البلدة الطيبة

التّحولات العاصفة في اليمن السعيد

سعاد الحمودي

 

سحب عابرة في السماء تتوج الأرض الممتدة في كل مكان عبر الأزمان المتعاقبة، لتروي قصصاً كثيرة في كل مكان تمر به، وكل زمان تمضي عنه، وهذه السحب السماوية كانت فيما مضى تظلّل أرضاً لأسلافٍ مضوا، ومضينا نتحسس أخبارهم تحت ظل سحب زمننا الحاضر، ونروي ببصيرة قلوبنا التي عقلت عبرة حكاياتهم وما كانوا عليه، فقد ذاقوا أنواع النعمة، وعاشوا حياة رغيدة هانئة مفعمة بالرخاء والأمان والرفاهية، حيث كانت الأرض تجود بأنواع الثمار الناضجة طيبة المذاق، ويستنشقون هواءً نقياً صافياً منتعشاً بأريج الزهور، فقد عاشوا في هناءٍ وسرور، ونعمة تملأ القلب الشكور بالسرور، من رب كريم غفور.


إن هذه البلدة الطيبة التي اقترن اسمها بالسعادةِ فوصفت بها، قد جادت لها السماء بما يسر لها الخالق من أسباب الرخاء والبقاء: سرٌ ينبت به الزرع وتخضر به الأرض، إنه سر البقاء والنماء.. إنه الماء! ولكن هذا الماء الذي هو من أهم أسباب بقائها ونمائها، كان هو أول أسباب فنائها ودمارها، فكيف تتحول النعمة إلى نقمة وتتحول أسباب النماء إلى فناء، فإذا بنا نستمع إلى الصوت الأزلي في دواخل كل حكاية تمر بنا، تحكي عن العبرة منها بأنها سنة الله في خلقه، تتكرر دوماً مهما اختلف المكان أو تغير الزمان لمن خالف قانون سنن الكون الثابتة، ولم يلتزم بما جاء به الملك الدَّيَّان.

فعندما يتحول فجأة سر الحياة والنماء إلى أول أسباب الخراب والدمار، وتنتهي عن معالم الأرض أسطورة كانت ماثلة أمام العيان بجنّاتها وزروعها وعروشها، نستنبط منها عبرها وعظاتها بتتبع أحداثها المثيرة والمليئة بالعبر والمعاني، بأن التحول إلى الأسوأ قد يكون بقرار من عاش تلك النعمة المقيمة، ولم يقم بالحمد والشكر، بل للأسف بادر إلى الإعراض والكفر.

فهناك في بلدة السعادة والنماء كانت تتلألأ جوهرة خضراء تفترش سطح أرض البلد السعيد.. جنة على الأرض ورخاء رغيد، وقومٌ تنعموا بأقصى درجات النعيم لم يكونوا بحاجةٍ إلى التفكير أو التدبير، فقد كان تدبير رب السماء لهم هو خير تدبير وفوق التفكير، يتنعمون بقصور فارهة، وأرض خصبة، وهواء نقي عليل، ونعمة كانوا فيها فاكهين.. ماء يتدفق بكثرة ليضمن لهم خصوبة تربتهم طوال فصول السنة، لم يعرفوا الحشرات أو القوارض، فنعمة الله السابغة عليهم منعت عنهم كل ما يضر أرضهم وصحتهم، بل إن نساءهم كنّ يمشين بهدوء في تلك الأرض المخضرة الواسعة، والظليلة الفروع بأوراقها اليانعة الثمار، فيتساقط ما نضج من ثمارها إلى سلالهم تباعاً دون عناء القطف أو الحصاد، نتوقف هنا مع هذه القصة المثيرة قصة قوم سبأ وأرضهم الطيبة.


من هم قوم سبأ

إنهم قومٌ ذُكروا في كتاب الله، وقصتهم الشهيرة التي كانت مليئة بالعبر والمعاني والعظات كانت خير مثال لمن أراد التدبر والتفكر والاتعاظ، فقد كانت حضارتهم من أعرق الحضارات التي لا زالت آثارها باقية وشاهدة عليها، فسبأ يقصد به ملوك اليمن وأهلها، وتعود تسميتهم بسبأ لجد السبئيين وهو من كبار ملوك اليمن، وقد كان ملكاً على صنعاء وما جاورها، ثم بنى مأرب واتخذها عاصمة له، وهو من بنى فيها سدها المعروف باسمها، والتي بقيت آثاره حتى الآن.. سد مأرب التاريخي المشهور.

وفي الحديث أن رجلاً قال: يا رسولَ اللَّهِ، وما سَبأٌ، أرضٌ أو امرأةٌ؟ {قالَ: ليسَ بأرضٍ ولا امرأةٍ، ولَكِنَّهُ رجلٌ ولدَ عشرةً منَ العربِ فتيامنَ منهم ستَّةٌ، وتشاءمَ منهم أربعةٌ. فأمَّا الَّذينَ تشاءموا فلَخمٌ، وجُذامُ، وغسَّانُ، وعامِلةُ، وأمَّا الَّذينَ تيامنوا: فالأزدُ، والأشعرون، وحِميرٌ، وَكِندةُ ومَذحِجٌ، وأنمارٌ. فقالَ رجلٌ: يا رسولَ اللَّهِ، ما أنمارٌ؟ قالَ: الَّذينَ منهم خثعَمُ، وبَجيلةُ}.

