى نتائج تؤكد أن ديكارت كان سكولائياً أو أوغسطينيّاً قسراً، بل الهدف، من جهة، ينحصر بالأساس في تبيان أن ديكارت هو استمرار للفكر المسيحي الوسطوي الذي شهد تطوراً وازدهاراً كبيراً في القرن الثالث عشر، فهو نفسه نموذج أنتجه هذا الازدهار البديع الذي كان قائماً على أسس متينة قل نظيرها. ومن جهةٍ ثانيةٍ، التأكيد أنه كان في العصر الوسيط فلسفة ساهمتْ بشكل ٍكبيرٍ في بناء التصورات الحديثة، وفي خلق نموذج من التفكير يتميز عن التفكير اليوناني والعربي الإسلامي.
من هنا جاءت محاور هذا البحث؛ حيث ركزنا في المحور الأول على تحديد أصول تلك النظرة السوداوية نحو العصر الوسيط، وحاولنا توضيح عدم صحة ما ألقي على هذه المرحلة التاريخية من نعوت سيئة. أما في المحور الثاني فقد تناولنا فيه مساهمة العصر الوسيط في تشكل الفكر العقلاني الديكارتي، وما دامت فلسفة ديكارت تُعتبر بداية الحداثة الفكرية، وكانت هذه الفلسفة منبثقة عن العصر الوسيط، فيمكن أن نستخلص أن جزءاً كبيراً من مبادئ هذه الحداثة (العقلانية) قد توصل إليه ديكارت بمساعدة من مفكري العصر الوسيط؛ وجامعة باريس في العصر الوسيط شاهدة على هذا النضج الفكري الذي نهل منه ديكارت.
دحض التصور الشائع حول العصر الوسيط
إنَّ القولَ بظلامية القرون الوسطى وعقلانية العصر الحديث، قولٌ يفتقد لحجة علمية، فالذي يُنعتُ بأبي العقلانية (ديكارت والَّذي سنركز عليه في هذا المقال) تلقى كل تعليمه وتعاليمه وتكوينه من السكولائيين، فهو من خريجي مدرسة "لافليش"، وهي من المدارس التي أنشأتها الكنيسة في ذلك العصر؛ ولم يكن ديكارت قد تلقى في هذه المدرسة تعليماً دينياً فحسب، بل هؤلاء درسوه علوماً متنوعةً من رياضيات وفيزياء وفلك... إنها لمفارقة عويصة؛ عصر العتمة الفكرية والجهل، تدرس فيه جميع العلوم.
ما يؤكد اليوم عدم صحة هذه الأفكار التي روج لها بعض فلاسفة الأنوار (فولتير وكانط وهيوم) وبعض التيارات المعاصرة كالماركسية والوضعية5، من جهة، هو أنه عندما يظهر مخطوط ينتمي إلى هذا العصر يتهافت حوله الكل، دليلاً على منزلته العلمية، مع العلم أنَّ "هذه الكتب كثيراً ما أهملت، بل كان ينظر إليها في بعض الأحيان على أنها تشكل ملحقاً زائداً لا حاجة إليه، ومع ذلك فقد كانت تكتسب قيمةً وجمالاً مع مضي القرون"6، ومن جهة ثانية، أن أغلب الأعمال الفكرية التي أنتجت في هذه المرحلة التاريخية من كتب ورسائل ومذكرات وترجمات عبارة عن مخطوطات مكتوبة باللغة اللاتينية واليونانية (في غالبيتها)، جزء كبير منها لم يترجم ولم يحقق إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لذلك فإن أغلب المفكرين في الغرب وفي العالم الإسلامي لا يكادون يعرفون عن العصر الوسيط سوى النزر اليسير. هذا يدل على أن رفض فكر هذا العصر لم يكن مبنياً على دراسة علمية أكاديمية، وإنما كان رفضاً لأسباب إيديولوجية منبثقة عن قناعات شخصية هيمنت على التَّاريخ الحديث ابتداءً من ديكارت.
تلك التيارات الحديثة والمعاصرة لم تكلف نفسها عناء البحث، اكتفت فقط باستنساخ أفكار ديكارت حين قال: "توجد أخطاء قليلة يتعين الحذر من الوقوع فيها بالفعل، وهي التي من الممكن أن تتسرب إلى أنفسنا بشكل كامل رغم كل المجهودات والاحتياطات، وهي مترتبة عن قراءة مؤلفات هؤلاء القدامى قراءة متمعنة. وكلما انساق المؤلفون بشكل طبيعي في العمى والحماقة، كانوا ضحايا بعض الآراء، هي موضع جدال، وحاولوا دائماً جرنا إلى خلاصاتهم مستعملين من الحجج أدقها؛ في حين كلما حالفهم الحظ في العثور على شيء يقيني بديهي ما لا يعرضونه إلا بكيفية ملتوية جِدّاً تحسباً من أن تقلل بساطة الأدلة أهمية الاكتشاف أو حتى حسداً؛ لأنهم يجحدون علينا معرفة الحقيقة الواضحة وضوحاً كلياً.
وحتى وإن كان كل القدامى مخلصين صريحين، فإنهم لن يفرضوا علينا قبول أشياء مشكوك فيها على أنها حقائق... فما أن يدلي أحدهم برأي في شيء حتى يثبت الآخر نقيضه، بحيث يتعذر علينا أن نعلم بأيهما نثق". كما وثقوا "بجون السالسبوري حين صور لنا أولئك الفلاسفة الأقحاح الذين ينظرون إلى كل شيء خلا المنطق بازدراء؛ إنهم يمضون فيه حياتهم كلها، فإذا ما طعنوا في السن وجدتهم شكاكا صبيانيين، يناقشون في كل مقطع، بل في كل حرف مما يقال أو يكتب؛ وهم في كل شيء مترددون، ولا يصلون أبداً إلى العلم... ينتحلون آراء الجميع، وكثرة الآراء المتضاربة تكاد تجعل من رابع المستحيلات حتى على واضع هذا الكتاب [الجامع في المنطق] أن يهتدي إلى أصولها"7. كذلك كان حال بعض المؤرخين للفلسفة، يصورون لنا العصر الوسيط ومفكريه، تاركين أزيدَ من ألف عام من الإنتاج الفكري، متجهين (من اليونان) مباشرة إلى ديكارت. كما أن تلك المذاهب اكتفت بالاحتجاج بأحداث مأساوية تعرض لها علماء في تلك الحقبة وبعدها.
لقد تعاملوا مع ديكارت بانتقائية شديدة، حتى انقلبت تركيبة فكره، فالعبارة التي كانت قبل النص الديكارتي (المشار إليه) تحث على وجوب قراءة كتب القدامى، قال: "يجب أن نقرأ كتب القدامى بما أنَّ فائدةً عظيمة جداً تحصل لنا كلما استطعنا استخدام أعمال عدد كبير من الناس، إما لمعرفة الاكتشافات التي أنجزت في الماضي بنجاح، وإما للعلم بما بقي على مختلف الاختصاصات اكتشافه لاحقاً"8. غير أنَّهُ في الحقيقة معظم الأفكار المكونة للنسق الديكارتي (مؤسس العصر الحديث حسب الزعم السائد) مستمدة من العصر الوسيط، من الفكر المدرسي، ومن أوغسطين قمة عصر آباء الكنيسة الأول.
أما بخصوص توظيف بعض التيارات المعاصرة لأحداث مأساوية كان العصر الوسيط مسرحاً لها، من قبيل إعدام جيوردانو برونو بطريقة بشعة، وإعدام كوبيرنيك (بشكل صوري)، والحكم بالإقامة الجبرية على جاليليو حتى وفاته... واعتبرت ذلك محاربة للفكر العلمي وكل ما له صلة بالفكر الحر باسم الدين.
صحيح أن هذه الأحداث كلها وقعت وباسم الدين، لكن المتأمل في تاريخ الإنسانية سيدرك حتماً أن هناك علماء وفلاسفة ومفكرين أحراراً قد أُعدموا وشردوا وعذبوا؛ ألم يعدم سقراط؟ ألم تحرق كتب ابن رشد؟ ألم ينف ابن الخطيب؟ ألم يقتل تروتسكي؟ ألم يغتل كندي؟ ألم يعدم بويثيوس؟ ألم يمت ناصر حامد أبو زيد موتة تراجيدية (2010)؟9 ألم "يطعن سيجير البرابانتي في البلاط البابوي وهو أستاذ بكلية الفنون في باريس (1281-1284)"10؟ "ألم يرغم نيرون صفيه ومعلمه سينيكا Seneca على اختيار الميتة التي يرضاها؟11. وبابينيانوس Papinianus الذي كان ذا نفوذ طويل في البلاط، ألم يسلمه الإمبراطور أطونيوس كاركالا A. Carcalla لسيوف جنده؟ لقد أراد كلاهما أن يتنازل عن سلطته، بل لقد حاول سينيكا أن يعطي ثروته لنيرون ويحال على التقاعد. لكن لم ينل أي منهما مأربه، وهوت به ثروته ونفوذه إلى الهلاك مثلما يهوي بالشيء ثقله ووزنه"12.
ومن هؤلاء فلاسفة وسياسيين ورجال الدين وعلماء مسلمين ومسيحيين، فمنهم من عاصر إمبراطورية عظيمة قديمة "وثنية"، ومنهم من عاش في إمبراطورية اشتراكية لا تجعل الدين من بين أولوياتها، ومنهم من عاش في عصرنا الحالي؛ عصر حقوق الإنسان والديموقراطية! ورغم ذلك فإنهم عانوا بفعل تفكيرهم وتأملاتهم ومواقفهم المارقة كما يعتقد خصومهم.
بالفعل هذه الأخطاء ثابتة، لكن ليس الدين13، هو الفاعل المباشر فيها والداعي إليها، بل هي أحداث سياسية محضة، وكذلك الشأن بالنسبة لوقائع مماثلة في القرون الوسطى، فهي ليست سبب الدين أو الفكر المسيحي، وإنما فاعِلها بعض ممثلي الدين (رجال الكنيسة) من الطبقة الأرستقراطية الحاكمة، للحفاظ على مصالحهم، وتحقيق مطامعهم مهما كلف الثمن ذلك، وإرهاب الناس كيلا يحذوا حذوهم. فليس الكتاب المقدس هو من دعا إلى اتخاذ فيزياء بطليموس -التي تتأسس على ثبات الأرض ومركزيتها ودوران جميع الكواكب الأخرى حولها- مبدءاً ثابتاً من مبادئ الكنيسة، وإنما الأمر مرتبط بسياسة البابا الذي يتلقى أوامره من الله مباشرة في مكان واحد محدد ثابت!
نعلمُ جميعاً أن َّالكنيسة استولت على جميع المجالات الإنسانية الحيوية14. إبان سقوط الإمبراطورية الرومانية، فكان هدفها في البداية نبيلا؛ الحفاظ على السلم، وتوحيد البلاد المسيحية وتجنيبها ويلات الحرب والفوضى والانقسام، أي إعادة تقوية الدولة من الأساس... لكن مع مرور الزمن أضحت هذه الأفكار ذريعة للسيطرة، وسارت تنال من كل فكر لا يتلاءم وتوجهها وإيديولوجيتها. وما لا مرية فيه أن هذه المطامع كلها سياسية غلفت بغطاء ديني كي تكتسب قابلية لدى الرعية، وذلك شأن سائر الأمم والشعوب في بقاع الأرض، كلما تشبثت بالحكم زاد بطشها وقل اهتمامها بالفكر والعلم. ولاشك أن الفلاسفة يتوقون على الدوام إلى التحرر والانعتاق من العبودية التي تفرضها الأجهزة والمؤسسات الدينية والسياسية، لذلك نجدهم في الغالب في وضعية صراع مع هذه المؤسسات؛ فالفلسفة رهينة بالديمقراطية حسب -جون بيير فرنان- ومن رحمها انبثقت؛ "فلا وجود لعقلانية فلسفية إلا إذا قبلنا بأن تخضع كل القضايا للنقاش المفتوح والعلني. لا وجود لأي مطلق نستطيع باسمه الإدعاء في لحظة ما بإنهاء النقاش وقطع دابره"15. وهذا المنطق يتنافى كُليّاً مع المنطق الذي تتبناه النخبة الدينية والسياسية في العصر الوسيط.
الأصول الوسيطية للفكر الديكارتي
اعتبار ديكارت الفيلسوف الفيصل بين عصر قديم وعصر حديث، بين نور وظلام فيه مبالغة كبيرة، فديكارت وارث تجربة فكرية متميزة بالمقارنة مع عصور مختلفة. إنَّ ما جعل من ديكارت أسطورة الفكر الفلسفي ليس ما قدمه من إنتاج علمي وفلسفي، بل انتماؤه إلى فرنسا، لقد بذلت هذه الأخيرة كل ما في وسعها ليكون ديكارت رمزاً وشعاراً لفرنسا، تعويضاً للفراغ العلمي الذي أصاب تاريخها؛ "فقد كانت جامعة باريس أشهر من فلاسفة باريس، والأوسع في باريس هو أبرز أو أوضح فيها من الأعمق"، لقد وجدت فيه فرنسا نموذجاً مثالياً للظهور، مثلها في ذلك مثل إيطاليا وألمانيا وانجلترا اللواتي قدمن معلمين كبار من أمثال توما الأكويني وألبير الكبير وروجير بيكون...زيادة على ذلك أن ديكارت كتب باللغة الفرنسية التي كانت آنذاك مجرد لهجة محلية.
قد لا نجانب الصواب إن قلنا إنَّ الفيلسوف الفرنسي ديكارت استطاع، بشكلٍ من الأشكال، أن يخرجَ نوعاً ما عما هو مألوف -من حيث التعامل مع القضايا الميتافيزيقية العويصة- منذ أوغسطين إلى نيكولا دوكوز مروراً بإريجين وألبير الكبير وتوما الأكويني. ومن المرجح أن يكون ذلك بالصدفة، وبفعل عجزه عن قراءة مؤلفات القدامى، لما تحتويه هذه الكتب من حلول للمسائل الجدلية؛ وهذه الحلول تتطلب جهداً فكريّاً كبيراً لتتبع مسارِ البرهنة والتحليل، ومعلوم أن اهتمام ديكارت بالرياضيات (الحساب والهندسة) ينم عن كون عقله عقلاً حسابياً تقنياً أكثر مما هو عقل أدبي تحليلي؛ أي كالآلة الحاسبة، لا يمكن أن يستوعب إلا القضايا السهلة، ويدل على ذلك ميله الملفت للانتباه إلى البساطة، وخوفه المهول من الخطأ، وتمسكه بالمنهج الواضح؛ وكتاباته تعج بأقوال من قبيل" أما المنهج فأعني به قواعد يقينية سهلة تعصم كل من يراعيها بصرامة من حمل الخطأ محمل الصواب، فيتوصل إلى معرفة ما هو أهل لمعرفته، بتنمية علمه بكيفية متدرجة متواصلة دون أن يهدر أي جهد ذهني"16. وفي موضع آخر يقول: "إن من بين العلوم التي لا تخلو من الخطأ ومن عدم اليقين، الحساب والهندسة وحدهما لا غير"17. كلها عبارات تؤكد على شيء واحد؛ البحث عن البساطة، وتجنب السقوط في الخطأ. فما يفسر انبهار ديكارت بالهندسة والحساب ليس كونهما تقليداً راسخاً من اليونان إلى عصره، وإنما لأنهما بسيطان ولا يقبلان الخطأ، والوصول فيهما إلى نتائج أمر يسير، والخلاف حولهما منعدم، لا يجلب إليه تهما أو نقداً، يحتاج بموجبه إلى رد مقبول، فالأصعب أن تكون حججك كونيةً وأنت في مجال الإنسان، والأيسرُ أن تكون استدلالاتك كونيةً وصحيحةً وأنت في مجال الطبيعة.
ديكارت قبِل بالتناقض ولم يقبل بالخطأ؛ فهو الَّذي قال، حين عرَّف الفلسفة: "بأنها أشبه بشجرة، جذورها الميتافيزيقا، وجذعها العلم الطبيعي (الفيزيقا)، والفروع التي تخرج من هذا الجذع، هي كل العلوم الأخرى التي تنتهي إلى ثلاثة علوم رئيسة، هي الطب والميكانيكا والأخلاق"18. لماذا جعل من الميتافيزيقا أساساً للعلوم الرئيسة؟ أليس هو الذي دعا مراراً إلى تجنب الفلسفة النظرية؟ لماذا المرور بالضرورة من الميتافيزيقا لبلوغ مراتب عليا من مراتب الحكمة؟ فهو على وعي تام أن الثمار لا تجنى من الجذور وإنما من الأغصان، لكن بقدر ما تكون الجذور قوية تكون الشجرة أكثر عطاءً وإنتاجاً؛ فالجذور بالتالي تنتج بشكل من الأشكال، إنتاجا غير ملموس. غير أن ديكارت، رغم إقراره بذلك في هذا الكتاب (مبادئ الفلسفة)، إلا أنه رفض ذلك في كتاب آخر (مقال في المنهج)، حين بين أن الميتافيزيقا عقيمة (الفلسفة النظرية). يقول: "يمكننا أن نجد، بدلا من هذه الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس، فلسفة عملية، إذا عرفنا بواسطتها ما للنار، والماء، والهواء، والكواكب، والسموات، وسائر الأجسام الأخرى التي تحيط بنا من قوة وأفعال، معرفة متميزة كما نعرف آلات صنعناها، استطعنا أن نستعملها بالطريقة نفسها في جميع ما تصلح له من الأعمال، وأن نجعل أنفسنا بذلك سادة الطبيعة ومالكيها"19. فالموقف الديكارتي إذن تلفه ضبابية، تنم عن الارتباك النفسي الداخلي في التعامل مع الإشكالات الجوهرية، لم يحدد بعد من يؤسس الآخر؛ الميتافيزيقا هي من يؤسس الفيزياء أم الفيزياء هي من يؤسس الميتافيزيقا؟ ويبدو بالتالي السبب الحقيقي الذي أدى به إلى السقوط في التناقض، وهذا الأخير أضل وأمر من السقوط في الخطأ.
إن ما يفسر انبهار العديد من المفكرين بفلسفةِ ديكارت هو ميلهم إلى البساطة. وهذا الإعجاب جعلهم يصنعون منه صنماً يوجه تأملاتهم، ويعتبرونَ ما قبل ديكارت مرحلة انتقالية لم يكن فيها غير فراغ فكري، أو فكر فارغ، لا أهمية له. ونذكر من هؤلاء المفكرين أنتوني جوتليب، والذي أكد في مناسبات كثيرة أن الفلسفة الوسيطية ما هي إلا تأملات دينية؛ يقول: "النتاج الفلسفي للحقبتين القديمة والمعاصرة بشكلٍ عام ليس أكثر إبداعاً فحسب، بل أسهل فهما بالنسبة للقارئ المعاصر من التعليقات المطولة والممارسات الجدلية التي لفظتها العصور الوسطى. وفي ظل ضيق الوقت والمساحة فمن الأفضل أن تترك فلسفة العصور الوسطى تتيه في غابتها المظلمة التي تغطيها الأشواك"20، ويضيف في السياق ذاته، "يعد عام 529 م علامة فارقة في تاريخ الفلسفة؛ فمنذ ذلك التاريخ ظلت الفلسفة في الغرب بشكل أو بآخر أسيرة للديانة المسيحية قرابة ألف عام. وإذا نظرنا إلى الأمر بعين الفكر الحديث، فمن المغري أن ننظر إلى ذلك الفاصل الزمني الطويل وكأنه يشبه حكاية الجميلة النائمة. فبعد أن التقت الفلسفة بالعقيدة المسيحية غرقت في سبات عميق قرابة ألف عام حتى أيقظها ديكارت"21؛ حتى خلصها المخلص من قبضة الدين! فهذه نتائج بعيدة كل البعد عن الصواب، يمكن دحضها بسؤال واحد، أين تعلم ديكارت الفلسفة والرياضيات والفيزياء؟ ربما قد يكون جواب جوتليب بسبب فرطه في الإعجاب بديكارت، أنها كانت فطرية في ذهنه! إن المتصفح لكتاب تأملات ميتافيزيقية، سيكتشف بدون عناء، مدى ما تدين به الفلسفة الديكارتية لفلسفة العصور الوسطى.
بالتأكيد لو أن ديكارت عاش في هذا العصر لوجدته يهاجم الرياضيات والفيزياء، وذلك بفعل ما وصلت إليه هذه العلوم من تطور كبير يصعب تتبع عملياتها المجردة والعملية، فقد بلغت مبلغاً ذهب معه اليقين -كما كتب إليا بريغوجين22- الذي كان ينشده ديكارت منها، واختفت منها تلك البساطة التي يطلبها كشرط لمباشرة أي عمل.
وفي ما يأتي من الصفحات سنقدم بعض المعطيات والأدلة التي تبين أن ديكارت لم ينسلخ لحظة من التراث المسيحي، فقد ظل أميناً لهذا التراث، سواء بوعي منه أو بغير وعي. بل إنه يستنسخ بعض الأفكار كما هي دون الإحالة إلى أصحابها.
ديكارت والتراث الأوغسطيني
لقد بنيت فلسفة ديكارت بكاملها على مفهوم الذات، الذات من حيثُ هي جوهر مفكر وواع، بمعنى أن التفكير هو الذي يشكل ماهيتها، أي أنه لا وجود لهذه الذات (العقل) بدون تفكير، وبدون ممارسة الشك، ويدل على هذا تعبيره الصريح "أنا أفكر إذن أنا موجود"، معناه ارتباط الوجود بالتفكير، ولا يمكن أن يكون حديثنا مشروعاً عن الذات كوجود عقلاني قائم بذاته إلا بممارسة التفكير، ولا يمكن لعاقل أن يتجاهل هذا الانجاز العظيم في تاريخ الفكر البشري، أي وصول الإنسان إلى درجة عالية في معرفة نفسه، وإدراكه أن ما يحدده وما يجعله مختلفاً هو الفكر.
لكن المفاجأة الصَّادمة هي اكتشاف ديكارت أن هذا الانجاز لم يكن من إبداعه الشخصي المحض، بل سبقه إليه القديس أوغسطين، فبعد إصداره لكتاب المقالة في المنهج نبهه أحد أصدقائه بأن جل الأفكار التي تطرق إليها في هذا الكتاب قد تناولها أوغسطين في كتابه مدينة الله، يقول جيلسون: "بعد قراءة صديق ديكارت وهو ميرسون لكتاب المقالة في المنهج أثار انتباهه التشابه بين الحجة التي يقدمها ديكارت وبين تلك التي سبق لأوغسطين أن وظفها في كتابه مدينة الله... ومنذ تلك اللحظة والاتجاه الديكارتي يتضح أكثر، ومقاربته غير مهمة، ما دام جل أفكاره قد صرح بها من قبله أوغسطين، وبعد ذلك، وبمناسبة إصداره لكتاب التأملات صديقه أرنولد أثار انتباه ديكارت على التشابه الذي يوجد بينه وبين أوغسطين في كتابه الثالوث، وإعجاب أرنولد بأوغسطين وديكارت جعله يهتم بهما، وقد لاحظ الالتقاء الموجود بينهما إلى درجة أنه وجد نفس الشيء بينهما تقريباً"23، لكن على ما يدل هذا التشابه الكبير بين ديكارت وأوغسطين؟ وما يزيد من غموض هذا الإشكال عدم إشارة ديكارت إلى أوغسطين لا من قريب ولا من بعيد في كتبه، وقد يعبر هذا الانزلاق عن أن ديكارت لم يقرأ ولم يطلع على كتب سلفه، ويؤدي بنا هذا الاستنتاج إلى إثبات أن ديكارت لم تكن له إحاطة شاملة بجميع علوم عصره وبمؤلفات كبار زمانه خصوصاً أوغسطين الذي يشكل مفخرة الفكر المسيحي، لهذا فإنه من غير المنطقي أن تكون مؤسساً لعصر وأنت تجهل العصر الذي أنت فيه أو الذي قبلك؛ لأن ما تعتقد أحياناً أنه إنجازك وإبداعك قد يسبقك إليه غيرك. وما حملنا على هذا القول أن جل المؤرخين للفلسفة "ومنذ أمد بعيد... يظنون أن ديكارت وبيكون قد شيدا فلسفةً مستقلةً جذرياً عن كل الفلسفات السابقة"24، التي كانت قبلهم، وأقصد الفلسفة المسيحية بكافة مشاربها وتياراتها. وهذا يتنافى مع الواقع، فديكارت، في غالب كتبه، اكتفى بما تعلمه من العصر الوسيط المتقدم، وبالضبط من مدرسة لافليش. لقد أكد هيوت (أسقف أفرانش) على ذلك حين قال إن "ديكارت لم يبدع على الإطلاق، فقد استمد جميع مبادئه حول الفيزياء والميتافيزيقا من بعض الفلاسفة السابقين: الشك المنهجي، معيار البداهة والقواعد العامة للمنهج، من أرسطو ومن القديس أوغسطين. التمييز بين النفس والجسد من أفلاطون ومن أبيقور ومن فلاسفة وثوقيين آخرين. الدليل على وجود الله من القديس أوغسطين ومن كلوديين ماميرت ومن القديس أنسلم"25.
إن كون منطق التاريخ قائماً على الاستمرارية الدائمة، فلابد بالتالي من الإلمام بكافة الإنتاجات الفكرية للأسلاف، لإعادة تجديدها بغية تجاوزها. وهو ما لم يتم مع ديكارت (وهو ما يبدو). فالخطأ الذي لا يمكن تبريره والذي ارتكبه ديكارت هو عدم إشارته إلى أوغسطين؛ ففي "ردوده على أصدقائه لاشيء فيها يوحي بأنه قرأ أوغسطين أم لم يقرأه، لكن احتمال قراءته له كبير، غير أن تأكيداً يقينياً على ذلك لا يوجد، كلُّ ما هنالك مجموعة من الافتراضات"26.
إذا افترضنا أن ديكارت قرأ أوغسطين فهل من المعقول أن يستمد جل أفكاره دون الإحالة عليه؟ فمن شيم الفلاسفة الكبار الإحالة على أي فكرة أخذها من مصدر كيفما كان؛ كتاب أو صديق أو أستاذ... يبين ما له وما ليس له. ففي رسالة إلى صديقه ميرسون أجاب ديكارت إجابة غير مقنعة حول هذه المسألة، قال: "القديس أوغسطين قد قال نفس الشيء من قبل، لكن ليس بنفس المعنى وبنفس الغاية"27. هذا الاعتراف الديكارتي بأن الأفكار الأوغسطينية هي نفسها الأفكار التي يدافع عنها، لكن المعنى والمضمون مختلفان، اعترافٌ ضمنيٌّ بأن أوغسطين بالفعل قد سبقه إلى هذه الأفكار، مما يدل على أنها ليست إبداعاً ديكارتياً محضاً، لقد كان "أنا أفكر" بمثابة مبدأ كل منهما، وفي هذا السياق تحديداً يقول جيلسون: "السؤال الضمني الذي يطرحه أرنولد بوضوح: هل كان أنا أفكر المبدأ الأول للفيلسوفين معاً؟ جواب ديكارت أقل جدارة بالاهتمام لأنه تهربي"28. وقد أدت هذه الواقعة بديكارت إلى الانزعاج والعودة إلى كتب أوغسطين، إذ يقول في إحدى رسائله: "ترغمونني على أن أتقبل أن أنا أفكر إذن أنا موجود، مرتبطة بما كتبه أوغسطين، سأقرأه الآن في مكتبة هذه المدينة (لييد)"29. هذا الجواب يعبر عن الارتباك الذي أصاب ديكارت، حيثُ اندهش عندما علم أن القديس أوغسطين قد تناول هذا الموضوع بدقة منذ ما يزيد عن إحدى عشر قرناً. كما أن هذا الجواب يعبر عن كون ديكارت مستاء؛ لأن زملاءه علموا بعدم اطلاعه بالمذهب الرسمي للعالم المسيحي إلى حدود القرن الرابع عشر، والمصدر الرئيس للفكر المسيحي.
لقد حاول باسكال أن يقدم حلا لهذا الإشكال، لكنه مع ذلك لم يقدم إلا حلا نسبياً ينتصر فيه لديكارت أكثر، والسبب في ذلك نابع من إعجابه به خصوصاً في الجانب الرياضي والفيزيائي، وبين أن "القديس أوغسطين يوظف الكوجيطو من أجل البحث عن صورة الثالوث في الإنسان، في حين يستخدمه ديكارت لإثبات التمييز الحقيقي بين النفس والجسد"30. ويظهر أن الإعجاب الشديد بديكارت قد حجب عنه مطباته وانزلاقاته. فكما يرى جيلسون، إنه لفرق كبير بين كتابة كلمة وبين إبداعها؛ إبداعها يتطلب جهداً كبيراً ووقتاً طويلاص وعملاً مضنياً، في حين أن كتابتها من السهولة بمكان، لن يواجه تلك المعاناة كلها، وأورد جيلسون هذه الفكرة في سياق أن ما قام به ديكارت هو إعادة كتابة لكلمة أنا أفكر، ولم يبدعها، فالفضل يرجع إلى أوغسطين الذي قام باكتشافها وبهذا فإنه هو الذي يستحق تعظيماً وشرفاً. ويمكن اعتبار ما عمله ديكارت تجل من تجليات البساطة التي يفتش عنها في كل مرة، لم يكلف نفسه عناء للبحث عن أصول الأنا أفكر. فسواء قرأ ديكارت أوغسطين أو لم يقرأه، فهو مطالب بذكر المصدر الأول لأفكاره؛ لأنه من المرجح أن يكون قد سمعها من أساتذته من الأوغسطينيين الذين درس على أيديهم في مدرسة لافليش.
بالطبع ليس هدفنا ينحصر في هذا الباب على التقليل من شأن ديكارت، وإنما غايتنا بالأساس تتجلى في التأكيد على الاستمرارية والتفاعل بين كافة المكونات التي ينطوي عليها تاريخ الفكر الفلسفي، وهذه المطابقة والمشابهة بين ديكارت وأوغسطين مظهر من مظاهر هذه الاستمرارية، وأقول التطابق لأنه بالفعل هناك تشابه كبير بينهما؛ "بالضبط ديكارت كأوغسطين إنه يستبعد بنفسه كل حجج التي تقبل الشك: أخطاء الحواس وأوهام الحلم والجنون ودلائل أخرى للشك معروفة"31، تلك هي نقط التقاء ديكارت وأوغسطين، رفض الخطأ وعدم يقينية المعرفة الحسية. من غير الممكن أن يكون هذا التوافق في الأفكار إلى هذه الدرجة مجرد مصادفة، أحياناً لا تكون التوافقات بين الفلاسفة إلا بعد تأويل مواقف كل منهما، لكن في حالة ديكارت وأوغسطين، نجد انسجاما كبيراً دون العودة إلى التأويل.
ومن الأفكار البليغة التي شكلت جوهر الفكر الديكارتي والتي افتتح بها ديكارت كتابه مقالة في المنهج هي أن: "العقل أعدل الأشياء قسمة بين الناس"، فلا يمكن أن نتجاهل أصول هذه الفكرة، لقد استنبطها ديكارت من الكتاب المقدس. فمعلوم أن الوحي المسيحي تضمن آيات تؤكد على أن الإنسان يعتبر صورة الله، بمعنى أنه يمتلك صورة كونية، مما يؤكد على التشابه المطلق بين كافة البشر، وهذا التشابه يدل على أن هناك شيئاً مشتركاً بين هذه الكائنات جميعها منبثق عن هذه الصورة وهو العقل، وبالتالي لا يمكن التمييز بين الناس، والاختلاف قائم في الطريقة التي يتم بها توظيف هذا العقل، هذه الخاصية الإنسانية الخالصة. وقد سبق لأفلوطين أن تحدث عن هذه المسألة، مسألة كون الإنسان يمتلك ملكة بمثابة ميزة تميزه عن كافة المخلوقات، يقول جونو: "يجب أن نوقظ فينا تلك الملكة التي يحوزها الجميع، إذا صدقنا أفلوطين، ولكن عدد من يستعملها قليل"32.
صحيحٌ أنَّ الغايةَ التي من أجلها نوظف العقل والتفكير بشكل عام هي تجنب السقوط في الخطأ، ويبذل ديكارت كل ما في وسعه لتحقيق هذا الطموح، طموح التخلص من الأخطاء، لكن ألا يمكن القول إنَّ الخطأ نفسه من طبيعة إنسانية مثله مثل التفكير لا يمكن الانفلات منه ومن نتائجه؟ بما أن الخطأ قد شكل بالنسبة لديكارت منبع الخوف، وأخذ منه قسطاً طويلاً من الوقت، فإنه يدل على أن الخطأ حقيقة وواقعة غير مستقلة عن العلم والمعرفة، فهو إذن، ما دام عاملا يحفز على التفكير، فهو إيجابي، من غير المعقول النظر إليه كشيطان مضلل. من إيجابياته الأساسية أنه يرغمنا على البحث في خطة ومنهج لتفاديه، فهو بذلك تعقل ومصدر نجاحنا وإخفاقنا، وقوة هذا الخطأ تضطرنا إلى توظيف آليات ذهنية وعمليات عقلية مستمرة لتجنبه. ومن حيث هو كذلك فإنه وسيلة لتقييم أفعالنا وتفكيرنا، فمنه نبدأ وإليه ننتهي، لأن انتهاء خطأ هو بمثابة بداية خطأ جديد، وبالتالي يصعب على الإنسان أن يفكر بدونه. إذن يمكن القول إن الكوجيطو يتضمن داخله مسلمة مضمرة لن يكتمل بدونها ولن يفهم في غيابها وبها يتميز عمن سواه، والكوجيطو كاملا هو: "أنا أخطئ إذن أنا أفكر وأنا أفكر إذن أنا موجود". ما كان الإنسان إلهاً لكي لا يسقط في الخطأ؛ الخطأ خاصية إنسانية محضة، علينا مواجهته لا الخوف منه وتجنبه. لقد كان ديكارت واعيّاً بهذه المسألة "فمن العلامات الأساسية على هذا الوعي استدعاء الله لضمان اليقين"33، وهذه الضمانة هي علامة على التأثر الذي أحدثه التراث السكولائي على التوجه العام للفكر الديكارتي. وهذا ما سنتناوله في النقطة الموالية.
ديكارت والتراث السكولائي
إنَّ أولَ ما يمكن التأكيد عليه بهذا الصدد هو أن ديكارت لم يكن قد اكتشف السكولائية صدفة أثناء البحث والاستقصاء، وإنما تعلمها منذ صغره في مدرسة لافليش، ومن هذه المدرسة اكتسب جل أفكاره الفلسفية، ومن المعلوم أن ما اكتسبه الإنسان في صغره يشكل مكوناً من مكونات كيانه ومحدداً لنمط تفكيره، ولن تكون تلك المكتسبات مجرد أفكار عرضية تزول بسهولة لا تحدث أي تأثير. يقول متحدثا عن هذه المرحلة: "لقد درست قليلا وأنا في حداثة سني، من بين أقسام الفلسفة المنطق ومن بين أقسام الرياضيات التحليل الهندسي والجبر"34، وقضى في "هذه المدرسة ثلاث سنوات من 1609 إلى 1612 في السنة الأولى درس المنطق والأخلاق وفي السنة الثانية درس الفيزياء والرياضيات والثالثة الميتافيزيقا"35، وما "سيدهشه هو أنَّ هناك فلاسفة ليسوا لا بفلكيين ولا بفيزيائيين ولا ببيولوجيين، ومع ذلك السكولائية قد علمت لديكارت كل هذا جملة واحدة"36، هذا يعني أن هؤلاء ليسوا مجرد تيولوجيين كما يعتقد بعض المؤرخين، وإنما هم فلاسفة بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ لأن لديهم إلمام كبير بكافة علوم عصرهم، إنهم حقيقة معلمون كبار، لم يقتصروا على تفسير وشرح مقتضيات وأحكام الدين، بل انفتحوا على الفلسفة وعلى مختلف العلوم، وهذه ميزة اختص بها فلاسفة القرون الوسطى، لا نعثر عليها في الأزمنة الحديثة، لأنها مرحلة هيمن عليها تقسيم العلوم والتخصص، وغاب عنها الفكر الموسوعي. في الواقع هذا التخصص أحط من قيمة المعرفة.
لم يستطع ديكارت أن يقدم نقداً شاملاً للسكولائية بالمعنى الحديث للكلمة، وإنما حاول تصحيحها، الدليل على ذلك أن كتابه الأخير "مبادئ الفلسفة قد خصصه لتعويض النقص الذي تعاني منه المدارس في مادة الفلسفة السكولائية، وهذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن "نقد الميتافيزيقا السكولائية -في نظره- ليست ضرورية لأن مذهبه بكامله مرتبط بها أشد الارتباط في جميع مبادئه ومنهجه"37، ويتبين ذلك في تعريفه المشهور للفلسفة، فهذا التعريف والذي يحاول فيه أن يعيد للفلسفة شموليتها باعتبارها أسمى العلوم، ويجعل من الميتافيزيقا الأساس القويم لتلك العلوم، ولا غرو أن هذه الشمولية تعد من رواسب التراث السكولائي في فكره، ويرى جيلسون "أن المشروع الديكارتي يختلف فعلا عن المذهب السكولائي، لكن ليس أفضل منه بل إنه يعيد فقط الطريقة الأرسطية في تفسير العالم الفيزيائي بطريقة ميتافيزيقية فلسفية"38.
لقد كانت الفلسفة التي تدرس في مدرسة لافليش كلها تنهل من المذهب التومائي، فهذا الأخير يعد من أكبر السكولائيين في العصر الوسيط حسب جيلسون، فلولاه لما تحدثنا عن السكولائية بمكانتها المرموقة التي نراها بها اليوم. ومادامت هذه المدرسة (لافليش) تدرس فيها فلسفة توما، وكان ديكارت طالباً فيها، فمن الضروري أن يتأثر ببعض أو كل أفكار المعلم الكبير توما؛ لنأخذ على سبيل المثال الأدلة التي وظفها ديكارت للبرهنة على وجود الله، هي براهين أخذها مباشرة بدون تعديل من القديس توما الأكويني: "ديكارت أولا: يتصور جوهراً متناهياً وأزلياً، ولا يمكن أن يتغير، ومستقلا، لديه المعرفة الكاملة، والقدرة الكاملة، خلقني أنا نفسي، وكل شيء آخر. وثانياً: من يعرف شيئاً أكثر كمالا من نفسه لا يمكن أن يكون وجوده لأنه لا يمكن أن يعطي المعرفة لنفسه بنفسه، فلابد أن يأتي من وجود كامل بصورة لا متناهية. ثالثاً (هو إحياء للدليل الأنطولوجي): إن التصور الخالص لوجود لا متناه وكامل بصورة مطلقة يتضمن منطقياً وجود هذا الموجود"39. "فأثناء دراسة ديكارت في مدرسة لافليش تأثر مباشرة بتوما الإكويني في مجال التيولوجيا، أما اهتمامه الفلسفي فيرجع تأثيره إلى توما لكن بشكل غير مباشر عن طريق سواريز"40، ونستنبط من هذا التجاذب بين ديكارت والسكولائية أن: "الديكارتية ولدت داخل السكولائية وهي في صراع مستمر معها من أجل تعويضها لتأخذ مكانها"41 ومكانتها.
وكذلك من الاختلافات الجوهرية التي كانت بين ديكارت والسكولائية -هذه الأخيرة المتجسدة بالخصوص في رمزها ومعلمها الكبير- هي: "أن توما يعتبر وجود العالم الخارجي حقيقة يقينية لا حاجة إذن للمرور من الكوجيطو، أما ديكارت على العكس من ذلك فيعتبر وجود العالم الخارجي ليس ببديهي، فالشيء الوحيد اليقيني هو الكوجيطو"42، فبالنسبة لديكارت العالم الخارجي لا يمكن أن يكون نقطة انطلاق لبناء المعرفة، لكنه مع ذلك ظل مبدأه الأول43.
خاتمة
رغم أن ديكارت هاجمَ التراث السكولائي بشدة وبصرامة تعبر عن رفضه الصريح لبعض أشكال التفكير في تلك الحقبة، فإنه فيما يختص بالميتافيزيقا ظل وفيّاً لمضامينها وتوجهاتها العامة، فقد تبين ذلك في مجموعة من الرسائل التي كشفت عن مشاعره الحقيقية الداخلية اتجاهها، وهذه المشاعر تحمل في طياتها دلالات تتخطى إدراك المؤرخ؛ يقول جيلسون مبينا ذلك: "الجانب النفسي الشخصي لفيلسوف ما، ينفلت من المؤرخ، لذلك لا نستطيع أن نقول بيقين كيف كان شعور ديكارت اتجاه الميتافيزيقا"44، ومن هنا يظهر أن التأريخ لفيلسوف ما يظل مرتبطاً بشخصية المؤرخ، بمعنى أن زاوية نظره تبقى نسبية مادام هناك جانب خفي ليس في مقدور أحد أن يعلمه وهو جانب الإحساس الشخصي، وبالتالي فإنَّ الرأي القائل بأن ديكارت قد تجاوز السكولائية وأسس لنفسه فلسفة ومنهجاً مستقلاً، ضرب من الخيال والافتراض، وليس رأياً صائباً مطلقاً.
إنَّ اعتبارَ ديكارت فيلسوفاً مكملاً للمسار الفكري الذي شيده مفكرو العصر الوسيط، وفيلسوفاً معمقاً للمذاهب الفلسفية الوسيطية، لا يحط بالقطع من منزلته كفيلسوف مَهَّدَ السَّبيلَ لحقبة جديدة توجت بعصر الأنوار.
إذ لا يختلف الأمر مع فلاسفة آخرين عن الحقبة نفسها، من قبيل اسبينوزا وباسكال، وفي العصر المعاصر، مثل مارتن هايدغر الذي نال أطروحة الدكتوراه في موضوع ذي صلة مباشرة بالعصر الوسيط، وهو "نظرية المقولات عند دونس سكوت"، وكذلك شوبنهاور وهنري برغسون وآلان دو ليبيرا... وغيرهم كثير ممن شيدوا أنساقهم الفكرية بالعودة إلى العصر الوسيط، دون أن يكون ذلك عاملا في انحطاط درجتهم العلمية، وإنما كان مصدر دقة وصرامة أعمالهم الفلسفية.
من هذه الزاوية يبدو من غير المعقول أن يكون القارئ العربي غير مطلع على هذه المرحلة الرئيسة من تاريخ الفكر الإنساني، في الوقتِ الذي نؤكد فيه أن الفلسفة العربية الإسلامية لا يمكن فهمها بدقة وعمق لازمين دن العودة الملحة إلى الفكر المسيحي في العصر الوسيط؛ لأن أعمدة الفلسفة العربية الإسلامية، أقصد ابن سينا وابن رشد وابن باجة والفارابي... قد تم شرح متونهم الفلسفية من قبل أساتذة جامعة باريس في العصر الوسيط؛ فتوما الأكويني وحده استدل بابن سينا أكثر من ثلاث مائة مرة. ولم يكن القديس توما مجرد لاهوتي منغلق، وإنما كان يمثل عصارة العصر الوسيط، وهذه حجة أن الفكر العربي الإسلامي كان حياً وما يزال.
المصـادر والمراجـع:
باللغة العربية
- أبو زيد ناصر حامد: التفكير في زمن التكفير: ضد الجهل والزيف والخرافة، الدار البيضاء المغرب، المركز الثقافي العربي، ط1، 2014.
- أمين عثمان: الفلسفة الرواقية، القاهرة، مكتبة الأنجلو، 1971.
- بدوي عبد الرحمن: فلسفة العصور الوسطى، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1962.
- جونو إدوارد: الفلسفة الوسيطية، ترجمة علي زيعور، بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1979.
- جون بيير فرنان: بين الأسطرة والسياسة، ترجمة جمال شهيد، دمشق، دار دمشق، الطبعة الأولى 1999.
- جوتليب أنتوني: حلم العقل. تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة، ترجمة محمد طلبة نصار، القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى، 2015.
- ديكارت رينيه: قواعد لتوجيه الفكر، ترجمة سفيان سعد الله، تونس، دار سراس للنشر، 2001.
- ديكارت: مبادئ الفلسفة، ترجمة عثمان أمين، القاهرة، دار الثقافة، 1975.
- ديكارت: مقالة الطريقة، ترجمة جميل صليبا، بيروت، المكتبة الشرقية 1970.
- رايت وليم كلي: تاريخ الفلسفة الحديثة، ترجمة محمود سيد أحمد، مراجعة وتقديم إمام عبد الفتاح إمام، مصر، المشروع القومي للترجمة، ط 2، 2005.
باللغة الانجليزية
- DURANT Will, Histoire de la Civilisation, volume XII, l’âge de la foi III, l’Apogée du christianisme tome I (1095-1300), De Georges Waringhienn (tra.), Suisse, éd. Rencontre 1962.
- GILSON Etienne., La Liberté chez Descartes et la Théologie, Paris, éditions J. Vrin, 1987.
- GILSON E., Etude sur le rôle de la pensée médiévale dans la formation du système cartésienne, Paris, éd. J.Vrin, Quatrième éditions 1975.
- E. Gilson, La philosophie au moyen-âge : Du XIII siècle à la fin du XIVème siècle, Tome II, Paris, éditions petite bibliothèque Payot 1976.
- Etienne Gilson, L’esprit de la philosophie médiévale, Paris, éd. L.P.J vrin, Deuxième Ed.1978.
- GILSON E., Index scolastico–cartésien, Paris, éd. J. Vrin, 2ème éd 1979
- GILSON E., Le thomisme. Introduction à La philosophie de saint Thomas d’Aquin, Paris ,éd. L.P.J. Vrin, sixième édition 1983.
- GILSON E., Réalisme thomiste et la critique de la connaissance, Paris, éd J. Vrin 1986.
- JEANNEAU Edouard, la philosophie médiévale, paris, éd. P.U.F. (que sais-je ?), Troisième édition, 1975.
- JACOT Louis, Histoire critique de la pensée: La bataille des idées en religion, volume I, Paris, éd. la pensée universelle.
- KNOWLES David, The Evolution of Medieval Thought, Londre, éd. Longmans, 1962.
- LOT Ferdinand, La fin du monde antique et le début du moyen âge, Paris, éditions Albin Michel 1951.
- Picavet François, Essais sur l'histoire générale et comparée des théologies et des philosophies Médiévales, Paris, éd. Librairie Félix Algan 1913.
- PRIGOGINE Ilya, la fin des certitudes, (Paris, éd. Odile Jacob, 1996).- STEENBERGHEN Fernand Van, Introduction à l’étude de la philosophie médiévale, éd Louvain publications Universitaires (Belgique) 1974.
- STEENBERGHEN F. Van, Histoire de la philosophie, période chrétienne, éd. Universitaires L’Louvain(Belgique), Deuxième Edition 1973.
الهوامش
1. إدوارد جونو: الفلسفة الوسيطية، علي زيعور (المترجم)، (بيروت، دار الأندلس للطباعة والنشر، الطبعة الثانية 1979)، ص: 23.
2. Etienne Gilson, l'esprit de la philosophie médiévale, (Paris, éd. J. Vrin, deuxième éditions 1978), p.383.
3. يعتبر هيغل هذا المسار الفكري الطويل "بمسار الروح"، وكل مدينة تمثل حقبة تاريخية بارزة، كما تمثل حضارة متقدمة ومتطورة.
4. الجامعات هي نظام تعليمي بدأ في تلك الحقبة التاريخية الوسيطية؛ نموذج جامعة باريس في القرن الثالث عشر.
5. F. Van. Steenberghen, Introduction à l’étude de la philosophie médiévale,( éd. Louvain publications Universitaires (Belgique) 1974) ,p.217. « Non seulement les idées de la révolution française avaient bouleversé toutes les doctrines traditionnelle, mais les courants de la philosophie contemporaine, voltairiens et encyclopédiste en France Kant en Allemagne, Hume en Angleterre ».
6. جونو: الفلسفة الوسيطية، مرجع سابق، ص: 23.
7. إميل برهييه: تاريخ الفلسفة. العصر الوسيط والنهضة، ج3، جورج طرابيشي (المترجم)، (بيروت: دار الطليعة، ط 2، 1988)، ص: 102.
8. رينيه ديكارت: قواعد لتوجيه الفكر، سفيان سعد الله (المترجم)، (تونس، دار سراس للنشر، 2001)، ص: 34.
9. ناصر حامد أبو زيد: التفكير في زمن التكفير، ضد الجهل والزيف والخرافة، (الدار البيضاء –المغرب، المركز الثقافي العربي، ط1، 2014)، ص: 11.
10. إدوارد جونو: الفلسفة الوسيطية، مرجع سبق ذكره، ص: 140.
11. كان سينيكا معلم نيرون في صباه ثم مستشاره حين صار إمبراطورياً، وحدث من فظائع نيرون ما هو مشهور من تقتيل وتشريد، وكتب سينيكا كتاباً أسماه "الرحمة"... وفكر سينيكا آخر الأمر في أن يعتزل الحياة العامة، وأراد النزول عن جميع أملاكه، فأبى عليه ذلك نيرون، واتهم الفيلسوف بالاشتراك في مؤامرة سياسية، وأجبر على الانتحار بأمر نيرون. ورغبت زوجنه أن تموت معه، واجتمع أصدقاؤهما؛ وقطع سينيكا شرياناً من شرايين ذراعه، وكذلك فعلت زوجته، وشرع سينيكا يلقي خطبة من أبلغ خطبه على جمع من رفاقه والدم يسيل من جراحه، حتى مات. أما امرأة سينيكا فعولجت بأمر من الإمبراطور حتى شفيت من جراحها. ("حوليات" ثاكيتوس، انظر: "الفلسفة الرواقية " للدكتور عثمان أمين، مكتبة الأنجلو، القاهرة 1971، ص: 230-231).
12. بوئثيوس: عزاء الفلسفة، عادل مصطفى (المترجم)، مراجعة أحمد عتمان، (القاهرة، دار رؤية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2008)، ص: 144-145.
13. لسنا هنا بصدد الدفاع عن الدين ضد الفكر الإنساني الحر، وإنما هنا التأكيد على الكيفية التي يتحول بها الدين من تعاليم إلى أفكار إيديولوجية يؤولها رجال الدين حسب مصالحهم. لهذا لا يجب إعدام هذا التراث الضخم، بسبب جنون رجال الدين، فالدين في العصر الوسيط كان مصدراً من مصادر المعرفة، وكان عاملاً في خلق نقاشات حادة، سمحت للفكر بالتجدد والبحث عن مصادر أخرى لتنويع زوايا النظر، لذلك اتجه مفكرو العصر الوسيط إلى الفكر اليوناني والفكر العربي الإسلامي.
14. Will Durant, Histoire de la Civilisation, volume XII, l’âge de la foi III, l’Apogée du christianisme tome I (1095-1300), De Georges Waringhienn (tra.), (Suisse, éd. Rencontre 1962,) p.364: « une église qui était réellement un super Etat européen qui s’occupait du culte, de la morale, de l’éducation, des mariages, des guerres, des croisades, des morts et des testaments de la population… ». cf. Louis Jacot, Histoire Critique de la Pensée. La bataille des idées en religion, volume I, (Paris, éd. la pensée universelle), p.154. « Certes, au milieu d’un chaos indescriptible l’église resta le temple de l’esprit, mais du petit. Pendant des siècles, l’activité intellectuelle se borna à la compilation».
15. جون بيير فرنان: بين الأسطرة والسياسة، جمال شهيد (المترجم)، (دمشق، دار دمشق، الطبعة الأولى 1999)، ص: 68.
16. ديكارت: قواعد لتوجيه الفكر، مرجع سبق ذكره، ص: 40.
17. نفسه، ص: 82.
18. ديكارت: مبادئ الفلسفة، عثمان أمين (المترجم)، (القاهرة، دار الثقافة، 1975)، ص: 43.
19. رنيه ديكارت: مقالة الطريقة، جميل صليبا (المترجم)، (بيروت، المكتبة الشرقية 1970)، ص: 195.
20. جوتليب أنتوني: حلم العقل. تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة، محمد طلبة نصار (المترجم)، (القاهرة، مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، الطبعة الأولى، 2015)، ص: 377.
21. نفسه، ص: 376.
22. Ilya Prigogine, la fin des certitudes, (Paris, éd. Odile Jacob, 1996).
23. Etienne Gilson, Etude sur le rôle de la pensée médiévale dans la formation du système cartésienne,( Paris, éd. J. Vrin, Quatrième éditions 1975), p.191. « Après avoir lu le discours de la méthode, Mersenne attire l’attention de son ami la ressemblance de son argument avec celui de saint Augustin : De Civitate Dei]… [ Dés ce moment, l’attitude de Descartes s’annonce clairement : le rapprochement ne l’intéresse pas, parce que, dit-il, saint Augustin . Plus tard, à l’occasion des Méditations, c’est Arnauld qui attire l’attention de Descartes sur la ressemblance de son argument avec celui de saint Augustin. De Trinitate (livre x). Admiration de saint Augustin et de Descartes, Arnauld se réjouit de constater leur rencontre et trouvant à peu prés la même chose dans les deux textes ».
24. E. Gilson, Index scolastico-cartésien, (Paris, éd. J. Vrin, seconde édition. 1979), p. (introduction). « On a longtemps considéré que le principal titre de la gloire de Bacon et de Descartes avait été de constituer une philosophie radicalement détachée de toutes philosophie antérieur, et d’en construire l’édifice entier à nouveaux frais ».
25. François Picavet, Essais sur l'histoire générale et comparée des théologies et des philosophies Médiévales, (Paris, éd. Librairie Félix Algan, 1913), P. 329. "Descartes n'a rien inventé du tout, mais qu'il a emprunté tous ses principes de physique et de métaphysique, à quelque philosophe antérieur: le doute méthodique, le critérium de l'évidence et les règles générales de la méthode, à Aristote et à saint Augustin; la distinction de l'âme et du corps à Platon, à Epicure et aux autres philosophes dogmatiques; la preuve de l'existence de Dieu à saint Augustin, à Claudien Mamert, à saint Anselme".
26. E. Gilson, Etude sur le rôle de la pensée médiévale dans la formation du système cartésienne, Op.Cit. p. 192. « Rien dans les réponses de Descartes, ne permet de conclure qu’il ait lu ou non Augustin. Sans doute, les probabilités qu’il l’ait lu sont grandes, mais on n’en peut faire une certitude et toutes les spéculations sur se sujet sont condamnées à rester purement hypothétiques »
27. Ibid., p. 192. « Elle est définie clairement dans les quelques mots de sa réponse à Mersenne que nous avons cités. Saint Augustin peut avoir déjà dit la même chose, mais pas dans la même sens parce que en vue de la même fin »
28. Ibid., p.193 .« La question implicitement posée par Arnauld était claire : le je pense est-il le premier principe des deux philosophes ? La réponse de Descartes est aussi aimable qu’évasive »
29. Ibid., p.193 .« Vous m’avez obligé de m’avertir du passage de saint Augustin, auquel mon je pense, donc je suis a quelque rapport ; je l’ai été lire aujourd’hui en la bibliothèque de cette ville(leyde) »
30. Ibid., p.193.« Saint Augustin n’en sert pour retrouver l’image de la trinité en l’homme, au lieu que Descartes s’en sert pour prouver la distinction réelle de l’âme et du corps, avec toutes ses conséquences, cette position a été formulée par Pascal »
31. Ibid., p.195.« Exactement comme Descartes, Augustin s’est objecté à lui-même tous les arguments des sceptiques : erreurs des sens, illusions du rêve et de la folie et autres raison de douter aussi connues »
32. E . Jeauneau, la philosophie médiévale, (Paris, P.U.F. (que sais-je ?), Troisième édition, 1975).p.3 .« Elle peut et doit réveiller en nous cette faculté que tous le monde possède, si l’on en croit Plotin, mais dont peu font usage»
33. E. Gilson, Etude sur le rôle de la pensée médiévale dans la formation du système cartésien, Op.Cit. p.234. «C’est un des trait caractéristique du cartésianisme que le besoin d’en appeler à Dieu pour garantir la certitude».
34. ديكارت: مقالة الطريقة، مصدر سبق ذكره، ص: 99.
35. E. Gilson, La Liberté chez Descartes et la Théologie, (Paris, éditions J. Vrin, 1987). p.9.
36. E. Gilson, Index scolastico-cartésien, Op.Cit. p.358. « Ce qui les étonnerait peut être le plus, s’ils revenaient parmi nous, serait des philosophes qui ne soient ni des astronomes, ni des physiciens ni des biologistes. La scolastique enseignée à Descartes était tout cela à la fois ».
37. Ibid., p.359. « Une critique de la métaphysique de l’Ecole n’était pas nécessaire pour cela, car toute la doctrine étant liée dans ses principes et sa méthode »
38. Ibid., p.360.
39. وليم كلي رايت: تاريخ الفلسفة الحديثة، محمود سيد أحمد (المترجم)، إمام عبد الفتاح إمام (المراجع والمقدم)، (مصر، المشروع القومي للترجمة، ط 2، 2005)، ص: 99.
40. E. Gilson, Index scolastico-cartésien, Op.Cit. p. IV.
41. Ibid., p.360. « Le cartésianisme est donc né en de hors de la scolastique il ne s’est trouvé en conflit avec elle que parce que, pour la remplacer ».
42. E. Gilson, Réalisme thomiste et la critique de la connaissance, (Paris, éd. J. Vrin 1986), p.96.
43. Ibid., p.93.
44. Ibid. p364. «La psychologie personnelle d’un philosophe échappe à l’historien de sa philosophie»