اللّقاءُ الحاسم

الزهراء عبد الحميد


فور دخوله الغرفة حرر قدميه من حذائه وتركه بجوار الباب، وتمدد بملابسه على السرير... كان مرهق الأعصاب مشتعل العقل لم يأت بحقيبة معه، لذا تعجب موظف الاستقبال من أن يأتي نزيل إلى مثل هذا الفندق بغير أمتعة، وأمعن النظر في بطاقة هويته المدون بها أنه تاجر، وكاد تشككه يدفعه لأن يقول له "لا توجد أماكن خالية"، لكنه حين عرف أنه يريد غرفة ليوم واحد أرجع الأمر إلى نوايا حسنة، فربما جاء النزيل لزيارة أقارب له في هذه المدينة فلم يجدهم.

تقلب على السرير دقائق ثم نهض وهو يزفر، فتح نافذة صغيرة أطل برأسه منها على ميدان كبير، كانت السماء معتمة وأضواء النيون على المحلات صفراء وانية، همس وهو يتحسس شيئاً داخل ملابسه "سيشهد هذا الميدان موتك يا ملواني إن لم تعطني حقي على الفور... لن أرجع إلى بلدتي أضحوكة".

كان قد ترك بلدته المجاورة لهذه المدينة عند غروب الشمس قائلاً لزوجته: إنه سيسافر لتجارة وربما لن يعود في نفس اليوم.. لم تدر بما خطط له وعزم عليه... لقد أشعلت دمه طوال الليلة السابقة حينما قالت:
- كيف تتعلل بأن ظروفك المالية لا تمكنك الآن من استكمال بناء الشقة؟ أنا لا أقول لك ابنها بكل رصيدك أو رأس مال تجارتك... ولكن أموالك التي تركتها للناس ألا تكفي؟ أموالك التي عند الملواني أنسيتها؟ أينهب حقك ويتمتع بعرقك وأنت قليل الحيلة مكتوف الأيدي.. آه تجرأت على إهانتي، أدركها وإن لم تنطقيها كاملة... ربما يدخرها لسانك إلى حين.. لكن معك الحق.. وكلهم الحق معهم، كل من سمعتهم يتهامسون بأن بطش الملواني يمنعني من مطالبته بحقي الذي عليه، وتواجهني نظراتهم الساخرة حينما يستفسرون عن سبب توقفي بعد أن شرعت في بناء الشقة، وأرد عليهم قائلاً: إنه ليس بمقدوري الآن استكمال البناء، بدا له أن البلدة كلها تعرف أن الملواني مدين له بثلاثة آلاف جنيه اقترضها منذ عامين، ولم يسدد شيئاً من المبلغ رغم تكرار مطالبته بالطرق الودية.

خيل إليه أن الأطفال يتهامسون وهم يلعبون الكرة تحت منزله بأن الطابق الجديد لم يكتمل لأن "المعلم عمران" لا يملك أموالاً كافية، وأنه لا يستطيع استرداد أمواله التي أقرضها للملواني... الرجل الأسمر الذي كان يستأجر محلاً لبيع الأقمشة في الحي، ثم تركه وسافر إلى المدينة المجاورة... كان الأطفال يتكلمون ويتهامسون وهم ينظرون إلى الشقة التي لم تكتمل، وكانوا يصمتون عند رؤيته أكانوا يخشون أن يسمع حديثهم؟ آه لن أعود إلى بلدتي إلا بنقودي أو دمك.

حينما ذهب إلى متجر الملواني فور وصوله والشرر يتطاير من عينيه في محاولة لأن يسترد أمواله بلسانه، قبل أن يلجأ إلى استخدام ما يخفيه بين ملابسه، لم يجده في متجره، ووجد فتى من العاملين بالمتجر أخبره بأن "الملواني بك" سافر لشراء بضائع وسيكون بالمتجر عند صباح غد.. هز رأسه وهو يردد كلمة "بك" التي قرن الصبي اسم الملواني بها، وهمس بصوت مسموع، قطب الفتى جبينه على أثره "ها.. ها.. أصبحت من البكوات يا ملواني"، ألقى نظرات فاحصة على المتجر كان كبيراً عامراً ممتلئاً بالأقمشة... حتى الأقمشة النادرة في السوق والتي لا يستطيع هو نفسه الحصول عليها والاتجار فيها، وجدها تبرز على الأرفف الخشبية اللامعة... صمم على ألا يعود إلى بلدته قبل أن يشفي غليله، تجول في الطرقات حتى عم الظلام فاستأجر حجرة في هذا الفندق منتظراً لقاء الغد الحاسم.

عاد إلى سريره واستلقى من جديد، وأخرج مسدسه وتمعن في رصاصات الخزانة، حتى لو قتلت رصاصة واحدة سأفرغ كل هذه الرصاصات في جسدك سأمزقك مثلما تمزقت مكانتي في بيتي وبلدتي... وضع الخزانة في المسدس وهب واقفاً في عصبية شديدة... نظر إلى الميدان المعتم، امتصت العتمة أضواء النيون قرأ اللافتة الشاحبة من جديد "محلات الملواني للأقمشة والمفروشات"، ها إذن هي متجر.. لا يقتصر الأمر على هذا المتجر... وتدعي الإفلاس والعوز أيها النصاب، قال له جاره الذي أعطاه عنوان محل الملواني:
- سمعت أنه يملك محلاً في هذا العنوان، أرجوك يا معلم عمران أن تحدثه عن مبلغ مائتي جنيه كان قد اقترضها مني منذ سنوات.

"آه يا لك من نصاب حقير.. حتى هذا الرجل العجوز المسكين، الذي يبيع الحلوى للأطفال في حانوت صغير تستغل ضعفه وتأكل حقوقه؟

أيقظته أشعة الشمس العفية المتسللة من زجاج النافذة الصغيرة... نهض منهكاً... نظر في ساعته تجاوزت العاشرة.. تحسس مسدسه وضع قدميه في حذائه وغسل وجهه ثم جففه بمنديل... سار مسرعاً نحو مقصده... دخل المتجر وكل ما فيه يغلي، واجهه الفتى الذي قابله بالأمس صاح في الفتى وكأنه ينهره:
- أين المعلم الملواني؟
ارتبك الفتى وقال متلعثماً وهو يتحرك إلى الداخل:
- إنه بالمكتب داخل المحل.

عاد الفتى وهو يقول لرجل مهيب الطلعة بجواره:
- هذا هو الرجل الذي سأل عنك بالأمس يا ملواني بك.

تفحص كل من الرجلين الآخر.. ثم قال بصوت تربكه الدهشة رغم قوته:
- أنا أريد المعلم حسن الملواني.
تجهم الآخر وهو يقول:
- آه... أنا سعيد الملواني تفحصه من جديد، وقال بعد صمت متبادل:
- هل هو...؟
- أجابه بصوت ضجر واهن:
- هو شقيقي.
ودعاه للجلوس بنبرة غير مرحبة، تردد في الجلوس، وقال وهو يتفحص الرجل من جديد:
- وأين هو؟ إني أريده للضرورة.

- لا أدري.. لم أره منذ فترة طويلة لكن هذا الصبي سيدلك على منزله إن شئت، سار خلف الفتى.. ولّدت الحيرة لديه مشاعر متضاربة أحس والفتى أمامه يقوده إلى الطريق، أنه مقدم على أمر يشوبه الغموض لم يتوجه إليه بإرادته الخالصة.. مدفوع هو بقوى غريبة تسيره وتسيطر عليه.. توقف الفتى أمام منزل صغير قائلاً وهو يستدير لمغادرة المكان، هذا هو المنزل.

تردد قبل أن يدخل المنزل... منزل صغير يكاد يتهدم... يدل منظره على أن سكانه فقراء معدمون عمته دهشة غامضة، وهو يطرق الباب فتح له صبي... أفهمه أنه يريد المعلم حسن الملواني قال الصبي بود هو يدعوه للدخول:
- إنه خرج للصلاة في المسجد المجاور وسيعود بعد صلاة الجمعة.

ابتلع لعابه.. تذكر أن اليوم الجمعة... شعر بألم في صدره تذكر أنه لم يصلّ منذ الأمس، عمّه الأسى والأسف تحركت يده إلى صدره فارتطم بالشيء الحديدي القابع تحت ملابسه أبعد يده سريعاً عنه.. شعر برغبة في أن يلقي به بعيداً عنه، يخلص نفسه منه وكأنه وزر يحمله... تمتم وهو ينظر إلى السماء "استغفر الله".

توجه إلى المسجد القريب توضأ.. بصعوبة دخل إلى المسجد العامر بالمصلين، دمعت عيناه وهو يصلي.. أحس بأنه يريد الخروج من المسجد ليخلص نفسه من الإثم الذي يحمله على صدره تحت ملابسه لكنه تردد.. جلس كالمتخفي لا ينظر إلى الناس حوله، أحس بأنه يختلف عنهم.. إنه أقل منهم إيماناً وتقًى... جاؤوا طاهرين فرحين مستبشرين طامعين في رضاء الله، أما هو فقد جاء والإثم على صدره يتوارى طي ملابسه... أتى إلى هذه المدينة يدفعه الشيطان كي يغضب الله، أما هم فقد أتوا يدفعهم الإيمان إلى رضاء الخالق.

استمع إلى خطبة الإمام، كانت عن دور الشيطان الرجيم في إغواء بني آدم ووسيلة الإنسان لينجو دائماً من إغوائه، استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، قام ليصلي مع المصلين.. غبّشت الدموع عينيه.. بكى وهو يصلي بصوت مسموع وضع الجالس عن يمينه يده على يده بعد الانتهاء من الصلاة... نظر من وراء دموعه إلى الذي يشد على يده أخذته المفاجأة وهو يرد عليه قوله بصوت واهن دامع:
- تقبل الله منا ومنكم.
صاح جاره:
- المعلم عمران؟ أهلاً بأخي أهلاً وسهلاً.
- أومأ إليه وهو ينبس ولم يزل دامع العينين، أهلاً بالمعلم الملواني تعانقت يداهما واسترسل الملواني في عباراته المرحبة، بينما أخذ هو يتمتم بكلمات غير واضحة منحنياً برأسه لا يواجهه، قال الملواني وهما في الطريق إلى منزله:
- الحقيقة يا أخي أني مقصر في حقك.. لكنها الظروف.. كم كان بودي أن أتمكن من زيارتك لكن كيف أذهب إليك وأنا لم أف بحقك، أجابه بنبرة حانية وهو يشد على يديه:
- لا.. لا.. تقل هذا أنت أخي يا رجل ولا فرق بيننا.. ربنا موجود ييسر الصعب لنا جميعاً. غمره الشعور بالراحة وهو عائد إلى بلدته.. خمدت نيران رأسه وأعصابه وارتفع عن كاهله صقل كبير... كان قد تخلص من مسدسه في إحدى الترع قبل أن يستقل سيارة العودة... تمتم وهو يرنو من نافذة السيارة إلى الحقول الشاسعة الخضراء "الحمد لله استغفرك يارب أعوذ بك من شرور الناس وشرّ الوسواس الخناس".

استرجع ما سمعه وشاهده في منزل الملواني، ظلمت الرجل وظلمه الناس نسيت أنه كان شهماً شجاعاً ينصر الضعيف ويؤيد المظلوم، كم وقف معي في بدء حياتي كتاجر، وساعدني وساعد غيري... الآن يعيش في منزل قديم متهالك ويكاد يخلو من الأثاث ينفق على زوجته وأولاده العديدين، ويعالج بماله القليل أمه المريضة المسنة التي تقيم معه ولا يطمع في عون أخيه الثري الذي تركه يتحمل وحده وهو الفقير نفقات أمهما المريضة، وعلاجها من الشلل الذي أصابها... جزاك الله خيراً يا حسن يا ملواني، اغفر لي سوء ظني".

عاد إلى منزله بوجه جديد وعقل جديد... لم يعبأ بترحيب زوجته التي تفحصته طويلاً، تجاهلها وأسرع إلى غرفته فتح مكتبه وأخرج "دفتر شيكات" حرر صكاً أرفقه برسالة كتب فيها:
"أخي حسن الملواني أرجو أن تقبل هذا المبلغ المدون بالصك كمساهمة مني في نفقات علاج أمنا المريضة شفاها الله، هذا واجب عليّ وإن لم تشأ اعتبره قرضاً" أخوك عمران.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها