أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية في العصر الرقمي الحديث، ومع ازدياد الاعتماد على هذه المنصات، ظهر مفهوم FOMO1، أو "الخوف من فوات الشيء"، ليعبر عن مشاعر القلق والتوتر التي يشعر بها الأفراد عند مشاهدة حياة الآخرين ومقارنة أنفسهم بهم. وتعكس هذه الظاهرة رغبة قوية في البقاء على اتصال دائم بالأنشطة الاجتماعية والفرص التي قد لا تكون في متناول الفرد، مما يؤدي إلى الشعور بفقدان المشاركة أو الاستمتاع بتلك اللحظات.
وعلى الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي تُعد وسيلة فعّالةً للبقاء على تواصل مع الآخرين، إلا أن تأثيرها النفسي والاجتماعي على الأفراد قد يؤدي إلى مشكلات كبيرة مثل القلق والاكتئاب، والإفراط في التفاعل مع المحتوى الرقمي، وسلوكات استهلاكية غير مخططة. بالإضافة إلى ذلك، تعزز خوارزميات هذه المنصات الشعور بالمقارنة الاجتماعية، مما يزيد من احتمالية تفاقم FOMO.
تعريف ظاهرة FOMO
ظاهرة "الخوف من فوات الشيء" (FOMO - Fear of Missing Out) هي حالة نفسية تعبر عن الشعور بالقلق أو التوتر الناتج عن الاعتقاد بأن الفرد قد يفوته حدث أو فرصة مهمة، تشارك فيها مجموعة من الأشخاص الآخرين. ويتميز هذا الشعور بالإحساس الدائم بأن الآخرين يعيشون تجارب مثيرة، وممتعة، أو ناجحة بينما يشعر الفرد بالعجز عن المشاركة فيها، مما يؤدي إلى إحساس بعدم الرضا الشخصي. وغالبًا ما ترتبط ظاهرة FOMO بالرغبة في البقاء على اطلاع دائم بكل ما يجري حولنا، خصوصًا مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي تجعل من السهل الوصول إلى تفاصيل حياة الآخرين.
والأكيد أن الخوف من تفويت الفرص هو شعور دائم الوجود بين الأفراد الذين يتصلون باستمرار بمنصات التواصل الاجتماعي، حيث يخشون استبعادهم من الأحداث الاجتماعية أو التجارب أو التفاعلات التي يشارك فيها الآخرون. وينشأ هذا الخوف من الطبيعة المنظمة لمحتوى وسائل التواصل الاجتماعي، والذي غالبًا ما يصور نسخًا مثالية من حياة الناس، مما يدفع الأفراد إلى مقارنة تجاربهم الخاصة بشكل غير موات. وبالتالي، يمكن أن يؤدي الخوف من تفويت الفرص إلى زيادة التوتر والقلق وعدم الرضا عن حياة المرء2.
ويمكن اعتبار FOMO ظاهرة نفسية جديدة نسبيًا؛ فقد تظهر على شكل شعور عرضي يحدث في منتصف المحادثة، أو كمزاج طويل الأمد، أو حالة ذهنية تدفع الفرد إلى الشعور بإحساس أعمق بالنقص الاجتماعي، أو الوحدة، أو الغضب الشديد. فمستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يتعرضون للكثير من التفاصيل حول ما يفعله الآخرون؛ ويواجهون حالة من عدم اليقين المستمر حول ما إذا كانوا يفعلون ما يكفي أو ما إذا كانوا حيث يجب أن يكونوا أو حيث يرغبون. ويتضمن FOMO عمليتين؛ أولاً، إدراك الغياب، متبوعًا بسلوك قهري للحفاظ على هذه الروابط الاجتماعية. ويمكن افتراض الجانب الاجتماعي لـ FOMO على أنه صلة تشير إلى الحاجة إلى الانتماء، وتكوين علاقات شخصية قوية ومستقرة، كما يمكن اعتباره نوعًا من الارتباط الإشكالي بوسائل التواصل الاجتماعي، ويرتبط بمجموعة من التجارب والمشاعر السلبية في الحياة، مثل قلة النوم، وانخفاض كفاءة الحياة، والتوتر العاطفي، والآثار السلبية على الصحة البدنية، والقلق، والافتقار إلى السيطرة العاطفية؛ مع احتمال اعتبار الروابط الحميمة وسيلة لمواجهة الرفض الاجتماعي3.
◂ أسباب نشوء FOMO
يمكن تفسير نشوء ظاهرة FOMO من خلال مجموعة من العوامل النفسية والاجتماعية التي أصبحت أكثر بروزًا مع تطور التكنولوجيا الحديثة، وانتشار استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، وتشمل هذه العوامل:
1. الحاجة إلى الانتماء: فالإنسان بطبيعته يميل إلى الانتماء إلى جماعات أو مجتمعات، وعندما يشعر بأن هناك أنشطة أو فرصًا تحدث من حوله دون أن يكون جزءًا منها، قد ينشأ لديه إحساس بالعزلة أو الفقدان.
2. المقارنة الاجتماعية: تُعد المقارنة الاجتماعية أحد العوامل الرئيسة وراء ظهور FOMO؛ فمن خلال مقارنة الفرد حياته بما يراه من أنشطة أو إنجازات على وسائل التواصل الاجتماعي، قد يشعر بعدم الرضا، خاصة إذا كانت حياته الواقعية لا تتوافق مع الصورة المثالية التي يرى الآخرين يعيشونها.
3. الخوف من الفرص الضائعة: يرتبط FOMO أيضًا بالخوف من فقدان الفرص التي قد تؤثر على التقدم الشخصي أو المهني؛ حيث يعاني الفرد من شعور مستمر بأنه لا يمكنه تحقيق كل الفرص المتاحة له، مما يؤدي إلى قلق دائم من اتخاذ قرارات خاطئة أو فقدان فرصة ثمينة.
◂ الجوانب النفسية المرتبطة بـ FOMO
ارتبط FOMO بعدد من التأثيرات النفسية التي يمكن أن تؤدي إلى مشاكل نفسية أكبر إذا لم يتم التعامل معها بشكل صحيح، وتشمل هذه التأثيرات4:
1. القلق والتوتر المستمر: يشعر الأفراد الذين يعانون من FOMO بالقلق المتزايد حول ما يمكن أن يفوتهم من أحداث أو فرص، وهذا القلق لا يتوقف على الحياة الاجتماعية فقط، بل يمتد ليشمل الفرص المهنية، والسفر، والمنتجات الاستهلاكية.
2. انخفاض الرضا عن الحياة: تشير العديد من الدراسات إلى أن الأفراد الذين يعانون من FOMO غالبًا ما يظهرون معدلات أقل من الرضا عن حياتهم مقارنة بأقرانهم، ويبقى السبب الرئيسي لهذا هو الشعور المستمر بأن حياتهم أقل أهمية أو إثارة من حياة الآخرين.
3. اضطراب النوم: يميل الأفراد الذين يعانون من FOMO إلى فحص هواتفهم أو التحقق من مواقع التواصل الاجتماعي بشكل مفرط حتى في الأوقات التي يجب أن يكونوا فيها نائمين، مما يؤدي إلى اضطرابات في النوم وزيادة مستويات الإرهاق.
4. الإدمان الرقمي: يؤدي FOMO إلى إدمان استخدام وسائل التواصل الاجتماعي نتيجة الخوف من فقدان أي جديد، ويظهر هذا من خلال شعور الأفراد بالحاجة المستمرة للتحقق من هواتفهم حتى خلال فترات الاسترخاء أو العمل.
كيف تؤدي مواقع التواصل الاجتماعي إلى تفاقم FOMO؟
أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي، مثل فيسبوك، إنستغرام، وسناب شات، جزءًا أساسيًا من حياة الأفراد في العصر الرقمي، مما أدى إلى نشوء العديد من الظواهر النفسية والاجتماعية الجديدة، ومنها ظاهرة FOMO (الخوف من فوات الشيء). وتُعد هذه المنصات أدوات رئيسية لتفاقم هذا الشعور لعدة أسباب، منها5:
1. الوصول المستمر للمحتوى الفوري والمباشر: تجعل مواقع التواصل الاجتماعي الأفراد على اطلاع دائم بكل الأحداث والتحديثات التي تحدث في حياتهم وحياة الآخرين؛ فكلما تم نشر نشاط أو حدث أو تجربة جديدة، يتم إبلاغ المستخدمين فورًا، مما يزيد من الشعور بأن هناك دائمًا شيئًا مثيرًا يحدث "في الخارج" ويجب متابعته.
2. إبراز اللحظات المثالية: أغلب ما يتم نشره على مواقع التواصل الاجتماعي هو لحظات مثالية أو محسنة لحياة الأشخاص، مثل صور السفر، الأكل في مطاعم فاخرة، أو حضور حفلات ومناسبات، وهذه الصور والقصص غالبًا ما تعكس جانبًا محددًا جدًا من حياة الآخرين مما يعزز من شعور الأفراد بأن حياتهم أقل إثارة أو أقل أهمية.
3. المقارنة الاجتماعية المستمرة: تعتبر مواقع التواصل الاجتماعي بيئة خصبة للمقارنة الاجتماعية المستمرة، فعندما يرى الأفراد أصدقاءهم أو معارفهم يشاركون صورًا لأنشطتهم وإنجازاتهم، يقارنون حياتهم بما يرونه، مما يزيد من شعور FOMO لديهم. وكلما زاد هذا التفاعل والمقارنة، زادت احتمالية تفاقم هذا الشعور.
4. الضغط الاجتماعي للمشاركة: يساهم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في زيادة الضغط الاجتماعي على الأفراد للمشاركة في الأنشطة والمناسبات التي قد لا تكون ذات أهمية شخصية لهم، ولكنهم يشعرون بأنهم مجبرون على المشاركة حتى لا يشعروا بأنهم خارج الأحداث.
◂ دور الخوارزميات في تعزيز FOMO
تلعب الخوارزميات التي تستخدمها منصات التواصل الاجتماعي دورًا مهمًا في زيادة شعور FOMO لدى المستخدمين؛ حيث تهدف إلى زيادة التفاعل من خلال عرض المحتوى الذي يعتبر الأكثر جاذبية وملاءمة لكل مستخدم. وتتمثل آليات عمل هذه الخوارزميات في النقاط التالية:
1. التخصيص القائم على الاهتمامات: تقوم الخوارزميات بتتبع اهتمامات المستخدمين وسلوكاتهم السابقة على المنصة لعرض المحتوى الذي يتوقع أن يجذبهم؛ فإذا كان المستخدم مهتمًا بتجارب السفر أو المناسبات الاجتماعية، ستعمل الخوارزميات على عرض المزيد من هذا النوع من المحتوى، مما يعزز شعوره بأنه يفوت الكثير من الفرص أو التجارب المميزة.
2. الترويج للمحتوى الأكثر تفاعلًا: تعتمد الخوارزميات على قياس مستويات التفاعل، مثل عدد الإعجابات، والتعليقات والمشاركات، وتقوم بعرض المحتويات التي حازت على أعلى تفاعل بشكل متكرر، وهذا يعزز من فكرة أن المحتوى الشائع هو المحتوى الأهم، مما يدفع المستخدمين إلى مقارنة أنفسهم بما هو "شائع"، ويزيد من شعورهم بأنهم خارج دائرة الأحداث المهمة.
3. إبراز حياة المشاهير والمؤثرين: تميل الخوارزميات إلى الترويج لحسابات المشاهير والمؤثرين الذين يعرضون حياتهم بشكل جذاب للغاية؛ فمتابعة حياة هؤلاء الأفراد المثالية، التي غالبًا ما تكون بعيدة عن واقع حياة المستخدمين العاديين، يزيد من الشعور بـFOMO، وذلك بسبب مقارنة الأفراد حياتهم الشخصية بحياة هؤلاء المشاهير.
4. الاعتماد على التفاعل اللحظي: تعتمد بعض المنصات على خاصية "القصص" التي تستمر لفترة زمنية محدودة (24 ساعة)، وهذه القصص تولد شعورًا بالضغط على المستخدمين للتحقق بشكل متكرر من المحتوى قبل اختفائه، مما يعزز من رغبتهم في البقاء متصلين على الدوام حتى لا يفوتوا أي شيء.
◂ استراتيجيات الحد من FOMO
تعتبر التربية الرقمية جزءًا أساسيًا من الجهود المبذولة للحد من تأثيرات FOMO، وذلك من خلال توعية الأفراد بكيفية التعامل مع التكنولوجيا بشكل صحي ومتوازن، ويتمحور دور التربية الرقمية حول تطوير مهارات التفكير النقدي وتعزيز الفهم العميق لطبيعة المحتوى الرقمي وتأثيراته النفسية والاجتماعية. ويمكن في البداية الحديث عن التوعية حول التأثيرات النفسية لوسائل التواصل الاجتماعي من خلال تثقيف الأفراد، وخصوصًا الشباب والمراهقين، حول كيفية عمل منصات التواصل الاجتماعي وآليات التفاعل عليها، بما في ذلك تأثيرها على مشاعر المقارنة الاجتماعية والضغط الاجتماعي، بالإضافة إلى تطوير وعي ذاتي حول كيفية تقديم أنفسهم على الإنترنت وكيفية تأثير هذه الصورة الرقمية على الآخرين، مما يقلل من الشعور بالحاجة إلى التفاعل الدائم والمقارنة المستمرة. وإلى جانب كل هذا يجب تعليم المهارات الرقمية الصحية من خلال العمل على تطوير استراتيجيات فعّالة للتحكم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك كيفية تجنب الإفراط في الاستخدام والتعامل مع الإشعارات التي تحفز مشاعر FOMO، وأهم تلك المهارات القدرة على ضبط الوقت وتجنب الاستجابة الفورية لكل إشعار، واستحضار متعة التخلي عن استخدام هذه المنصات والوسائل.
خلاصة:
من باب الختم نؤكد على أن ظاهرة FOMO (الخوف من فوات الشيء) ترتبط ارتباطًا وثيقًا باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تسهم هذه المنصات الرقمية في تعزيز الشعور بالقلق والتوتر من خلال آليات التفاعل المستمر والمقارنة الاجتماعية.
وتلعب الخوارزميات في وسائل التواصل الاجتماعي دورًا كبيرًا في الترويج لمحتويات تُفاقم مشاعر FOMO، مما يؤدي إلى ارتفاع مستويات القلق، وتدني الثقة بالنفس، وزيادة الاعتماد على هذه المنصات بشكل غير صحي.
كما نؤكد على التأثيرات النفسية لظاهرة FOMO، بما في ذلك الاكتئاب والقلق الناتجين عن الاستهلاك المفرط للمحتوى الرقمي، بالإضافة إلى تأثيرات الإدمان على مواقع التواصل الاجتماعي الذي يعمق الشعور بالانفصال عن الواقع، حيث تؤدي FOMO إلى سلوكات استهلاكية زائدة، وتفاعل قسري مع المحتويات الرقمية في أوقات غير مناسبة، مما يزيد من الضغط النفسي والاجتماعي على الأفراد.
واعتباراً لصعوبة التخلي عن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي، فقد أشرنا إلى بعض الاستراتيجيات للحد من FOMO، من بينها التربية الرقمية التي تسهم في تحسين وعي الأفراد بتأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، وأهمية إدارة الوقت المخصص لاستخدام هذه المنصات، بالإضافة إلى الدعم النفسي والاجتماعي الذي يساهم في تحسين الحالة النفسية وتقليل تأثيرات FOMO، وهو ما يمكن أن يساعد في بناء علاقة أكثر توازنًا وصحة مع التكنولوجيا الرقمية ويعزز من جودة الحياة.
الهوامش:
1. اختصار للتعبير الإنجليزي « fair of missing out »: وهي متلازمة تتميز بالخوف من تفويت شيء مثير للاهتمام أو مسلي أو مهم. يُنظر: https://shorturl.at/us9yz (تاريخ الاطلاع: 22 غشت 2024). ينظر أيضا:
Rashmi Parmar, understanding the fear of missing out, www.psychiatrictimes.com/view/understanding-the-fear-of-missing-out (تاريخ الاطلاع : 26 غشت 2024)
2. Shah Din, Niraj Kumar Singh, influence of social media on fear of missing out (fomo) and social esteem among undergraduate level students, interdisciplinary journal of contemporary research, Vol 11, N°3, 2024.
3. Mayank Gupta, Aditya Sharma, fear of missing out : a brief overiew of origin, theorectical underpinnings and relationship with mental healt, World Journal of clinical cases, july 2021, p. 4882
4. The psychology of Fomo : how fear of missing out drives our behavior and what you can do about it, https://mpowerminds.com/blog/the-psychology-of-fomo (تاريخ الاطلاع: 7دجنبر 2024)
5. للمزيد، ينظر: جيهان شفيق خالد، متعة التخلي كمتغير معدل العلاقة بين الخوف من فوات الفرص وإدمان الشبكات الاجتماعية لدى عينة من طلاب الجامعة، دراسات نفسية، ع 1، يناير 2022.