مـا لا يمكنُ اختزاله.. عند جون فوس

بقلم: كارل أوفه كناوسغارد

ترجمة: جابر طاحون

 


في هذا المادة يتحدث النرويجي كارل أوفه كناوسغارد Karl Ove Knausgaard ، صاحب روايات "كفاحي" الشهيرة عن الفائز بنوبل مؤخراً، أستاذه جون فوس Jon Fosse.

 

في الأيام القليلة الماضية أعدتُ قراءة مقالات جون فوس المكتوبة جميعها بين عامي 1983 و2000؛ أي في النصف الأول للمناوبة المتغيرة والمتواصلة بشكل غريب، والتي على الرغم من ظهورها في العديد من الأشكال المختلفة - الروايات والشعر والنثر القصير والدراما - فقد حملت دائمًا الشيء نفسه، سمة مميزة لا لبس فيها. ما يظهر في رواية فوس الأولى عام 1983 (أحمر، أسود)، لا يختلف كثيرًا عما يظهر في مسرحيته الأولى (ولن نفترق أبدًا)، والتي كتبها بعد عشر سنوات، أو أحدث رواياته (التعب)، المنشورة في عام 2014، بعد مرور عشرين عامًا أخرى.

ممّ يتكون هذا الوضوح البادي في كل ما كتبه جون فوس؟ ليس من أسلوبه، ولا التكرار والالتفاف، ولا الطبقات الدماغية، ولا زخارفه، ولا تلك المضايق وكل القوارب والأمطار، ولا كل هؤلاء الإخوة وكل تلك الموسيقى، ولكنه أكثر ما يتجلى في كل هذه الأشياء.

ما هو؟

يعكس بطل ميشيل ويلبيك في روايته استسلام طبيعة الأدب، والتي يقول: إنه ليس من الصعب تحديدها. مثل الأدب، يمكن للموسيقى أن تغمرنا بعاطفة مفاجئة، والرسم يمكن أن يرينا العالم بعيون جديدة، لكن الأدب وحده هو القادرة على وصلنا بروح إنسانية أخرى بكل نقاط ضعفها وجلالها، وهذا الحضور لشخص آخر هو -كما يقترح- جوهر الأدب، ويضيف إلى ذلك دهشته من أن الفلاسفة لم يخصصوا سوى القليل من الاهتمام لمثل هذه الملاحظة البسيطة.

قِلةٌ من الكتاب المعاصرين يمكن أن يكونوا بعيدين عن جون فوس، والمكان الذي يقف فيه أكثر من ميشيل ويلبيك. روايات ويلبيك مبينة على صورة ذهنية، تحريضية ومنخرطة مع الحداثة، وخيبة الأمل والذكاء وكراهية البشرية، ويبدو بطريقة ما أنها تُجابه القارئ. بالكاد تحتوي كتابات فوس على صورة ذهنية، ولا يكون ضمنها استفزاز، حدة الحداثة أقل أو متجنبة تمامًا، وعلى الرغم من أن عمله غالبًا ما يقترب من الموت، ويستكشف نوعًا من نقطة الصفر الوجودية، إلا أنه لا يخيب أمله أبدًا، وبالتأكيد ليس كارهًا للبشرية، ولكن مليء بالأمل. ظلام فوس دائمًا ما يكون مضيئًا، كذلك كتاباته لا تسعى لأن تجابه القارئ، بل هي براح تمامًا. تعكس كتابات ويلبيك كل شيء، وتعيد كل شيء إلى الوراء، وفيها يرى القارئ نفسه وزمنه، في حين أن كتابات فوس تستوعب القارئ... هذه هي الخصائص الأساسية لعمل فوس، في حين أن العكس هو الخصائص الأساسية لـ ويلبيك، وفي هذا يقف الكاتبان على طرفي فجوة.

ما يجمعهما سويًا هو ما يجعل عملهم أدبًا، وما يلفت انتباهنا ويلبيك إليه في رواية استسلام بعبارات بسيطة بشكل استفزازي: حضور الروح الإنسانية في الكتابة. لا يتعلق الأمر بالأسلوب أو الشكل أو الموضوع أو المحتوى، بل يتعلق بكتابة فرد معين يتردد صداها فيناً، بغضّ النظر عما إذا كُنّا نقرأ رواية روسية من أواخر القرن التاسع عشر مكتوبة بضمير المخاطب، أو بضمير المتكلم... كلما كانت الكتابة مناسبة للكاتب، وأكثر خصوصية وتعبيرًا عن الذات الخاصة للكاتب، كلما أصبح الأدب أكثر أهمية، على وجه التحديد؛ لأن وجود روح إنسانية أخرى هو سمته الأساسية. لغة الإعلانات، لغة الكتب المدرسية، لغة الصحف ووسائل الإعلام، لغة تناسب الجميع، لسان الحقيقة المقبولة، والمصطلحات الثابتة. الكتب المكتوبة بلغة العالم الاجتماعي هذه مشبعة بروح عصرها، وعندما يمر الوقت قليلاً، يبقى هذا، اللغة الباهتة لمجتمع سابق.

معظم كتب الستينيات، على سبيل المثال، تعبر فقط عن هذا، عن العصر الذي كتبت فيه، مثلما ستخبرنا الصورة عن الموضة السائدة في ذلك الوقت. ولهذا السبب، فإن الأدب الذي يستمر لا يكون نموذجيًا أبدًا، ولا يُصاغ أبدًا بلغة البيئة الاجتماعي التي تناسب الجميع، ولكن تلك التي تتحداها. نحن لا نقرأ رواية "الانقراض" لتوماس بيرنهارد لكي نتعرف على الثقافة والمجتمع النمساوي في فترة ما بعد الحرب، ولا لنكتشف ما يعنيه فقدان الوالدين، بل لكي ننغمس في نثر توماس بيرنهارد، الذي ينتشلنا من ذواتنا ويدفعنا إلى شيء آخر تمامًا، شيء فريد واستثنائي. وهذا التفرد والاستثناء هو المشترك بيننا جميعاً، هذا التفرد والاستثناء هو حقيقة العالم وواقعنا، وهنا، من هذه المفارقة، تكمن شرعية الأدب.
وفي مقابل ذلك، يمكن القول بأن الادعاء بأن طبيعة الأدب وجوهره يقوم على وجود شخص آخر في الكتابة هو اختزال غير مبرر، ويزيح الاعتبارات السياسية والاعتبارات الاجتماعية ومظاهرها من الأدب. العودة إلى عبادة العبقرية في العصر الرومانسي عندما كان ما يهم هو الفرد بذاته، في نفس الوقت مثل هذا الموقف، الذي يدعي أن الأدب هو حضور شخص آخر في الكتابة، لا يقول شيئًا، لا يؤدي إلى شيء، ولا يمنحنا أي رؤية خاصة، ولا أي فهم للعمل الأدبي، ربما بخلاف أن كتب توماس بيرنهارد كتبها توماس بيرنهارد. وهذا من شأنه أن يجعل النظام الأكاديمي للدراسات الأدبية برمته غير ضروري، أو على الأقل يجعل اجتياز الامتحانات أسهل بكثير؛ لأن السؤال الوحيد ذي الصلة سيكون شيئًا مثل: "من كتب انقراض توماس بيرنهارد؟" أو في هذا الصدد: "من كتب مرفأ جون فوس؟"

كتب جون فوس المرفأ. الرواية التي تبدأ بجملة «لم أعد أخرج، سيطر القلق علي، ولا أخرج»، لا تشبه أي رواية أخرى في عصرها، أي أواخر الثمانينيات، لكنها تشبه إلى حد كبير ما كتبه جون فوس قبل ذلك، وما كتبه منذ ذلك الحين. الحضور الذي يشعر به القارئ، منذ الافتتاحية، هو حضور جون فوس. لكن هذا الحضور ليس حضورًا لشخص سيرته الذاتية، بل استحضارًا للشخص الذي كان عليه في ذلك الوقت (وهو أمر سيكون سهلًا نسبيًا في حالتي، حيث كان جون فوس أحد أساتذتي في أكاديمية الكتابة حيث كنت طالبًا أيضًا). العام الذي صدرت فيه رواية المرفأ، من شأنه أن يضيف القليل من الأهمية إلى قراءتنا للرواية، مثل أي اعتبارات قد تكون لدينا فيما يتعلق بالوقت والبيئة الاجتماعية التي كتبت فيها. بل إن الحضور الذي نشعر به له علاقة بنوع من التقبل، ويقظة ومزاج معينين، وما ينكشف لنا في النص. الشيء الغريب في الكتابة هو أن الذات تبدو وكأنها تتخلى عن نفسها، أن ما يبقي الأنا متماسكة في تصورنا الذاتي، يتحلل، ويُعاد تشكيل الكينونة الداخلية بطرق جديدة وغير مألوفة.

ويحدث الشيء نفسه عندما نقرأ، تنطلق الذات ونحن نتبع الكلمات أسفل الصفحة، ونخضع لبعض الوقت لأنفسنا المختلفة، الجديدة والمنفتحة، ولكنها واضحة وملموسة بالنسبة لنا، في إيقاع معين، وشكل وإرادة معينة. في هذا اللقاء، بين الكاتب غير الأناني والقارئ غير الأناني، يتشكل الأدب. وإذا كان هذا الأدب جيدًا، فإنه يستدعي حالات مزاجية ونغمات موجودة دائمًا، ولكنها عادة لا تُسمع في ضجيج العالم اليومي أو في القبضة الحديدية للأنا ومعرفة ذواتنا. تثير فينا هذه الأمزجة والنغمات تجربة أخرى للواقع لا تقل صدقًا؛ إذ ترتبط جميعها بالمشاعر التي تشكل في الرواية أو القصيدة أو المسرحية الوسيط الذي من خلاله يكون التواصل مع العالم. في الأدب، تتلاشى تكويناتنا عن العالم وأنفسنا، كما نذوب نحن أنفسنا عندما نقرأ، وبهذه الطريقة نقترب من الآخر، أو العالم.

تدور مقالات جون فوس تقريبًا حول الأدب والفن، غير مهتمة بجوانب السيرة الذاتية أو الاجتماعية أو التاريخية للأدب والفن، لكنها تدور دائمًا حول ما هو ضروري بالنسبة لهم، وما الذي يجعل الأدب أدبًا وفنًا. وبما أن هذا يتكون دائمًا من التفرد، دائمًا مما هو مميز، بمعنى أن ما يجعل الأدب أدبًا وفنًا موجودًا فقط في الأدب والفن نفسهما، بهذه الطريقة الفريدة، فإن مقالات جون فوس تدور حول ما لا يمكن اختزاله، ما هو ملغز وغير قابل للترجمة.

في مجموعته الأولى (من الحكي بالاستعراض إلى الكتابة)، ترتبط هذه الصفات الغامضة وغير القابلة للترجمة بالكتابة نفسها. في حين أن الحكاية ترتبط بالعالم الاجتماعي، والوضع السردي نفسه، وفوق ذلك تشتمل على بعض عناصر الترفيه، فالكتابة، كما يعتقد فوس، ترتبط بشيء آخر، بذلك الجزء من لغتنا الذي ربما لا يتواصل إلا مع نفسه، مثل حجر أو صدع في الجدار. اللغز مستقل بذاته، وفي هذا يشعر الواحد أن لغة فوس وتفكيره قد تشكلت من خلال النظرية الأدبية في الثمانينيات. في مجموعته التالية (مقالات روحية) المنشورة بعد عشر سنوات، لا يزال هذا الجانب الغامض مركزيًا، على الرغم من أنه يرتبط الآن بشيء مختلف تمامًا: الإلهي. فالقفزة من الكتابة والكاتب كما هو مفهوم في نظريات الأدب إلى المفهوم الديني للإله قد تبدو مهولة، لكن هذا ليس هو الحال بالضرورة، وبطريقة ما يكتب فوس هنا في كلتا الحالتين بنفس الجودة تمامًا أدبه، وإن كان يُتناول الآن من زاوية مختلفة. ويشير إلى الارتباط في مقال العنوان نفسه: الراوي هو أستاذ البلاغة، والكاتب هو أستاذ البلاغة المضاد. الشخصية والبنية الأدبية، تقع في شكل أو آخر من أشكال البلاغة. فقط الشخصية التي تفتقر إلى اللغة تكون حرة. ولا ينبغي لأي لغة أن تعني أي فرق. وهذا يعني الله. وبمعنى ما، يجب على الكتابة النشطة أن تستعيد باستمرار الشوق إلى ما يفتقر إلى الاختلاف، إلى الإلهي، وفي الروايات الجيدة ربما تلاحظ شيئًا من هذا القبيل.

وبالمثل؛ فإن الفرق بين مقالات فوس ورواياته كبير جدًا. في حين أن المقالات تقف خارج الفن وتنظر إليه، تتفحصه وتفتش فيه وتتساءل عن طبيعته والطرق التي يرتبط بها بي، وبك، وبنا، وصلة ذلك بالعالم الاجتماعي، وتتحول في مثل هذا.. وبما أن مقالاته في الثمانينيات تشبه مقالات الثمانينيات، ومقالات التسعينيات، فإن العكس هو الصحيح بالنسبة لروايات فوس، التي بدلاً من النظر من الخارج، تنظر من الداخل إلى العالم وإلى القارئ.
صوت جون فوس لا لبس فيه في كل ما يكتبه، ولا يكون أبدًا أي شيء إن لم يكن حاضرًا، ولكن في حين أن صوت المقالات هو حضور في زمنها المعاصر؛ فإن صوت روايات فوس هو حضور غير متصل بزمن فوس، ولكنه متصل بالأحرى بشيء آخر تسعى المقالات إلى عزله بطرق مختلفة وفقًا لوقت كتابتها. لكن اللغز يظل كما هو. لم يكتب أحد بشكل أكثر إدراكًا عن أدب جون فوس من ليف تولستوي في الحرب والسلام، في المقطع الذي تأثرت فيه الشخصية الرئيسية، الأمير أندريه، بالبكاء عند الاستماع إلى مقطوعة موسيقية ويحاول فهم السبب. إنه يجد سببًا في التناقض الرهيب بين اللامتناه بداخله وقيود ماديته الدنيوية. هذا التناقض، بين اللانهاية بداخلنا والقيود الخارجية، هو دافع كل ما كتبه جون فوس.

 


  المصدر 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها