خَيالُ الفنّان في سَكّ العُملات

ندوة بين د. نجاة مكي ود. عمر عبدالعزيز

د. أماني محمد ناصر


لقد اهتمّ الفنانون والباحثون بالبحث والتجريب للعملة المعدنية، وإعطاء رؤى جديدة تشكيلية تتناسب والأبعاد الفكرية المعاصرة للثقافة المواكبة لهذا العنصر، وتعتمد على الخامة وما نبع عنها من متغيرات جمالية وتطبيقات تشكيلية، وبالتالي أصبح الفنان مسيطرًا على الخامة ومستثمرًا لإمكانياتها1.
 

ومصطلح العملة هي أحد مشتقات الفعل (تعامل) والتي تعني التعامل بين الأفراد، فالإنسان لا يستطيع أن يعيش وحيدًا، وذلك لحاجته الدائمة إلى الآخرين، ولذلك أصبح هناك ضرورة للتعاملات الخارجية وليس على مستوى العائلات فقط، فظهرت "العملة" كوحدة للتبادل والتعامل التجاري بين الأفراد، وبين البلاد والمؤسسات، وقد اختلفت أشكالها وتصميماتها على مرّ العصور والتاريخ فمنها العملة الورقية والنقدية، كما اختلفت قيمتها من مكان لآخر2.

وقد عرفت إمارات الساحل الغربي للخليج العربي مجموعــة متنوعــة مــن العمـلات المعدنيــة عبر تاريخها الطويل، منذ تاريخ ما قبل الميلاد إلى ما قبل استقلالها السياسي بفترة وجيزة، إذ أدّت التجارة دورًا محوريًا في وصولها إليها مستفيدة من وقوعها على طريق التجارة الدولية حينذاك، مما أتاح لها فرصة الاتصال بالعديد من البلدان ذات الحضارة كبلاد الرافدين ومصر، ودول البحر المتوسط، كما تشير الدراسات الأثرية3.

العملات النقدية قيمة فنيّة ووسيلة إعلامية

وقد كان لسك العملات والتفنن فيها ندوة حوارية بين الفنانة الدكتورة نجاة مكي، والدكتور عمر عبد العزيز. وابتدأت الدكتورة نجاة حديثها حول العملة النقدية قائلة:
"بداية، ما أثر بي خلال دراسة الدكتوراه هو الفكر التصميمي أو الانطلاق في الخيال من الفنانين اليونانيين، وكذلك الإغريق في قراءاتي لتاريخ العملات اليونانية والرومانية، خاصة في القرن السادس والخامس قبل الميلاد، حيث شهدت الساحة اليونانية تطورًا كبيرًا في إنتاج وسك العملة وتصميمها من الناحية الفنية، وطبعًا العملة هي وسيلة إعلامية بما تحمله من كتابات ورموز وصور، هذه الصور تفيدنا في معرفة التاريخ والوقت الذي تمّ فيه صك العملة، إضافة إلى معرفتنا الثقافية والدينية والسياسية وتُعرّف العالم بمدى ما وصل إليه الفن في مراحل متعددة".

وتناولت الدكتورة خلال الندوة ابتكارات الفنانين في العصر القديم قائلة:
ما شدّني هو ابتكارات الفنانين في ذلك العصر؛ إنهم يبتكرون على ظهر العملة المعدنية صغيرة الحجم جمالية ليس لها حدود، إضافة إلى الدقة المتناهية في الرموز والأشكال وأشياء كثيرة، حتى المواضيع كانت مقتبسة من البيئة والثقافة والديانات التي كثرت في العصر اليوناني والروماني على مختلف مراحلها الميثولوجية، وفي هذا الوقت كانت الديانة السائدة تأليه الآلهة فكثر الخيال بالنسبة للفنانين الذين جسّدوا على أسطح العملات المعدنية الكثير من القصص والخيال الإبداعي.

خيال الفنان في سك العملات

ومما جاء في حديثها عن مشاركتها في لوحاتها الفنية عن العملات النقدية، قالت الدكتورة نجاة مكي:
"أحببت أن أقتبس خيال هؤلاء المبدعين، فأنا لا أستطيع تصوير العملة كما هي، لأنّ هناك فناناً آخر صور هذه العملة، فإذا نقلتها كما هي فأنا هنا لم أضف أي شيء جديد.

فانطلقت بخيالي كما انطلق الفنانون الآخرون وقلّدتهم في أشياء أخرى، حسب البيئة التي أعيش بها، نفذتُ عملة الملك "كروسوس" الذي هو من ملوك ليديا، والذي سك العملة الأولى بالذهب الخالص، وكانت تحمل على وجهها أسدًا بفم مفتوح، وجسّد صورة الأسد بدقة متناهية، حتى إننا نلاحظ بروز أنيابه، وطبعًا هي عبارة عن رمزية لسلطة الملك أو الحاكم، فالعملات في هذا الوقت حملت رمزيات كثيرة، مثل الفلسفة وثقافة المجتمع.

في اللوحة الأولى مثّلت عملة "كروسوس": أنّ هذا الرجل هو من الثراء لدرجة امتلاكه جبالًا من الذهب، فمثلت العملة أنها قطعة موجودة في الجبل وتحرسها الجنيات أو الآلهة، حسب ما كان موجودًا في ذلك العصر، وصورت الآلهة بصور هلامية فقط نجد أنّها بدون ملامح، كذلك الألوان جاءت باللونين الفاتح والغامق كي أخلق الأبعاد في العمل الفني.

اللوحة الثانية اتجهتُ فيها إلى التراث الموجود في البيئة الإماراتية، الذي هو الزخارف الموجودة في الفرش، في السدو، في الأزياء التراثية الإماراتية، وأحيانًا تكون هذه الزخارف عبارة عن مثلثات بالنسبة للإله زيوس، حيث اكتشفت بعض العملات في دولة الإمارات في مناطق مختلفة، اختلقتُ قصة عشتُ فيها وأوحيت وأحببت أن أعيش كفنانة وأنطلق، فتخيلت أنّ هذه الكنوز كانت في مركب وحصل إعصار وغرقت في البحر، وأحببت أن تكون الخطوط في العملة رمزية، فهي تمثل الإله زيوس على كرسي العرش ممدودة يده، ويحمل في يده مجسّم حصان، واليد الأخرى مرتكزة على صولجان الحب.

اللوحة المقابلة لها كذلك الإله زيوس في صورة أخرى، بسبب تعدد أنواع الصور والجلسات التي تمّ صكها في مناطق مختلفة، بالنسبة للآلهة ووضعها في العمل الفني أو في العملة، وطبعًا العملة تعتبر عملًا فنيًا لأنّ لديها فكراً وبها موضوعاً، كذلك كانت تحتوي على أسس وعناصر التدوين صاغها الفنانون بدقة متناهية.

وأشارت إلى أنّ هناك ظروفًا معينة في المنطقة جذبت الاسكندر الأكبر للتواجد فيها، ولذلك نرى صورته في العملة النقدية التي اكتشفت في منطقة المليحة.

أما الدكتور عمر عبد العزيز؛ فقد افتتح حديثه عن أهمية العملات النقدية من خلال تجربة الدكتورة نجاة قائلًا:
موضوع العملة هو أحد المواضيع الهامة جدًا، خاصة إذا قرأنا هذه التجربة من خلال تجربة الدكتورة الفنانة نجاة مكي، ومن حسن حظي أنّني اطّلعتُ على رسالة الدكتوراه للدكتورة "مكّي" قبل عقود من الزمن.

وفيما يتعلق بتاريخ العملة، نشأت باعتبارها البديل للمقايضة التقليدية في البضائع المختلفة، أي بمعنى آخر تحل محل القيم المادية والروحية التي كانت تتم مقايضتها بناء على حاجة الطرفين في التبادل، لكن العملة ما إن ظهرت سواء كانت عملة فضية أو ذهبية أو غيرها، من مختلف المواد، كانت تستقي مفرداتها كقيمة من الطبيعة، فكان الذهب هو أرقى العملات ثم تليه الفضة وهكذا دواليك.

عناصر العملة النقدية

وتابع الدكتور "عمر" حديثه عن العملات النقدية مستعرضًا عناصرها وقيمها الروحية في بحث الدكتورة نجاة مكّي:
الجانب الآخر هو أنّ العملة كانت مدونة تاريخيًا لكل ما حصل في تاريخ الحضارة، في تاريخ الإمبراطوريات، في تاريخ الشعوب، في تاريخ الأمم، ولهذا السبب؛ فإنّ البحث الذي قدّمته الدكتورة نجاة أيضًا يتعلق بالعملات، يمكن القول إنه كان يتوازن مع الأبحاث الأنتروبولوجية والغرافولوجية، بمعنى آخر هناك العديد من العناصر الفنية كانت تتبوأ العملة.

وأشارت الدكتورة إلى المرحلة الهيلينية، والشيء المهم هو الرسومات التي كانت تظهر على العملة في هذه المرحلة، ولكن أيضًا على مدى تاريخ طويل جدًا، ظهرت الكثير من العناصر ذات العلاقة بالأسطورة والحرف، وعناصر ذات علاقة بالزخرفة وغيرها من العناصر الفنية المختلفة، وفي العملة نتوءات وبروزات، وبالتالي فإنّ الفنان كان يجد نفسه في حالة تعاطي متعدد الألوان مع مختلف العناصر الفنية التي تجعله يتمكن من صك هذه العملة، فإذًا العملة بهذا المعنى عكست كلّ هذا التاريخ، عكست القيم الروحية والعقائد والأساطير، الممالك والدول، الإمبراطوريات.. إلخ.

لماذا العملات النقدية دائرية الشكل؟

وحول رؤيته لسبب الشكل الدائري للعملات النقدية، تحدّث الدكتور "عمر عبد العزيز" قائلًا:
إنّ العملة تميل إلى الدائرة دائمًا وأبدًا، والدائرة واحدة من العناصر المهمة في الطبيعة؛ لأنّ الدائرة لديها قابلية استثنائية في التكابر والتصابر، وعندها قابلية استثنائية في تمثل وحضن البعد الجمالي والفني، ولهذا السبب من الطبيعي أن تكون الدائرة هي الأساس في العملات المتداولة، أغلب العملات كانت دائرية، وبالتالي كانت هذه العناصر المهمة فيما يتعلق بإمكانية التبادل لهذه العملات بمرونة وسهولة، من العناصر الهامة في اختيار الدائرة كنمط أساسي في سك العملة.

 


هوامش: (1) البسيوني، محمود (1938): الفن في القرن العشرين، دار المعارف القاهرة، ص: 121. (2) محمد، إيمان عبد الباقي (2021): سك العملة ما بين إبداع التصميم والتقنيات، مجلة التراث والتصميم، المجلد الأول، العدد الثالث، ص: 27.(3) يوسف، فرج الله أحمد (2002): مسكوكات ممالك الجزيرة العربية قبل الإسلام، مجلة أدوماتو، الرياض-المملكة العربية السعودية، العدد 5، ص: 72-73.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها