تلتقي الكتابة بالحرب في كونهما معاً يتأسسان على الخدعة. خدعة تراهن على الإيهام بما تعتبره حقيقة، والهدف إقناع المتلقي بصدقية الخطاب المصرح به بصرف النظر عن مطابقته للواقع. قديماً قيل: "أعذب الشعر أكذبه". لكن؛ رغم التقاء حدي هذه المعادلة في الوسيلة؛ فإن الكتابة تقف على طرف نقيض من الحرب بانتصارها للحياة. علماً أن الحرب تبقى -كحدث تراجيدي- قادرة على إثارة مخيلة الشاعر واستفزاز الروائي للحكي.. دون أن يكون الرهان هو التطابق مع ما وقع.. يكفي أن نستحضر في هذا المقام انتقاد البعض لرواية "الحرب والسلم"، حيث نظروا إليها كتاريخ أكثر منها رواية للغزو النابليوني لروسيا، وإن كان تولستوي قد أفرد –في الراوية- حيزاً هاماً لمساءلة حرية الإرادة الإنسانية والحتمية، وفلسفة التاريخ، فضلاً عن توقفه بعمق عند المراحل الطبيعية للنمو البشري: كالولادة والزواج والموت.
الكتابة عن الحرب بالنتيجة شهادة على دول نازفة، أو جماعات سرقت منها سعادتها في غفلة منها. لكن قد يعترض معارض قائلاً: وما جدوى الكتابة في زمن الحرب والواقع مصر على استمرار الكارثة؟ وهذا اعتراض مردود عليه على اعتبار أن تعديل واقع القتل والتطاحن يبدأ بالكتابة.. فالكلمة لها سلطتها. الكتابة بهذا المعنى وسيلة للحلم بالسلام وشجب للقتل.. إن وصفاً دقيقاً ودالاً لرصاصة، وهي تخترق لحماً آدمياً، أو قنابل فتاكة تتربص بحياة الأبرياء، تحمل بعض المقاتلين على التفكير مرات ومرات قبل الضغط على الزناد.. كما أن الوقوف عند هذه الوقائع الحربية يكشف عن البعد العدواني في الإنسان، ويضعه وجهاً لوجه مع جذوره الحيوانية. لهذا تبدو الكتابة في زمن الحرب -وإن بدت للبعض فعلاً عبثياً ولا جدوى منها- لها حسنة التبشير بالسلام، من خلال شجبها لفداحة القتل ووجع الفقدان. والكاتب بسبب آليات استشعاره للمأساة، هو أكثر تفاعلاً مع الحرب، وإن كانت الكتابة عن براميل البارود ورصاص المتحاربين لا تستثني الكتاب أنفسهم. الكتابة عن الحرب من هذا المنطلق منتهى الشجاعة. فمحاربة القبح بالكتابة، والإبداع أفضل من الصمت عن البشاعة؛ إذ يستحيل أن يبقى الكاتب محايداً عن المتاجرة بأرواح الناس.. وكتابة مماثلة، وإن لونت بالوجع والألم بسبب انغماسها في وحل القصف والدم والجثث، وروائح البارود كتابة مقاومة لليأس والتسليم بالأمر الواقع. يقول فراس السواح في هذا الأفق: "فجنوح نزعة الإنسان إلى الحرب منذ بداية تشكيل المجموعات البشرية إلى يومنا هذا، أوضح تجليات النزعة التدميرية الذاتية، فبصرف النظر عن كل التبريرات العقلانية، وبواقع البطولة الرومانسية فليست الحرب إلا اندفاعاً لاشعورياً نحو الموت، وتلبية لنداء داخلي بإيقاف الحياة، ونداء يصدر عن عشتار السوداء التي رفعها الإنسان، إلهة للحرب"1.
{1}
∵∴∷ الحرب في الأسطورة ∵∴∷
تعد الإليادة2 والأوديسا3 من أهم وأعرق ما كتب في تاريخ الأسطورة العالمية عن الحرب، مع اختلاف بسيط في كون الإليادة ملحمة بطولية تحكي حرب طروادة في سنتها الأخيرة.. بينما الأوديسا تبدأ بنهاية حصار طروادة، وعودة "أوليس" إلى زوجته "بنيلوب". عودة استغرقت عشر سنوات بسبب غضب إله البحر "بوسيدون".. وهو أمر عرض زوجة أوليس لإغراءات بالزواج لا حصر لها، بالنظر لطول مدة غيابه.. محك جعلها تفوز بصفة أوفى الوافيات في تاريخ الأسطورة الإغريقية على الإطلاق.
أما حرب طروادة في الإليادة فيرجعها هوميروس لخطف "باريس" لـ"هلين" زوجة الملك "مينيلاس" ملك إسبرطا. فبعد وقوعها في حب "باريس" ابن "بريام" ملك طروادة، التي كانت تنافس إسبرطا في الجاه والنفوذ تفر رفقته طواعية، وهو أمر جلب الإهانة لملك إسبرطا الذي حشد جيشاً ضخماً وزحف على طروادة بهدف الانتقام لنفسه ومدينته.. ولعل ما رجح كفته هو دعم ملوك اليونان له. وعلى سواحل طروادة نشب قتال عظيم واستمر عشر سنوات. وفجأة تفتق ذهن "يوليسوس" أحد قادة جيش إسبرطا عن فكرة الحصان الخشبي الضخم، المحشو بكتيبة من خيرة المحاربين. حصان ترك عند أسوار المدينة مهملاً؛ وكأنه علامة دالة على الهزيمة.. حيلة انطلت على جنود طروادة الذين أدخلوه كدليل انكسار شوكة إسبرطا.. ولما حل الليل نام جيش طروادة مطمئناً، حينها خرج جنود إسبرطا وعاثوا في جنود طروادة ذبحاً وتقتيلاً، ثم فتحوا أبواب المدينة وأعطوا إشارة الهجوم من كل ناحية.. لتكون نهاية طروادة بسبب الحصان الخشبي الذي أصبح رمزاً للخديعة، والحيلة على امتداد التاريخ البشري... وخلافاً لما انتهت إليه الأسطورة التي اعتبرت أن سبب الحرب هو خطف باريس لـ"هلين"؛ فإن التاريخ ذهب إلى أن السبب الحقيقي للحرب هو التنافس على التجارة والسيطرة البحرية على جزر بحر "إيجه"، وسواحل الأناضول نتيجة تأسست على الحفريات المفضية لخرائب مدينة طروادة، التي وجدت تحت تلال الرمال على شاطئ البسفور.
تلتقي إذن الأسطورة مع التاريخ في كون الحرب وقعت فعلاً حوالي القرن الثاني عشر قبل الميلاد، ويختلفان في الكثير من الجزئيات.. لكن الأهم هو أن حرب طروادة في الأسطورة عرفت وقائع وأحداثاً بطولية منها: أن "أسخليوس" عد أشهر محاربي طروادة. ذاك الفتى الذي قامت أمه بغمره في مياه نهر "سيتكس"، غير أنها حين غمرته لم تصل المياه لكعبه فكانت هذه نقطة ضعفه. وحسب نبوءات العرافات اللواتي استبقن أحداث حرب طروادة، كن قد تنبأن أن سبب الانتصار لمدة طويلة سيكون "أشيل" الذي توفق لاحقاً في إلحاق هزائمه بجيش "أجامنون" طوال تسعة سنوات من الحرب الضروس. لكنه سيقتل في الأخير بطروادة على يد باريس.. و"باريس" هذا هو الذي قام بفعل التحكيم في قصة التفاحة التي ستهدى لأجمل امرأة من ثلاثة إلهات الإغريق الأكثر شهرة وجمالاً.
الحرب في الأسطورة إذن؛ امتداد لحالة الصراع الطبيعي من أجل البقاء، وإن تطورت وسائل الصراع، وعدد المتصارعين ونتائج الصراع. فإن كانت فترة الطبيعة في تاريخ الحضارة قد احتكمت للقوة العضلية وبالتالي سيادة الأقوى؛ فإن فترة الثقافة أصبح فيها الاحتكام لقوة الأفكار لا قوة الأجساد. الحرب في الأسطورة بالنتيجة حكمتها عدة رؤى منها الرؤية الأخلاقية (صراع خير/شر)، والرؤية الإقتصادية (مالك/معدم)، والتصور الأول، وإن كان أقدم فإن الرؤية الاقتصادية أكثر تطابقاً مع الواقع على اعتبار أن الحرب لم تنشأ بنشأة الإنسان؛ وإنما ظهرت مع تملكه الذي أفرز علاقة جديدة: أقصد من يملك يخدمه من لا يملك. وأضحى المالك والملكية مصدر حروب حتى يحافظ على امتيازاته.. وهو ما وقع بالضبط في أسطورة جلجامش في العراق القديم، والرمانايا في الهند، وملحمة فيروز شاه ببلاد الفرس.
{2}
∵∴∷ الحرب في الشعر ∵∴∷
واكب الشعراء المعارك والأيام والحروب، وتقاسموا مع الفرسان دور البطولة في صناعة الحرب، ببث روح الحماسة وذكر الأمجاد والأحساب. أما لحظة نهاية الحرب فكان للشعراء فيها دور مضاعف: أقصد رثاء القتلى وتمجيد الأحياء المنتصرين، وتعداد خسائر الخصم والتسويق لانتصار القبيلة أو الأمة على نحو ما تفعله وسائل الإعلام راهناً.. كان للكلمة حضور حاسم في انطلاق الحرب أو إخمادها. بل إن الحرب في نظر الكثير من دارسي الشعر اقترنت بالوقائع والأيام، كما هو الأمر عند محمد بن سلام الجمحي في طبقاته حيث قال: "وكان قوم قلت وقائعهم وأشعارهم، فأرادوا أن يلحقوا بمن له الوقائع والأيام". ويضيف في نفس المرجع "وإنما كان يكثر الشعر بالحروب التي بين الأحياء، نحو حرب الأوس والخزرج، أو قوم يغيرون ويغار عليهم، والذي قلل شعر قريش أنه لم يكن بينهم ثائرة، ولم يحاربوا، وذلك الذي قلل شعر عمان"4.
ومعلوم أن العرب دأبوا على تسمية حروبهم بالأيام "وعرفت بأسماء الأماكن التي وقعت فيها هذه المعارك كيوم كلاب وسعب جبلة، وآراب، وجدود، وأعشاش، أو بأسماء الأشخاص أو الحوادث البارزة فيها، كيوم البسوس، ويوم حليمة، ويوم داحس والغبراء"5. كان تصوير الشعر للحرب دقيقاً وعميقاً في وصف السلاح والخصم وطعم الموت ونكهة النصر. مع التركيز على مفارقة الحرب التي تغري الفارس بالمكاسب، وتخدعه بالمنية المفاجئة ذات المذاق المر. وهو ما عبر عنه زهير بن أبي سلمى حكيم العرب وشاعرها بقوله:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ... وما هو عنها بالحديث المرجم
فقط تجدر الإشارة هنا إلى أمر مفاده أن واقع الرعي والترحال بالقبائل العربية قبل الإسلام، ساهم في تطوير الصراع على ملكية المياه والحقول بالنظر لاقتصاد الرعي.. ودفع بالأفراد لتعاطي الفروسية إلى جانب قرض الشعر، أمر جعل مهمة الفارس/الشاعر حاسمة في الحياة البدوية آنذاك.. وظيفتان لعبتا دوراً حاسماً في مواكبة لحظات ما قبل وأثناء وما بعد الحرب. وإلى جانب العامل الاقتصادي الذي حفز على نشوب الحروب، يضاف العامل الاجتماعي القائم على أخذ الثأر، ظاهرة سيطرت على عقل البدوي لدرجة جعلها شريعة مقدسة.. وبالعودة للفارس/الشاعر يمكن استحضار المهلهل بن ربيعة التغلبي فارس حرب البسوس، الذي أشعل نار الحرب ثأراً لأخيه كليب، وعامر بن الطفيل، فارس قيس، ودريد بن الصمة، وعروة بن الورد، وقيس بن زهير. غير أن أشهرهم هو عنترة بن شداد الذي طارت شهرته بالفروسية، وإنشاد الشعر في سماء العرب، بسبب بلائه البلاء الحسن في حرب داحس والغبراء. لنتوقف عند معلقته الشهيرة حيث أنشد:
هـلا سـألـت الـخـيل يا ابنـة مالك ... إن كنت جاهلــة بـمـا لــــم تعلمـي
يـخبرك من شـهد الوقــيعـة أنـنـي ... أغشى الوغى، وأعف عند الـمغـنم
ولقد حفظت وصاة عمي بالضحى ... إذ تقلص الشفتان عن وضح الفـم
فـي حومـة الـموت التـي لا نـشتكي ... غـمراتـها الأبـطال غـيـر تـغـمـغم
يـدعون عـنتــرة والـرمـاح كـأنـهـا ... أشــطــان بــــئـر فـي لبـان الأدهم
وللحرب في فترة ما قبل الإسلام طقوس كالإغارة صباحاً، وعدم القتال في الأشهر الحرم، شهور عدت استراحة للمحارب، وهدنة تأخذها القبائل، ويعيش فيها الفرد آمناً على نفسه وماله وعشيرته. كما أن إشعال النار يعد حدثاً بارزاً في طقس الإقدام على الحرب "كانوا إذا أرادوا حرباً أو توقعوا جيشاً. وأرادوا الاجتماع، أوقدوها ليلاً على جبل لتجميع عشائرهم، فإذا جدوا وأعجلوا أوقدوا ناريين، فإشعال النار إنذار بالحرب التي ستجر الويلات كما تجر النار الويل والدمار والخراب"6.
