حكايات الحب وصُورُهُ تحفظها رانيا في ذاكرتها، تتجدد كلَّ عيد من أعياده، وعبر نافذة مكتبها بالجريدة تتشمَّمُ كل تلك العطور التي ينثرها المُحِبُّون في جنبات المدينة، وتتمنى أن تنضم إليهم ذات يوم بعضوية دائمة في ناديهم المقدَّس بدلًا من نادي مرضى الضغط الذي دَخَلَتْهُ منذُ أيام!
مشاعر مختلطة بين الحنين والنشوة والإشراق والبرودة والعدم والدفء، وشعور بظلم العالم وحقارته.
كان حصولُها على هذا المكان المميز في الجريدة -ضمن مساومات الأستاذ سعيد لها لِتَقْبَلَ بحُبِّهِ السِّريِّ- صفقةً يفترضها خياله وتجري عليها أمانيُّهُ ومطارداتُهُ؛ ميَّزها دون بقية المديرين بمكتب ذي نافذة زجاجية منحتها إطلالة دائمة على النهر، مربط العشق والحرية والفضاء والنهر والقلم، بها ملكت الدنيا.
طال أمد محاولات سعيد معها لاسترضائها لتقبل بالزواج به عرفيًّا، ولا تنتهي مطارداته وطولُ أمله في الإحاطة بها، وبطريقته هذه جعلها تكره الجُرنال وتفكر في الفرار، أجل.. الفرار، عليها البحث عن مكان مناسب أولًا قبل أي شيء، لا يمكنها الآن أن تُعلنها له صراحةً: «لا»، الكفاءة والمهنية ليست معايير كافية، بل تأتي في مرتبة تالية لـ«ألاعيب شِيحة»، وغير مسموح لها بالفرار.
هو -بجلال قدره- رئيس مجلس الإدارة، يعني بيده كل قرارات المؤسسة التي تعمل بها، ونفوذُهُ عابر للصحف. تتهرب منه بدبلوماسية وإصرار في نفس الوقت، توشك على الانفجار، أن تستمر على رفضها لمحاولاته ولا تعرض نفسها للضرر من قراراته واحتمالاتها.. منتهى الجنون! لا تريد سوى النور في كل الأحوال، هل هذا صعب؟!
لماذا صار الناس لا يقوَوْنَ على الحياة في النور وبات الوضوح شَجاعَةً ومخاطرة أيضاً؟!
تحاول تجنب التفكير في ما يثقل قلبَها في ليلة الحب كيلا تفسد لحظتها لتنعم بمحبة الكون، النجوم في السماء تغني وتبرق، تكاد تسمع همسها وهي تَشِي بعضها لبعض بما تراه من أحوال العاشقين في وصلة نميمةٍ وغمزٍ ولمز، تبتسم.. تلتفت إلى الهدوء الذي يلف المكان حولها، الساعة السادسة موعد انصراف الموظفين. غادرت النافذة بنظرة طويلة لتحفظ في ذاكرتها ملامح صفحة النهر، قفز الزملاء جميعهم مسرعين إلى الخارج في دقائق، كدجاجات هاربة من الحبس واتَتْهَا فرصة نادرة بفتح باب الحظيرة فجأة، فانطلقت يسبقها شوقها إلى الحرية. هي الوحيدة التي لم تزل هناك تستوحش الخروج، لماذا تهرول؟ ومن ينتظر عودتها؟! سؤالها الدائم، وإجابته لم تتغير منذ سنوات ولا يبدو غيرها في الأفق.
تعتريها موجة برد وقشعريرة فيرتجف جسدها من صورة جدران البيت الباردة، دومًا تُضطر إلى شراء طعام جاهز ساخن من محل «فتح الله» أو «سعودي»، لا يمكنها الوقوف لتطبخ كمية قليلة جدًّا منه فتأكل وحدها، والأسهل أن تشتريه مطبوخًا. تلف في الشوارع حتى قبل موعد نومها مباشرة، فتهرب من انفرادها بنفسها ومن مرايا البيت التي تراقبها في الجيئة والذهاب، تطلق عليها أسئلتها الساخرة.
عملها بالتلفزيون ثلاثة أيام بنهاية الأسبوع اختراع جديد وعمل إضافي، وسبب للسهر والعودة إلى البيت مكدودة منهكة، فتلجأ إلى فِراشها مباشرة دون عناء.
رغم تجاوُز رانيا الأربعين بقليل لم يزل سؤال الناس والجيران: «متى نفرح بكِ"؟ يحيطها، لا يملون ترديده، تتمنى أحيانًا أن ينسَوْها، بل يمحُوْهَا من ذاكرتهم تمامًا، تنتبه للوقت في ساعتها؛ تنتفض، ترتب شعرها، تلملمه وتجمع أشياءها المتناثرة، تضع كتبها في حقيبة تلقيها على ظهرها وتغادر في اتجاه النهر، جميل أنها صلَّت العشاء في المكتب. تُعِدُّ في ذهنها لبرنامج حافل لليلةٍ استثناء مع معشوقها النهر، في ليلة حب وسماع أم كلثوم وفيروز.. مزاجها القديم هذا كان سببًا مهمًّا في اعتلال منطقة القلب. «أنت لا تنتمين إلى هذا الزمان» سمعَتها كثيرًا من رجال ونساء، تترحم على أمها التي تركتها بلا مؤنس، مرت سنوات العمر ولم تدرك معنى كلامهم: «غدًا ستندمين على هذه الفرص التي تهدرينها».
وها هي ذي تقع في المحظور، ذهبت أمها «فوفو» -كما كانت تحب أن تناديها، كانت وحدها كل الناس: الصديقة والأخت والأم والابنة أحيانًا. خرجت رانيا من شارع الجريدة.. عبرت كوبري قصر النيل، مزاجها القلق لم يسمح لها بأن تقف قليلًا فوق الكوبري المزدحم على جانبيه بعِرسان وعرائس يلتقطون الصور وعشاق يمرحون، يتلامسون كعرسان محتَمَلين، يملؤهم شوق إلى يومٍ مثل جيرانهم، فيبتسمون لهم في حسد. قالت في نفسها: «الكل يتهافت على وجودهم في قفصٍ ما»!
«الليل بدموعه قاسٍ ويا ويلي من ساعاته.. والصبر لسه ساكت ويا ويلي من سكاته...»، غنت مع سيد مكاوي المنبعث من سماعة عربة الترمس، غير مبالية بِالتِفَاتاتِ الناس إليها.
هواء الليلة صاخب مشاغب يطيِّر إيشاربها وفستانها، تحاول لملمة أطرافه حول ساقيها جيدًا، وتواجهه بصدرها العاري من الحسد ومن الأمانيِّ الكبيرة، وليتها تستطيع أن تكمل ما بدأته فالطريق صعبة وتحتاج إلى مددٍ لتستمر، ومن أين يأتي المدد والمداد؟
أسرعت خطواتها مبتعدة عن ضجيج السيارات والباعة الجائلين والحناطير لتردَّ على هاتفها، كان سعيد يشكرها على مقالها البديع وقراءتها لرواية «رقص الإبل»، فقد شكره كاتبها الكبير ليوصل امتنانه إلى زوجته شيرين. فصمتت لحظة مذهولةً، فأسرع يعتذر عن خطأ (الديسك)، فقد وقَّع المقال باسم زوجته شيرين شرشر! مضيفًا:
- لكن مكافأتكِ مضاعفةٌ، تسلَّميها باكرًا من الخزينة، لا تقلقي مطلقًا!
هالَهَا طَمَعُهُ، ليست المرة الأولى التي يخطئ فيها (الديسك)، ولم تكن تهتم في بادئ الأمر فقلمُها لا يجفُّ حبره واسمها لا يخطئه قارئ في كل الجرائد التي تكتب فيها ومكانتها مَصُونة، لكن لم تعد الأمور هكذا، تحس بالظلم وبأنها تشارك في تزوير حالة، وتشارك عن عمد في انحدار الوضع الثقافي العام؛ صرخت صرخة مكتومة بالقهر.
قفزت روايتها «في مديح الوحدة» إلى رأسها، الرواية التي تعد قطعًا من قلبها وعقلها، ربما نجحت في إخفاء آلامها الشخصية وبثها من خلال بطلتها المسنة التي هربت من بيتها فآوت إلى دار المسنين، فكَّرت رانيا مجددًا، فعلًا تحتاج إلى الفرار. انحرفت يمينًا في شارع البرج بدلًا من السير داخل الأوبرا، اشتاقت إلى الشجرة الخديوية العتيقة التي تتوسَّطه، كانت تمنحها الشجرة طاقة سحرية بمجرد رؤيتها بشموخها وبقائها، كأنها هنا رمزٌ للتحدي والمقاومة والعشق المتجدد للحياة، تتحول فروعها إلى جذور وتلتفُّ حول نفسها في جدائلِ وجودٍ دائمة، تلتقط معها (سِلفي)، تُهرع إلى ضفة النهر لتَبُثَّهُ شكواها، وتأتيها استجاباته فُيُوضًا من الرضا والسكينة ترتِّقُ روحها، انقبض قلبها للحظة، لم تلمس للنهر تلك الفيوض -عند حضورها في محيطه وقربها من ضفته- التي كان يمنحها إياها كل مرة تفر إليه، أين ذهب النهر؟ شعرت بثقل الحقيبة على ظهرها، حملها الدائم لا يأتي موعد ولادته، رائحة طمي دفين، وأغمضت عينيها لترى بعينَيْ قلبها قاصدةً مشتل الياسمين بين كل المشاتل التي تشغل ضفته على مرمى البصر وحتى نهاية «الزمالك»، فبجواره وأسفل الكوبري مصطبة خاصة بها، اكتشافها وسرها، جلست على كرسي وحيد هناك، رآها العم أحمد الصعيدي، أسرع إليها يحمل عنها حقيبتها، قال:
- فورًا أحضر لحضرتك الكرسي الثاني.
بعد دقيقتين كان الكرسي المقابل لها مشغولًا بحقيبتها، أخيرًا وجدت للكرسي المقابل الفارغ دومًا وظيفة مناسبة، أضاء العم أحمد مصباحًا كبيرًا، لتتلاشى الظلمة أسفل الكوبري، السكون يلف المكان تمامًا كأنها في معبد فرعوني.
تقلب نسخة المجلة الصادرة اليوم وترى صورتها في لقاء تلفزيوني، فلا تلقي لها بالًا كانت هذه الأمور في ما سبق تربِّت على روحها المتعبة، تؤنس وَحدتها التي تحسُّ بها دومًا رغم الزحام ورغم الشهرة.. بلا تجربة حب واحدة، ولعل هذا هو سبب الجرح، فقدان التجربة حتى لو كانت مؤلمة.. يؤلم.
تقفز بطلة روايتها إليها، أتمَّت الستين، أنيقة لا تبدو عليها سنوات العمر، بطلتها المتعبة التي فرت من حياة ثرية ومليئة إلى بيت المسنين، دخلت بيت المسنين مختارةً وبكامل وعيها وإرادتها، لتبتعد عن الضوء وتنعزل عن الناس من حولها بعدما رأت جحود أبنائها، قصة عادية جدًّا وتحدُث في الغرب، لكن بطلة قصتها جميلة وتتمتع بنفوذ المال والجمال معًا، ووصلت إلى الاكتئاب.
كيف تنهي القصة؟ هل تعدِلُ السيدة عن قرارها؟ النهاية لم تَلُح بعد، البطلة تتألم من أبنائها، وترى أنهم كانوا أسبابًا لحياتها واستمرارها في العطاء، وبعد هجرتهم إلى خارج البلاد.. هجرها كل شيء.
شردت مع بطلتها التي تحمل كثيرًا منها: الوحدة وحب النهر، تنتهز الفرص لتأتي لزيارته كلما سنحت لها الفرصة، تحمل معها أوراق عملها، وتلتقط مع النهر صورها.. هنا لمعت نهايةٌ لقصتها، فأخرجت الورقة والقلم، فقد قررت السيدة نهايةً هادئةً لحياتها، ارتجفت رانيا للقرار، فكَّرت «لماذا لا تنهي حياتها هي أيضًا هنا بهدوء، ودون اتهام لأحد»؟ هي فقط لم تستطع احتمال ما يجري في الجريدة وفي حياتها من ضغوط وجنون غير محتمل. النهر معشوقها الأبدي الرحيم الذي استقبل دومًا بكاءها وفضفضتها، فلتنزلق إليه في ليلة مثل هذه الليلة الخريفية، تداعبها صور لعروس النيل، هل كانت أجمل منها؟ ولم تشعر رانيا بخطواتها قبل انزلاقها، لكن كان النهر هناك يقظًا؛ دفعها بيدين قويتين نحو الأعلى والأعلى.