يُعتبر السُلطان علي دِينار أحد الشخصيات التاريخية الوطنية المُؤثّرة في تاريخ السودان، وواحد من رموز النِضال الوطني في العَالم الإسلامي في القرن العشرين، ويُعدّ من أشهر السلاطين الذين حكموا إقليم دارفور، وهو آخر سلاطين سلطنة الفور بالسودان والتي تُعدّ من أقدم المَمالك الإسلامية في إفريقيا، ويَتميّز بقوة شَخصيته ورجَاحة عقله التي جعلته بطلاً عالميًا وقف أمام بريطانيا العظمى وحَليفاتها برفعه لراية الجِهاد واستنفار العالم الإسلامي للوقوف في وجه الإستعمار الأوروبي، وتمكّن من المحافظة على استقلال بلاده حقبة من الزمن، وعاش حاملاً لراية الإسلام فكانت له جهود كبيرة في نشر الدين الإسلامي، واهتم بشكلٍ خاص بقوافل الحجيج والحرمين الشريفين.

علي دِينار: الميلاد والنشأة
هو الأمير علي دِينار بن الأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل بن السلطان عبد الرحمن الرشيد، بن السلطان تيراب بن السلطان أحمد بكر، بن السلطان موسى بن السلطان سليمان سولونق، مؤسّس سلطنة الفور الإسلامية الثانية، لُقب منذ طفولته بـلقب دِينار. وتذكر الروايات في ذلك أنّه كان شابًا قاسيًا حاد الطباع ذكيًا شُجاعًا، لذلك شبّهته والدته بالنار وذلك بقولها (علي دي نار)، كما عُرف باسم (علي شرارة)، وذلك لصرامته وشراسته منذ صغره تشبيًا له بالشرار أو النار، ورواية أخرى تقول إنّه كان وسيم الطلعة فشُبه بعملة الدينار1، وُلِد بقرية الشاواية شمال غرب مدينة نيالا بين عامي 1856-1870م، وهو الابن الوحيد للأمير زكريا بن السلطان محمد الفضل، الذي ولّاه والده إمارة شرق دارفور، وقد نشأ علي دينار في فترة الاضطراب السياسي الذي أعقب الغزو التُركي المصري لدارفور، وقد اتصف منذ طفولته المبكّرة بالشجاعة والذكاء، وأظهر شجاعةً وجرأةً فائقةً في ميادين القتال، الأمر الذي جعل أهل الفور ينتخبونه لقيادتهم عقب مقتل عمه2.
نشاطه وحكمه:
بدأ نشاط علي دِينار السياسي بوجوده في معسكر عمه أبي الخيرات الثائر ضد المهدية، وقد ساعد وجوده في هذا المعسكر بصورةٍ كبيرةٍ في اكسابه خبرة في ممارسة الحياة العسكرية والسياسية والتعامل معها بكفاءةٍ عاليةٍ مِما ساعده في بناء وتطوير مهاراته للقيادة، وبعد مقتل أبي الخيرات اختاره أهل دارفور ليتولى قيادة السلطنة عام 1889م، وتحرير دارفور من قبضة المهدية على أن تكون دولة مستقلة بذاتها، وأطلق على نفسه سلطان، واتخذ من مدينة الفاشر عاصمة لسلطنته، وتعتبر الفاشر من أقدم وأعرق مدن السودان عامةً ودارفور خاصةً، وتُعتبر من أكبر المراكز التجارية والثقافية بغرب السودان؛ واستطاع علي دينار أن يُؤسّس سلطنة الفور الثانية (1901–1916م)، وعندما وقع السودان فريسةً في يد الحكم الثنائي (الإنجليزي المصري) عام 1899م اعترفت الحكومة الثنائية في عام 1901م بعلي دِينار سلطانًا على دارفور.
وكان السلطان علي دينار حازمًا في إدارته؛ فلم يرض بدخول الأجانب إلى السلطنة لذلك أحكم ضبطها وأدّب القبائل الخارجة عنه وأعادهم إلى دائرة حكمه، وباعتلائه العرش قام بإصلاحاتٍ سياسية واقتصادية عدة في دارفور، فاهتم علي دينار بتأسيس دولة دينية قوية قائمة على تعاليم الشريعة الإسلامية ونظام العدالة الاجتماعية، وأقام نظامًا إداريًا متطوّرًا لتسيير دفة الحكم، كما كوّن مَجلسًا للشورى من العلماء والمشايخ، وسعى في بناء وتطوير العلاقات بين دارفور والعالم الخارجي، واستمر في جهوده حتى استشهاده في معركة برنجية ضد الجيش البريطاني الغازي عام 1335هـ/1916م3.

أعماله وإنجازاته:
في الحقيقة لقد أصبحت دارفور في عهده في القوة في مصاف الدول العالمية الكبرى، فقد كان للسلطان علي دِينار أيدلوجية فذّة في التعامل حتى مع المستعمر الذي انتزع أرض الوطن، وذلك حرصًا منه على استقلال أرض أجداده من أي غزو خارجي، ولذا كانت له علاقات دبلوماسية متينة مع العالم الخارجي، وأقرب هذه العلاقات تلك التي رسمها مع الحكومة الثنائية لحماية استقلاله لمدة تجاوزت ثمانية عشرة عامًا، وساهم في كيفية الحِفاظ على حسن العلاقات بين الطرفين في شتى النواحي، كما كان يتحتّم عليه حماية دولته من خطر الاستعمار الفرنسي في الجهة الغربية في بدايات القرن العشرين، والوقوف كذلك مع العالم الإسلامي المُتمثّل في تركيا والحركة السنوسية لوقف الزحف الاستعماري الأوروبي مع المحافظة على علاقته بالحكومة البريطانية، وكلّل السلطان تلك العلاقات بوقوفه بجانب تركيا في الحرب العالمية الأولى ضد بريطانيا وحليفاتها، الأمر الذي أغضب بريطانيا ودفعها لاحتلال دارفور من جديد والقضاء عليه في عام 1916م.
كما كان لعلي دِينار العديد من الإسهامات والأعمال الحضارية، فاهتم بنشر الإسلام، وكان عميق الإيمان مواليًا للإسلام والمسلمين، عالمًا مُحبًا للعلم والعلماء ورجال الدين، وقد حاز على مكانة دينية في منطقة غرب إفريقيا بتأسيس المساجد وخلاوي القرآن الكريم ورعاية طلاب العلم وحفظة القرآن، حتى أطلق مسلمو غرب إفريقيا على دارفور اسم (دفتي المصحف) لكثرة حفظة القرآن الكريم. كما أنه كان يحتضن معظم العلماء الذين يجوبون مملكته لإثراء كل ما يخص الإسلام وتعاليمه، وكانت علاقته بالعلماء لها دور كبير في توثيق الصلاة بين السلطنة والمَمالك الإسلامية الأخرى في شمال غرب إفريقيا، وعلى إثر تلك العلاقة كان العلماء يدعمونه بدعواتهم وإرشاداهم، فساعد ذلك في تنمية الوعي الفِكري والمعرفي لإنسان دارفور، وبذلك يُمكن القول إنّ علي دينار نجح في إعمار دارفور من خلال تنشيطه للحركة العلمية والثقافية وبناء المؤسّسات الدينية، كما كان مُعترفًا بالروابط الإسلامية لدارفور مع الخلافة العثمانية كسائر الدول الإسلامية الأخرى؛ حيث كانت تركيا آنذاك صارت رمزًا لوحدة الأمة الإسلامية تحت مظلّة الخلافة العثمانية4.
اهتمامه بالحج والحرمين الشريفين:
اشتهر السلطان علي دينار بحبه الفيّاض للأراضي المقدسة، فعمل على إحياء سنة أسلافه سلاطين الفور الذين دَرجوا على خلق علاقاتٍ دبلوماسية وثقافية مع الحجاز، وقد لعب دورًا بارزًا في خدمة بيت الله الحرام وحجّاجه، وحافظ على استمرار إرسال المحمل والصُرة إلى الكعبة المُشرّفة حتى وفاته عام 1916م، ويُعتبر سلاطين مملكة الفور الإسلامية 1640-1916م التي قامت في إقليم دارفور غرب السودان، من الحكام الذين كانوا يقومون بكسوة الكعبة المُشرّفة، وإرسال الهدايا لفقراء مكة والمدينة كل موسم حج، هذا التقليد كان متبعًا منذ وقت مبكر من نشأة سلطنة الفور وواظب عليه عدد من السلاطين، ولذلك عُرفت دارفور بأرض المحمل وكسوة الكعبة.
ويُعتبر السلطان علي دينار 1900-1916م، الأكثر شهرة بين هؤلاء السلاطين. وأقام مصنعًا لصناعة كسوة الكعبة، وظل طوال عشرين عامًا تقريبًا يُرسل كسوة الكعبة لمكة المُكرّمة5، خاصة بعد تعطيل الإنجليز للقافلة السنوية التي كانت تذهب من مصر إلى مكة المكرمة حاملة كسوة الكعبة، كما يُنسب إليه أيضًا حفر أبيار علي ميقات أهل المدينة للإحرام للحج والعمرة بجوار المدينة المنورة والتي عُرفت باسمه، كما يُنسب إليه تجديد مسجد ذي الحُليفة، وكان السلطان يُرحّب بالحُجّاج القادمين من غرب إفريقيا عبر بلاده كعادة سابقيه من سلاطين دارفور، ويُكرم وِفادتهم ويُسلّمهم خطابات للحكومة لتسهيل الطريق ومدهم بما يُلزمهم6.
قصر علي دِينار: تحفةٌ فنية تحكي تاريخ السودان

يُعتبر قصر السلطان علي دِينار من أروع المنشآت ذات الطرز المِعمارية المُتميّزة في السودان، ويُعدّ من أهم المتاحف في دارفور وذلك لعدد من العوامل والأسباب والتي من أهمها شخصية السلطان علي دِينار سلطان دارفور، ومكانته في العالمين العربي والإسلامي، ويقع قصره في قلب مدينة الفَاشر بولاية شمال دارفور، وقد بدأ العمل في تشييد قصره عام1911م واكتمل بناؤه في عام 1912م، وقد قام بتشييده بنّاؤون أتراك وإغريق استلهموا في بنائه الإرث المِعماري الإسلامي التُركي، تحت إشراف مهندس تركي يُدعى الحاج عبد الرازق، وبنّائين مِصرين ومهندسيْن إغريقيين هما ديمري وتوماس اللذان قاما بأعمال النجارة، ويتكون القصر من غرفتن في الطابق الأرضي وغرفتين في الطابق الأول ويتخلّلها براندتان وسلم، ولم يُستخدم القصر لأغراض السكن بل لإدارة الدولة، وكان السلطان يُدير سلطنة دارفور من هذا القصر، وتُعتبر ساحة القصر محكمة العدل النهائية وساحة للاحتفالات الوطنية والاستعراضات والمقابلات الرسمية، ويُحيط بالقصر المخازن ومساكن الحرس والإصطبلات وغرف الضيافة وماشابهها، وكانت توضع في القصر الهدايا والغنائم القيمة التي كانت ترد إلى السلطان، وبعد وفاة علي دينار أصبح القصر مقرًا لقائد القوة البريطانية، ثم أصبح مقرًا للمحافظين الوطنيين حتى عام 1976م. وتمّ تحويل القصر لمُتحفٍ يؤرخ للسلطنة وحضارات السودان النوبية القديمة عام 1977م، ويُعتبر من أبرز المؤسّسات المهتمة بالتاريخ والتراث الثقافي والحضاري بما يحتويه من مقتنياتٍ فنية رائعة، تعود للفترات والحقب التاريخية المختلفة لعل أهمها المقتنيات الخاصة بالسلطان علي دينار7.
ختم السلطان علي دينار السادس
وأخيرًا؛ فإن السلطان علي دينار هو شخصية تاريخية بارزة في تاريخ السودان، وتجمّعت في شخصيته مقومات الزعامة والرؤية الاستراتيجية، وأثّرت جهوده ورؤيته في تحقيق التقدم والاستقرار في إقليم دارفور، فلم يرضخ لابتزاز الإنجليز لاستمالته واستعماله في نهب خيرات بلاده، واستطاع أن يترك بصماتة الواضحة على الساحة السياسية والثقافية والتي ما زالت حاضرةً في ذاكرة دارفور والسودان بأسره.
الهوامش: 1. أبو هريرة عبد الله يعقوب، السياسية الداخلية لسلطنة الفور في عهد السلطان علي دينار (1316-1335هـ/1898-1916م)، رسالة دكتوراه، جامعة أم درمان الإسلامية، 1999م، ص: 30.┋2. أحمد سمي جدو، النزاعات الداخلية التي واجهت السلطان علي دينار خلال فترة حكمه 1900-1916م، مجلة الدراسات السودانية والدولية، ع1، 2021م، ص: 173.┋3. حليمة عبد الرحمن صندل، العلاقة بين السلطان علي دينار والخلافة العثمانية، مجلة العلوم الإسلامية واللغة العربية، ع3، 2019م، ص: 284.┋4. أبكر عبد البنات آدم، العلم والعلماء في عهد السلطان علي الدينار، مجلة العلوم والدراسات الإنسانية، ع47، 2018م، ص: 1-12.┋5. محمد آدم حامد، محمل وصرة السلطان على دينار إلى الحرمين الشريفين1916-1900م، مجلة جامعة الزيتونة الدولية، ع3، 2022م، ص: 291–30.┋6. أبكر عبد البنات آدم، العلم والعلماء في عهد السلطان علي الدينار، ص: 2.┋7. مريم سليمان دقيس، متحف قصر السلطان علي دينار، مجلة القلزم للدراسات التوثيقية، ع11، 2022م، ص: 75-98.
صورة المقال الرئيسية ◂ لوحة ألمانية للإمام علي دينار من دارفور يهاجم القوات الإنجليزية