وقوم سبأ وجنتيهم التي كانت عن يمين وشمال كانت آية للناظرين، ودلالة على قدرة الله الذي رزقهم وأمرهم أن يأكلوا من رزقه، ويشكروا نعمته عليهم، فقد جاء ذكرهم في القرآن الكريم، قال الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) [سورة سبأ: 15].

سيل العرم

وتعني كلمة عَرِمِ بفتح العين وكسر حرفَيِ الراء والميم بمعنى الحاجز أو السد، وجاء ذكر السيل الذي أرسله الله لسبأ متصفاً بالعَرِم، وبهذا سمي سيل العَرِمِ لأنه نتج عن انهيار السد. قال الله تعالى: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ) [سبأ: 16].

ونجد أنَّ كلمة عَرِم مشتقة من كلمة عَرِيمين المستخدمة في لهجة سكان جنوب شبه الجزيرة العربية، ووجدت هذه الكلمة في أثناء البحث في الحفريات التي كانت في جنوب اليمن، فقد كانت موجودة باستخدامات متعددة، وكانت تُملى من قبل ملك اليمن الحبشي إبرهة بعد تعمير، وإصلاح سد مأرب لتعني الحاجز، إذنْ؛ سيل العَرِم يعني كارثة السيل التي حدثت بعد تحطم السد، ويقصد به سد مأرب، ونرى أن انهيار سد مأرب وما تسبب به من سيل لم يكن وليد الصدفة. لقد كان سببه الحقيقي هو ما وقر في نفوس قوم سبأ من كفر وجحود، وذلك عندما نسبوا القوة والنعمة التي هم فيها لذكائهم وقوتهم، وأنهم هم أصحاب الفضل بذلك، فلم يكونوا مطالبين قبلاً سوى أن يأكلوا من رزق ربهم ويشكروا له نعمته عليهم، وقد ذكرنا مسبقاً أن قوم سبأ لم يعرفوا في ديارهم الحشرات أو الزواحف أو القوارض، ولكن الفئران التي منعت من دخول بلدتهم سُمح لها بالدخول، وبدأت بنخر السد شيئاً فشيئاً وهم لا يشعرون، وهكذا عندما جاء السيل انهار السد، وجرف السيل كل ما في طريقه من مبان وزروع، وأصبحت الأرض الخصبة الخضراء المتزينة بالعروش والبنيان أرضاً متصحرة قاحلة لا نبات فيها ولا حياة، ولم تعد صالحة للاستزراع، وانتهى كل شيء، وتفرق قوم سبأ وتشتتوا في بقاع الأرض وبقيت آثار السد إلى يومنا هذا تحكي قصتهم، وترسل عبر التاريخ زفرات ندمهم لتكون عبرة لكل من اغتر بالنعمة، ونسي شكر المنعم الجليل.

الطلب الغريب

يحكي لنا القرآن العظيم نعمة أخرى تمتع بها قوم سبأ، فلم تكن النعم تغدق عليهم داخل بلدهم فحسب بل امتدت لهم النعم خارجها، فقد كانوا يحتاجون للسفر للتجارة للشام المباركة، حيث بارك الله في المسجد الأقصى وما حوله وهي الشام، وجعل الله رحلتهم التجارية من اليمن إلى الشام رحلة ميسرة سهلة آمنة واضحة المعالم، فالمسافر في رحلته لا يحتاج إلى الزاد أو الماء، فطريق تجارته عامرٌ بالقرى الظاهرة المتقاربة والمتواصلة بمسافات معروفة وواضحة، ولم يكن هناك من قطاع طرق في طريق السفر، فهم يسيرون في سفرهم بلا خوف.. ليالي وأياماً آمنين في هذه القرى الواضحة المعالم المتقاربة المسافات. قال الله تعالى: (وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ) [سبأ: 18].

ولكنهم ملّوا النعمة وشعروا بالضجر وتمادوا في غيّهم إلى أن وصلوا إلى حد السفه والبطر، وعندما سئموا نعمة الراحة والأمان، دعوا على أنفسهم بما لم يكن بالحسبان، فما كان منهم إلا أن قالوا ربنا باعد بين أسفارنا كما ذُكِرَ في القرآن.

قال الله تعالى: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [سبأ: 19].

وهنا كان لهم ما أرادوا فتمزقوا في الديار وصارت رحلتهم مليئةً بالأخطار، يعانون فيها الخوف والحر، ويحتاجون فيها للماء والزاد، وأصبح الناس يتسامرون بأخبارهم المفزعة في أسفارهم الخطرة، وتفرقوا في البلاد وتشتتوا وصاروا عبرة لمن اعتبر، ويضرب فيهم المثل بين العرب، فقد قيل فيهم (تفرّقوا أيدي سبأ)، وذلك إذا أراد أحدهم أن يضرب مثلاً بتفرق الشيء وتبعثره وتشتته، وإن في قصة قوم سبأ آيات ينتفع بها كل صبّارٍ شكور؛ لأن من يواجه البلاء بالصبر والنعمة بالشكر حريّ به أن ينتفع بآيات الله ويتدبر الحكمة منها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها