البلاذري.. بين فتوح البلدان وأنساب الأشراف

أشرف الملاح


الحضارة كل لا يتجزأ، هي حركة باتجاه المستقبل يتكامل فيها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، والثقافي، والمعرفي، لذلك حين نقول عن عصر إنه عصر ذهبي يعني تحقيق هذه المعادلة من التكامل في صنع الحضارة، هذا ما ينبئنا به سلم الحضارات في صحف التاريخ والمدونات الإنسانية.
 

وحين نتحدث عن عالم أو أديب أو فيلسوف أو مؤرخ في عصر حضاري ذهبي كما هو الحال في العصر الذهبي للحضارة العباسية، فنحن نتحدث عن حركة معرفية علمية ثقافية سياسية تنهض بالمكان والزمان والإنسان.
والبلاذري هو أحد المؤرخين الذين شهدوا ذلك العصر، فكانت له إسهامات في مختلف الحقول الثقافية والإبداعية، فكتب في التاريخ (فتوح البلدان) ليكون نواة لكتاب أكبر لم يتمه بعنوان «فتوح البلدان الكبير»، كان ينوي تأليفه في أربعين مجلداً، وفي الأنساب كتب (أنساب الأشراف)، وكتب في الشعر والأدب، والأخبار. كما أسس ما يشبه الصالون الثقافي وكان يجتمع فيه مع عبد الله بن المعتز، وابن النديم وجعفر بن قدامة، وعبد الله بن سعد الوراق...الخ. ليكون البلاذري إحدى العلامات على عصر المأمون الذي أبدع في كنفه، في مرحلة الشباب، ونظم الشعر في مديحه، وظل على علاقة بالبلاط العباسي فعاصر المعتصم والواثق والمتوكل، مستمراً في العطاء حتى رحيل الخليفة المعتز.
 ولد البلاذري، أحمد بن يحيي بن جابر بن داود، في بغداد أواخر القرن الثاني للهجرة، سافر طلباً للعلم إلى حمص وأنطاكية، وأخذ العلم من محمد بن سعد كاتب الواقدي، وتتلمذ على يديه في ما بعد ابن النديم صاحب كتاب «الفهرست»، وتوفي في عام 279هـ. وصفه ابن النديم بـ«كاتب، شاعر مجيد، راوية الأخبار والآداب».
 

فتوح البلدان

يبدأ «فتوح البلدان» بهجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم غزواته، وينتهي بفتح بلاد السند، مع تذييلات مختلفة تتصل بأمور الخراج والعطاء والنقود والخط والشؤون الإدارية في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فضلاً عن سرد مشهدي إمتاعي للمعارك الحربية.
يتميز الكتاب بغزارة معلوماته حول جزر البحر المتوسط: قبرص وصقلية ورودس، ففي فتح قبرص يظهر البلاذري تخوف المسلمين من حروب ومعارك البحر فعندما استأذن معاوية ابن أبي سفيان الخليفةَ عمر بن الخطاب، في فتح قبرص رفض عمر ذلك، وكذلك فعل عثمان حين أعاد الطلب معاوية في عهده، إلا أن إلحاح معاوية جعل عثمان يشترط عليه أن يأخذ معه زوجته في الفتح، وفي سنة 28هـ، فتح معاوية الجزيرة صلحاً مشترطا ألا يساعد أهلها الروم ضد المسلمين، وعندما نكثوا العهد في عام 32ه، دخلها معاوية عنوة في «خمسمائة مركب»، وبنى في الجزيرة المساجد. هذا مثال عن طبيعة الرؤية التاريخية التي امتاز بها كتاب فوح البلدان.

ولا يكتفي الكتاب في الحديث عن الأحداث التاريخية بل من عنوانه نكتشف أنه يؤرخ للأمكنة، للبلدان، للعمران، الذي كان يعقب الفتوحات الإسلامية ولذلك يمتلئ الكتاب برصد التغيرات التي أحدثها المسلمون في البلدان التي دخلوها، وهناك اهتمام مماثل بالشؤون الإدارية في تلك البلدان.

فتوح البلدان موسوعة حضارية، كما هو موسوعة تؤرخ لحركة التاريخ في سلم الحضارة ولحركة الحضارة في سلم التاريخ، وكأنه يؤسس رؤيته التاريخية والحضارية على أساس العلاقة الجدلية بين المكان والزمان والإنسان.
 

أنساب الأشراف

يعتبر كتاب «أنساب الأشراف» أضخم موسوعة في أنساب قبائل مضر وأخبارها، يصل في أحد طبعاته إلى 12 مجلداً، ما يشير إلى أن الجهد العظيم الذي بذله البلاذري في تتبع حركة الأنساب، والذي يحتاج إلى فريق عمل من أجدل إنجاز هذا العمل الموسوعي، الفريد من نوعه والطريف في موضوعه.

حيث يعود في «أنساب الأشراف» إلى البحث عن أول من تكلم العربية، متجولاً بين عشرات الروايات التاريخية الممتعة يقول: «تكلمت العرب العاربة بالعربية حين اختلفت الألسن ببابل»، «وأهل اليمن يقولون: أول من تكلم بالعربية يعرب بن قحطان»، «أول من تكلم بالعربية من ولد إبراهيم: إسماعيل عليه السلام، وله أقل من عشرين سنة، نزل بجرهم، فأنطقه الله بكلامهم.. وسمت العرب إسماعيل عرق الثرى، يريدون أنه راسخ ممتد، وقال قوم: سمي بذلك لأن أباه لم تضره النار، كما لا تضر الثرى»، كما يتحدث الكتاب بتفصيل عن الأعراق، وتوزع البشر في الأرض بعد نوح عليه السلام، وقبائل ثمود وطسم وجديس وعاد، يقول عن عاد:
«إن عاداً كانوا قد ملؤوا ما بين الشام إلى اليمن»، ويرسم خريطة جغرافية لتوزيع «العماليق» في الأرض: «ونزلت العماليق في أول الأمر صنعاء اليمن، ثم انتقلوا إلى يثرب فنزلوها، وإنما سميت يثرب برئيس لهم يقال له يثرب. ثم انتقلوا إلى ناحية فلسطين من الشام. ومضت عامتهم إلى مصر وناحية إفريقية. وتفرقوا بالمغرب. فالبرابرة منهم. والبرابرة اليوم يقولون: نحن بنو بر بن قيس. وذلك باطل وإنما غزا رجل من التبابعة يقال له أفريقيس بن قيس بن صيفي الحميري إفريقية فافتتحها، فسميت به».

بين فتوح البلدان وأنساب الأشراف، يأخذك البلاذري في كلا الكتابين في رحلة ممتعة بأسلوب شيق، ورشيق، متنقلا بك من عصر إلى عصر ومن موضوع إلى موضوع ومن مكان إلى مكان، لتعود من الرحلة وأنت مزود بما يمتعك من المعرفة، والتاريخ.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها