حوسبةُ اللغة العربية ضرورة حضارية

د. خالد صلاح حنفي محمود

نزول القرآن باللغة العربية دون غيرها من اللغات لم يكن عفوياً، بل كان لأسباب دقيقة، وهو بكل تأكيد اختيار حكيم من قِبَلِ رب العالمين؛ فخصائص اللغة العربية وقابلياتها الحيوية، ومرونة تعبيراتها وسعتها، وما إليها من مميزات من حيث الاشتقاق الصرفي، والإيجاز، والخصائص الصوتية، وإمكانية تعريب الألفاظ الواردة، يوضح لنا تميزها وتفردها بين سائر اللغات.


وتعدُّ العربية من أقدم اللغات السامية، وأكثر لغات المجموعة السامية متحدثينَ، وإحدى أكثر اللغات انتشارًا في العالم، يتحدثها أكثر من 422 مليون نسمة، ويتوزع متحدثوها في المنطقة المعروفة باسم الوطن العربي، بالإضافة إلى عديد من المناطق المجاورة، وهي من بين اللغات الأربع الأكثر استخدامًا في الإنترنت.

وفي الوقت نفسه توضح التقارير والدراسات العالمية ضعف وتدني استخدام اللغة العربية على شبكة الانترنت قياساً إلى باقي اللغات، فوفقاً لتقرير الإحصائيات العالمية للانترنت Internet World Stats لعام (2017) فقد بلغت نسبة مستخدمي العربية حوالي 4.7% من المجموع العالمي لمستخدمي الانترنت في العالم، وكشفت دراسة لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا "الإسكوا" (2012) بعنوان: "صناعة المحتوى الرقمي العربي على الإنترنت" أن المحتوى العربي على الشبكة لا يتعدى نسبة الثلاثة بالمائة من إجمالي المحتوى العالمي؛ وهذه النسبة الضعيفة تمثل تناقضًا صارخًا مع إسهامات وإنجازات الحضارة العربية عبر التاريخ؛ وذلك دعا الأمم المتحدة لإطلاق مبادرة إنشاء بوابة المحتوى العربي الرقمي؛ لتعزيز استخدام التكنولوجيا الرقمية في مجالات الثقافة والأدب والتاريخ والاجتماع. وهذا ما أكدته موسوعةموضوع  العربية الإلكترونية (2014) عن تدهور حال المحتوى العربي على الإنترنت؛ فعدد صفحات المحتوى العربي على الإنترنت ما يقارب 660 مليون صفحة فقط منذ إنشاء شبكة الإنترنت؛ أي ما يعادل نسبة 0.89% من شبكة الإنترنت، والتي يبلغ متوسط مجموعها ما يقارب 74.5 مليار صفحة .ولا يزال استخدام هذه اللغة ووجودها في العالم الافتراضي ضئيلاً بالمقارنة بالمكانة التي تستحقها من حيث وزنها السكاني، وقدراتها التواصلية، وقيمتها الثقافية والجمالية.

وقد قررت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) خلال السنوات الأخيرة الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية في يوم 18 كانون الأول/ ديسمبر من كل عام؛ لكونه اليوم الذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها رقم 3190 في ديسمبر عام 1973، والذي تقرر بموجبه إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وفي ذلك إشارة إلى أهمية الخصوصية اللغوية للأمم، وتقديراً لقيمة التنوع اللغوي على مستوى العالم، وأهمية تعدد وسائل التبادل الثقافي وأشكاله، صار من المهم تفعيل دور اللغة في أي مجتمع لتسهم في التعبير عن مشاعر الناس، وفي تقديم منتجاتهم وإبداعاتهم للآخر، فاللغة باعتبارها نظامًا لسانياً يتكون من مجموعة من الوحدات اللغوية الدالة التي تؤمن التواصل بين جمهور المتكلمين هي أداة ضرورية في مجال التواصل الثقافي، كما أن اللغة تعبير عن كيان الأمم الثقافي ومنجزاتها الحضارية.

ويلاحظ تزايد الاهتمام باللغة العربية في العشرية الأخيرة، فبعد أحداث 11 سبتمبر الدامية تزايدت الرغبة في مساءلة العقل العربي، وفي فهم الخلفية الثقافية للعرب، وفي هذا الإطار زادت مراكز الاستشراق، وعقدت العديد من الاتفاقيات بين العرب والغرب للتعاون في المجالين الثقافي واللغوي، ولا تكاد تخلو أي جامعة أمريكية اليوم من قسم لتعليم اللغة العربية، وكذلك الأمر نفسه في الجامعات الأوروبية، مما يشير إلى تزايد الاهتمام باللغة العربية في عصرنا الراهن.

وتعدُّ حوسبة اللغة العربية التحدي الأبرز في عالم يتميز بوفرة المعلومات وسيولتها وسهولة تداولها، والاعتماد على التقنيات الرقمية، فالباحث عبر الشبكة العنكبوتية يلاحظ ضحالة المحتوى المعرفي العربي المعروض على شبكة الانترنت، فحجم المحتوى العربي الرقمي على الانترنت لا يتعدى نسبة 3% على أفضل الأحوال من المحتوى المعرفي العالمي، وهو ما يزيد الحاجة إلى الخروج باللغة العربية من صفحات الكتب والمجلدات إلى صفحات الويب والتواصل الاجتماعي الرقمي، فحوسبة اللغة العربية مطلب ملح، يمكن ترسيخه بتكوين فرق بحث من أهل التخصص من لغويين وإعلاميين ومترجمين، يسهرون على نقل المعرفة وتوليد المصطلحات الجديدة، وحوسبة المحتوى المعرفي باللغة العربية. وعلى الرغم من ظهور بعض البرامج الحاسوبية لتعليم العربية في السنوات الماضية؛ فإنها لم تصمد طويلاً، بل سُحبت من التداول التربوي، بمعنى أنها لم تقدم الحلول المنشودة. وإذ تعجز المؤسسات العربية عن توفير موارد لغوية رقمية تحوز من الكفاءة ما يكفي لإدراجها في مناهجها التعليمية للعربية، تظهر صورة معاكسة في كثير من اللغات الأخرى التي أدى تفاعلها مع التقنية المعلوماتية إلى وفرة في مواردها التعليمية الرقمية.

وقد صار علم حوسبة اللغة أحد مقاييس التقدم والرقي العلمي للدول، كما صار أحد أسلحة الحروب، وهو أهم طرق التواصل مع الآخرين. فالدول المتقدمة تدعم هذه النوعية من الأبحاث بالمال والجهد وآليات العلم، سواء في ذلك الحكومات والقطاع خاص. فاللغة أساس التواصل الزماني والمكاني، والتواصل أساس العلاقات بين الكائنات جميعها.

وهناك تعاريف كثيرة لحوسبة اللغة تختلف باختلاف المرجعيات، لكنها تتفق جميعاً في كون هذه الحوسبة تعني تلك الدراسة الدقيقة لمشكلات التوليد والفهم الآلي للغات الإنسانية الطبيعية؛ أي تحويل عينات ونماذج اللغات الإنسانية إلى تمثيل شكلي صوري يسهّل على برامج الحاسب الآلي تطويعه والتعامل معه. ويرتكز هذا المجال البحثي الدقيق على نظريات الذكاء الاصطناعي وعلم اللغة الحاسوبي، وعلم اللغة العام، والإعلاميات، والرياضيات، والمنطق، والعلوم المعرفية.

ومن المهم في السياق نفسه إصدار وسائط رقمية متعددة لتعلم اللغة العربية وتعليمها في إطار صناعة البرمجيات التفاعلية والمعاجم الالكترونية، وبنوك المصطلحات، وإنشاء المكتبات الرقمية، وقواعد البيانات والفهارس الالكترونية، على نحو يسهم في تيسير وصول المستخدم العربي، والمواطن الرقمي عموماً للمعلومات، ويمكنه من متابعة وفهم اللغة العربية والإحاطة بمضامينها الثقافية، وذلك صار أمراً ضرورياً لتكون اللغة العربية جزءًا من حياة الناس اليومية. وقد لجأت مراكز بحثية وجامعية عربية، من بينها «الجامعة العربية»، ومنظمة الألكسو «المنظمة العربية للتربية والثقافة والفنون» إلى دعم إنتاج موارد لغوية رقمية، بهدف تحسين جودة التعليم عبر استخدام التقنية، وعلى رغم النيّات الطيبة، لم تتوصل تلك المراكز البحثية حتى الآن، إلى إصدار مورد معجمي وتصريفي يمكن الوثوق به في إنتاج برامج رقمية تعليمية للغة العربية.

كما يجب تشجيع خريجى الجامعات على الاشتغال بالتعليم الرقمي للغة العربية، فلا بد من إنشاء جيل من الشباب الأكفاء القادرين على عصرنة اللغة، وتطويعها للصناعات الحاسوبية، وصياغة برمجيات الكترونية لتعليم اللغة العربية للأطفال والأجانب والمبتدئين، وإنشاء معاجمة الكترونية ثنائية اللغة، ومواقع الكترونية تفاعلية لتعليم اللغة العربية، ولا بد كذلك من تدشين محركات بحث عربية ومواقع الانترنت للترجمة الآلية من العربية وإليها، وإنشاء قنوات عربية رقمية وتلفزيونية حتى تصل اللغة العربية إلى المكانة التي تستحقها.

وهذا التحدي القائم ليس مهمة الأفراد أو الحكومات فقط، بل هو مشروع لا بُدّ أن يشارك فيه مجامع اللغة العربية ومجالسها، والجمعيات الثقافية، وكل الغيورين على اللغة العربية؛ لأن حياة اللغة أهم من حياة أهلها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها