بسبب نقدهم لأوضاع بلدانهم، وفي سبيل المطالبة بالحقوق المعترف بها عالمياً والمثبتة بدساتير الدول المتحضرة، وبسبب مجابهة الاستعمار والطغيان وغير ذلك لقي بعض المثقفين والأدباء كل أنواع الاضطهاد والمضايقات، من بينها النفي، بل إن منهم من وجد نفسه قبل ذلك مضطراً للهرب ومغادرة وطنه بحثاً عن لقمة العيش الكريم، أو بحثاً عن الديمقراطية والحرية التي ينشدها الجميع، وبهذا شرّق المثقفون وغرّبوا وانتشروا في أوطان غيرهم، والحال هذه أفرزت مدونة ضخمة من الكتابة الشعرية والسردية تعرف بـ"أدب المنفى"؛ وهو سجل متنوع أسهم فيه عدد كبير من الكتاب المنفيين الذين استلهموا تجاربهم وجعلوا منها خلفيات لعوالم افتراضية أفضوا بحنينهم إليها، ورغبوا في أن تكون المكافئ لإحساسهم بالفقدان والغياب.
وأدب المنفَى - كما عرفه محمد الشحات عضو اتحاد كتاب مصر- هو أدب كتبه مثقفون منفيّون عن "وضعية" المنفَى والمنفيين. ومن ثمَّ، ينبغي النظر إلى "أدب المنْفَى" من خلال عدد من المحدِّدات، من بينها: اللغة المكتوب بها، والثيمة المهيمنة وطرائق تمثيلها فنّياً، والنوع (أو الجنس) الأدبي وجمالياته.
وأدب المنفى هو نتاج حالة اقتلاع قسرية ومدمرة للأديب، كما أنه نتاج عملية انفصال مادي عن المكان الأول بكل دلالاته وموروثاته، كما أنه – كما ذكرت تماضر إبراهيم في كتابها: "أدب المنفى: يوتوبيا مفقودة"- مزيج من الاغتراب والنفور المركب، كونه نتاجاً لوهم الانتماء المزدوج إلى هويتين أو أكثر، ثم في الوقت نفسه عدم الانتماء إلى أي من ذلك، بل إنه يستند في رؤيته الكلية إلى فكرة تخريب الهوية الواحدة والمطلقة، وبصفته تلك فهو أدب عابر للحدود الثقافية، الجغرافية، والتاريخية... وهو بهذا المعنى أدب ينأى بنفسه عن الكراهية والتعصب، وهو يتخطى الموضوعات الجاهزة والنمطية، ويعرض شخصيات منهمكة في قطيعة مع الجماعة التقليدية، وفي الوقت نفسه ينبض برؤية ذات ارتدادات متواصلة نحو مناطق مجهولة داخل النفس الإنسانية، ويقترح أحيانا يوتوبيات حالمة موازية للعالم الواقعي.
ومن خصائص أدب المنفى الحنين إلى الوطن، ولا عجب في ذلك؛ فالإنسان العربي المنفي الذي نزح عن دياره يحمل بين جنبيه طموحاً وآمالاً كبيرة في العودة، فقد خلف وراءه دنيا تميزها البساطة والقناعة والروحانية – وإن يكن إلى جانبها الذل والجهل والخنوع- واصطدم في المهجر بالمادية الصارخة، والحياة الآلية المزعجة التي لم يألفها في الشرق، ولا ألف ما هو قريب منها، والتي أحسن ميخائيل نعيمة التعبير عنها بكلمة موجزة إذ قال: "كنت واحداً من الملايين التي كتب لها أن تفتش عن "إبرة" السعادة في "جبال" الغير والإسفلت والحجر والحديد المعروفة باسم نيويورك"؛ فهو لم يلبث أن شعر بفراغ عظيم في قلبه وفي حياته، فجعل يتذكر قريته الهانئة الوادعة، الغارقة في أحلام اليقظة الحلوة.
لقد أضرم المنفى حنين المهجرين، فجعلهم يحنون إلى الشرق الذي ما زال يقبع تحت قيود المذلة والهوان، ويتمنون له الحرية والديمقراطية الكاملة ليتسنى له أن يحتضن أبناءه من جديد كما تحتضن الأم صغارها، فهم يتألمون وتثور لواعجهم لما تعانيه أوطانهم من أنواع العبوديات: العبودية للمستعمر الغاصب، والعبودية للجهل وللتفرقة الاجتماعية بين أبناء الوطن الواحد. لقد تحرر المنفيون من هذه العبوديات كلها، فتاقوا إلى رؤية بلادهم متحررة منها مثلهم. وقد كانت لهم في كل حادثة وطنية، وفي مختلف مراحل النهضة القومية أصوات مسموعة، وأقلام مزعجة، تمهد الطريق، وتهيئ الأفكار لاستكمال العدة للنهوض الصحيح، والوعي القومي القويم، وقد اشترك الشعر والنثر في هذا السبيل.
ومن خصائص أدب المنفى أيضاً أنه أدب لم يسلم من التأثيرات الأجنبية؛ حيث جعلته هذه الأخيرة يتجه إلى العمق، ويعالج هموم الذات، ويتأمل الحياة وخفاياها، وينظر إلى الطبيعة وما تحفل به من أسرار، كما أن هذه المؤثرات أدت في محصلتها إلى شيوع المذاهب الفلسفية في قصص كثير من المنفيين وأشعارهم كوحدة الوجود، والتقمص والتناسخ، وتعدد الحيوات، وتجدد بناء الإنسان وانتقال الأرواح من الإنسان إلى النبات... فكل هذه الأفكار كانت صدى لمجموعة من المؤثرات المختلفة؛ فقد أتيح لبعضهم أن يطلع على فلسفة الهنود ومذاهبهم القديمة، والفلسفة الصينية، والآداب الفرنسية والإنجليزية والإسبانية والأمريكية... ولا شك أن هذه المؤثرات كلها أفادت أدب المنفى، وأكسبته خبرة واسعة جعلته يرقى إلى مستوى عال في الفكر والتعبير، مع ما تمتع به هؤلاء الأدباء الذين هاجروا من بلادهم من مواهب قوية ونفوس حائرة، وأرواح شفافة وعقول قادرة على التلقي والتمحيص والإبداع.
وبالإضافة إلى ما سبق يرى بعض النقاد أن أبرز ما يميز أدب المنفى هو أنه أدب يدور بين التفاؤل والتشاؤم، واليأس والأمل، والرضا والسخط، إنه صراع بين الفكر والعاطفة، والعقل والقلب، فقد كان أدباؤه بين شد وجذب، تتصارع أفكارهم وتتوزع مشاعرهم نوازع الشك واليقين، ولكن الألم والتشاؤم هو الأصل والقاعدة، وتفاؤلهم حتى وإن جاء صار تفاؤلا يحتضنه الأسى ويلفه الألم الحزين، فهو ومضات تلوح من خلال الظلام. ومن أوائل أدباء المنفى الذين قاوموا دوافع الألم وجدفوا ضد التيار إيليا أبو ماضي، بينما تأرجح جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة بين الشاطئين؛ التفاؤل والتشاؤم، ومن الذين غرقوا في التشاؤم نسيب عريضة، وفوزي المعلوف وشفيق المعلوف وإلياس فرحات الذي لوّن التشاؤم بألوان السخرية ليصير ضرباً من ضروب التمرد.
أما الهدف الذي عمل له الجميع باستمرار ونشاط فهو خلق أدب حر، قوي، يعنى بالمعاني والأفكار الكبيرة، ولا يتقيد بالسفاسف التي تكبل أجنحته دون التحليق والسمو، ومن هنا كان سر ذيوعه وتأثيره في النفوس وفي الأقلام.
وخير ما نختم به هذا المقال هو قول واسيني الأعرج في كتابه "ألم الكتابة عن أحزان المنفى"، حيث ذكر أن: "كتابات المنفي تنقل عصارة قلب أضناه حب الوطن وحب الحرية، وصور حية لما يعانيه الكاتب الموجوع الذي كان مداده نقاطاً من دم قلبه، وقلمه ريشة في قفص صدره، الكاتب المُعذب الذي غُلّت يداه وكُمّ فمه، ومع ذلك استطاع أن يتغلب على القيد وأن يقهر اللجام ليكتُب أقاصيص أو روايات عاش أحداثها أو عاشها أحد رفاقه المكبلين بالأصفاد مثله".