وبالموازاة لهذه الطقوس عرفت شعوب ما قبل الإسلام الراية، وهي تمثل القبيلة ورمزيتها الدالة على الرفعة والكرامة.. وكلما بقيت مرفرفة دلت على النصر، وإذا سقطت أشرت على الهزيمة.. ومن عادات الثأر اعتزال النساء والخمر والطيب والاغتسال.. أما لحظة الرثاء فيصاحبها النواح والحزن. ومن تقاليد الثأر وعاداته، جز ناصية الفرس، وتقصير شعر الرجل كما المرأة، وهي عادات ذات جذور أسطورية. كما عرف العرب ما يشبه الحرب النفسية بإشعال النار بكثرة؛ لإيهام الخصم بكثرتهم، وإدخال الرعب عليه، وإحباطه قبل انطلاق الحرب..
ننتهي إلى أن الحرب لم تكن الخيار المفضل لدى عرب ما قبل الإسلام، بقدر ما كانت نتيجة حتمية للظروف البيئية والاجتماعية والاقتصادية، التي فرضت عليهم فرضاً مثل مفهوم الثأر، وبعض الأعراف السائدة آنذاك، التي شجعت على كثرة الحروب، وإن آمنت غالبية المجتمع بالسلام، وفضلوه بدليل أن ابن عبد ربه أورد في "عقده الفريد" قولة كثيرة التردد تفيد شجب الحرب أقصد "الداعي إليها باغ والباغي مصروع".
تبقى الإشارة إلى أن الحرب من الوجهة الحضارية عدت لحظة مفصلية في صناعة التاريخ، "وهي في الوقت نفسه (صانعة) الحدود التي تميز التحولات العظيمة للأحداث، ذلك أنه عن طريق الحرب انهارت تقريباً كل الحضارات المعروفة، وتحولت المدن الكبرى إلى أطلال، وتحول الناس إلى أشباح تائهة"7.
{3}
∵∴∷ الحرب في الرواية ∵∴∷
ثمة علاقة وثيقة بين الرواية والحرب. فوقوع الحرب يستدعي حتماً رواة لسرد وقائعها.. فقط هذا لا يعني أن الروائي مطالب بلعب دور مراسل الحرب حصراً. صحيح هناك أدباء صحفيون كتبوا عن الحرب من قلب الحدث، لكنهم شكلوا الاستثناء: أفكر في جمال الغيطاني، ويوسف القعيد اللذين عاصرا حرب (67) وكتبا عنها. وغسان كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا اللذين عاشا الحرب المريرة والطويلة مع إسرائيل وكتبا عنها.
والرواية باعتبارها صوت الجماعة تجسد عوالم الصراع، وتطرح وجهات نظر مساندة، أو شاجبة للحرب ليس من باب التطابق مع الواقع، ولكن من شرفة تأمل جرح أبله يسعى الإنسان إليه بعبثية لافتة للانتباه، وهو يعلم تماماً أن الحرب زمن الخسران الشامل، والغياب المطلق.. إن لم نقل زمان العاهات الجسدية والنفسية، حيث الخوف شعور ملازم للمحارب وغير المحارب. زمن الهشاشة الإنسانية المدمرة والمنتجة لغربة الكائن والمكان. بالنتيجة مأساوية الحرب تكمن -من جهة- في فجائية الموت غير المنتظر، و-من جهة ثانية- في عجز العقل والفكر في تدبير الاختلاف. والرواية بحكم بنائها المركب، ورهانها على الاستطراد والامتداد، قادرة أكثر من غيرها على رصد القسوة القصوى للحرب كزمن الخسارات الفادحة، وإن كان البعض يتحدث عن غنائمه الواهية.. فتاريخ الحرب تاريخ حتمية الموت والشك في هشاشة الحياة، والشعور بالعبث والضياع وهواجس الخوف. إذ العيش داخل الحرب كفيل برفع شك الموت إلى مرتبة اليقين.
ورغم الزمن القصير لعمر الرواية العالمية؛ فإنها توفقت في رصد جراح وأوجاع الحروب بمختلف تلويناتها. حروب وإن كانت أشد إيلاماً وقسوة على الإنسان؛ فإنها شكلت مصدراً ملهماً للكتابة يكفي استحضار الرواية الضخمة "الحرب والسلم" التي رصدت بكثير من الدقة وقائع غزو نابليون لروسيا سنة 1812، ثم دخوله موسكو وانسحابه بعد الخيبة والفشل في مواجهة الشتاء الروسي القارس، ورفض القيصر الروسي ألكسندر الأول الاستسلام. لكنها رواية لا تتوقف عند الوقائع التاريخية بقدر ما تمتد لرصد تحول خمس عائلات روسية، ومن خلالهم تتوقف عند التغيرات التي لحقت الطبقة الارستقراطية.
وفي ذات الأفق تسير رواية "وداعاً للسلاح" لارنست همنغواي: رواية وإن كانت ترصد قصة حب مغترب أمريكي بأحد المستشفيات الميدانية الإيطالية لممرضة شابة؛ فإن خلفيتها العامة ترصد أجواء الحرب على الجبهات المشتعلة، وأوضاع الجنود المزرية، ودفع المدنيين لثمن الحرب الباهظ. والرواية تبدو مطابقة لحدود بعيدة للحياة الواقعية لهمنغواي إثر مشاركته كجندي في الجبهة الإيطالية. بل إن رفض ممرضة اعتنت به، الزواج منه يرجح أن يكون سبب انتحاره لعدم قدرته على نسيانها... وبنفس الخلفية تقريباً كتب روايته "لمن تدق الأجراس"، التي وثقت للحرب الأهلية الإسبانية (1936/1939)، حيث كان القتال شرساً بهدف إسقاط الملكية بإسبانيا. وكان همنغواي أيامها يغطي أخبار الحرب بوصفه صحفياً. ونفس الحقبة والأحداث الحربية كانت ملهمة لجورج أرويل الذي كان جندياً إلى جانب الثوار في كتالونيا، بكتابة روايته "مزرعة الحيونات".
في السياق العربي تحضر رواية "الشراع والعاصفة" لحنا مينة، التي حكت قصة مدينة سورية ساحلية أثناء الحرب العالمية الثانية، حيث صور الروائي فيها أثر الحرب والاحتلال الفرنسي، وما تركاه من أثار على المجتمع السوري.. فضلاً عن روايات انصرفت لرصد جرح الحرب وتبعاته من قبيل "زقاق المدق" لنجيب محفوظ، و"لا أحد ينام في الإسكندرية" لإبراهيم عبد المجيد. و"طواحين بيروت" لتوفيق يوسف عواد. و"كتاب دمشق: حاء الحب..راء الحرب" لهزوان الوز الفائزة بجائزة دمشق للرواية العربية. و"ربيع حار" لسحر خليفة. و"حارث المياه" لهدى بركات. و أعمال أخرى مشابهة.
نخلص إلى أن الحرب شكلت مكوناً أساسياً من الوجود البشري، والحياة المتسمة بالتناقض في كل شيء. فالعدل يواجهه الظلم، والسلام يقابله الحرب، والحب يعارضه الكره. صحيح أن الحرب مثلت مقبرة الرجال ومصدر الإبادة، ورحى طاحنة أتلفت الأرواح كما الممتلكات، لكن مع ذلك ظلت فعلاً أساسياً ترجم تناقضات الإنسان، الذي وإن وصف بالعقل فإن لجوءه للحرب فند هذه الصفة، مادامت الحرب في نهاية الأمر عملاً من أعمال العنف بهدف إرغام الخصم على تنفيذ إرادة طرف دون رضا أو قبول الطرف الثاني. تأتي الكتابة الأدبية لاحقة لتجلية هذه التشوهات البشرية، وتعمل على إبرازها علّ الكلمة تكون يوماً ما جسراً لخلاص الإنسان من عنفه وعدوانيته..
إحالات: 1. فراس السواح: لغز عشتار (الألوهة المؤنثة وأصل الدين والأسطورة)، ط6، دار علاءالدين، دمشق، 1996 ص: 235-236. | 2. هوميروس. الإلياذة. ترجمة دريني خشبة. دار التنوير للنشر والطباعة. ط1. 2014 | 3. الأوديسة. هوميروس. ترجمة دريني خشبة. دار التنوير للنشر والطباعة. ط 1. 2013. | 4. حمد بن سلام الجمحي. طبقات الشعراء. دار الكتب العلمية. بيروت. 2001. ص: 193. | 5. نوري حمودي. القيسي. الفروسية في الشعر الجاهلي. ط2. مكتبة النهضة العربية. 1984. ص: 96. | 6. عبد القادر بن عمر البغدادي. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب. تحقيق عبد السلام هارون. ج7. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1979. ص: 152. | 7. سيار الجميل. الحرب:ظاهرة تاريخية. ضمن مجلة عالم الفكر. المجلد36. أكتوبر ديسمبر. الكويت، 2007.