محمد يوسف.. ذاكرةُ التشكيل وروحُ المسرح في الإمارات

أشرف ياسين


في بيتٍ تغمره الظلال الدافئة للمنحوتات، وتتناثر فيه اللوحات كأنها شظايا من حلمٍ قديم، يقيم الفنان الدكتور محمد يوسف، أحد أبرز مؤسسي الحركة التشكيلية والمسرحية في الإمارات. كل ركن من أركان بيته يحمل بصمته الخاصة: تمثال ينحني كأنه يصغي، ولوحة تفيض بالحركة، وأثرٌ لخشبة مسرحٍ ما تزال أضواؤها تسكن الذاكرة.


ليس يوسف فناناً عابراً في المشهد الثقافي، بل هو ركيزة أساسية في بناء الوعي الجمالي الإماراتي، يجمع في تجربته بين التشكيل والنحت والمسرح، والبحث الأكاديمي في انسجامٍ يجعل من الفن طريقة حياة لا مهنة.

بدأت ملامح الموهبة عند محمد يوسف في سنوات الطفولة المبكرة، حين كان يقضي أيامه في مدارس الكويت برفقة أسرته. لم يكن طالباً تقليدياً؛ فحركته الدائمة وفضوله المفرط جعلاه أقرب إلى الحلم منه إلى الانضباط المدرسي. كان يملّ الدروس الساكنة، ويبحث عن منافذ للحركة والإبداع. هناك، في جدران المدرسة التي كانت تمتزج فيها روائح الطباشير والطلاء، اكتشف أن "يده تعرف طريقها وحدها نحو الألوان".

كانت تلك البدايات بمثابة الشرارة الأولى التي فتحت أمامه طريقين متوازيين: طريق التمثيل والمسرح الذي وجده في العروض المدرسية الصغيرة، وطريق الفن التشكيلي الذي أصبح لاحقاً لغته الأعمق للتعبير. كان يرسم ما يعجز الكلام عن قوله، ويمثل ما لا تستطيع اللوحة أن تحمله. ومن تلك الفوضى الجميلة بدأت تتكوّن شخصية الفنان الذي سيصبح لاحقاً أحد أعمدة الفن الإماراتي الحديث.

من المسرح إلى النحت: رحلة بحث عن الشكل والجوهر

حين عاد إلى الإمارات بعد سنوات الدراسة، قرر يوسف أن يخوض التجربة الأكاديمية في الفن. لكنه لم يختر الرسم كما فعل كثير من أبناء جيله، بل اتجه إلى "فن النحت"، باعتباره الشكل الأكثر صدقاً لالتقاط نبض الحركة والوجود الإنساني.

في مصر، حيث أكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة، تفتحت رؤيته على عالم جديد من المعاني. هناك أدرك أن النحت ليس مجرد تشكيل للكتلة، بل هو "فن إدارة الفراغ والظل والملمس"، وأن الجمال يكمن في التوازن بين الصمت والحركة، بين الحضور والغياب.

تخرج يوسف ضمن أول دفعة إماراتية درست النحت أكاديمياً، حاملاً حلماً واضحاً: أن يجعل من النحت لغةً محلية تعبّر عن هُوية الإمارات، وتستمد روحها من بيئتها البحرية والصحراوية. لم يكن يبحث عن الشهرة بقدر ما كان يسعى إلى تأسيس "وعي جمالي جديد" في مجتمع كان لا يزال في بدايات تشكله الثقافي.

مغامرة التأسيس وميلاد مسرح العرائس:

عند عودته إلى الوطن، لم ينتظر أن تأتيه الفرصة، بل صنعها بنفسه. بدأ عمله في "مركز الخزف الصيني"، حيث خاض تجارب جمعت بين الفن والتعليم، قبل أن يتجه إلى تجربة أكثر جرأة بتأسيس "مسرح العرائس في وزارة التربية والتعليم"، بالتعاون مع الفنانة التشكيلية الدكتورة نجاة مكي.

كانت الفكرة في ذلك الوقت ثورية، إذْ لم يكن المسرح المدرسي يحظى بأي دعم أو اهتمام. ومع ذلك، أصرّ يوسف على أن المسرح ليس ترفاً تربوياً، بل وسيلة لتربية الذائقة الفنية وتنمية الخيال لدى الأطفال. ومن هناك، انطلق ليشارك في تأسيس "المسرح الوطني بالشارقة"، الذي شكّل لاحقاً حجر الأساس للحركة المسرحية في الدولة. كانت البدايات صعبة، إذْ كان التمويل محدوداً والإمكانات شبه معدومة، لكن الإصرار والرغبة في التعبير جعلا من تلك المجموعة الصغيرة من الشباب نواةً لحركة فنية ستغيّر وجه الثقافة الإماراتية.

مع أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، بدأت ملامح المشهد التشكيلي الإماراتي تتكوّن. اجتمع محمد يوسف وعدد من زملائه الفنانين الروّاد، مثل عبيد سرور، وعبد الرحيم سالم، ونجاة مكي، وعبد الرحمن زينل، ليؤسسوا كياناً يجمعهم ويوثق تجارِبهم. هكذا وُلدت فكرة "جمعية الإمارات للفنون التشكيلية".

لم تكن المهمة سهلة، فالمجتمع لم يكن يعرف الكثير عن الفن التشكيلي آنذاك، وكانت الموارد محدودة. ومع ذلك، أصرّ المؤسسون على المضي قدماً، حتى وصل صدى الفكرة إلى صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الذي تبنّى المشروع ووجّه بتوفير مقر للجمعية في الشارقة ودعمها مادياً ومعنوياً. ومن هناك بدأت "النهضة التشكيلية الإماراتية" تأخذ شكلها المؤسسي المنظم.

أصبحت الجمعية مركز إشعاع ثقافي، نظمت المعارض واحتضنت المواهب الجديدة، وكانت نواة انطلقت منها كيانات أخرى، مثل جمعية التصوير الضوئي، وجمعية الخطاطين، وأسهمت في ترسيخ مكانة الشارقة كعاصمة للفنون في العالم العربي.

يرى محمد يوسف أن الفن في الإمارات مرّ بمراحل متباينة، من البدايات الفطرية البسيطة إلى الانفتاح على الحداثة والتجريب. لكنه يؤكد دائماً على ضرورة التوازن بين "الانتماء للبيئة المحلية والانفتاح على العالم".

في رأيه، الحداثة ليست تقليداً للغرب، بل هي تطويرٌ للهُوية المحلية بلغة عالمية. لذلك ظلّ في أعماله مخلصاً للموروث الإماراتي، مستلهماً من البحر والنخلة والرمل والصيادين صوراً تشكيلية تنبض بالحركة والحياة، دون أن يتخلى عن أساليبه المعاصرة في التكوين والتجريد.

كما شدد على أهمية التواصل بين الأجيال الفنية؛ لأن الذاكرة الثقافية هي التي تمنح الفن استمراريته. فجيل الروّاد، من وجهة نظره، لم يكن مجرد مرحلة، بل "جذرٌ يجب أن يستمر في تغذية الفروع الجديدة" من الفنانين الشباب الذين يصنعون حاضر المشهد التشكيلي.

اللوحة كنبضٍ والنحت كحياة:

في أعمال محمد يوسف تتداخل الفكرة بالحركة، والظل بالصوت. لوحاته ومنحوتاته ليست جامدة، بل تنبض بالحياة وكأنها كائنات تتنفس. أكثر ما يميّز تجربته هو بحثه الدائم عن "إيقاعٍ بصري يجمع بين الموسيقى والحركة".

من أبرز مجموعاته الفنية "النعاشات" التي تجسد المرأة في حالة حركة دائمة، يتماوج شعرها مع الريح في انسيابية تشبه الرقص، ومجموعة "همس النخيل" التي تترجم العلاقة بين الطبيعة والإنسان، مستلهمةً من الأصوات الخفية للنخيل وملامح البيئة الإماراتية.

يؤمن يوسف أن العمل الفني لا يجب أن يُحبس داخل المتاحف؛ لأن الفن كائن حي، يحتاج إلى الضوء والهواء والنظر البشري ليظلّ حياً. لذلك يحرص على عرض أعماله في فضاءات مفتوحة، حيث يمكن للجمهور أن يراها ويتفاعل معها بعيداً عن الجمود الرسمي للجدران المغلقة.

بينالي فينيسيا.. حضور عالمي بروح محلية:

لم يكن غريباً أن تمثل أعمال محمد يوسف الإمارات في "بينالي فينيسيا"، أحد أهم المحافل الفنية العالمية. هناك وقف مجاديفه الخشبية التي صممها كرمزٍ للحركة والاستمرار، كأنها تمتدّ نحو الضوء في سلمٍ موسيقيٍ صاعد.

كانت مشاركته في البينالي تتويجاً لمسيرةٍ طويلة من الإبداع المحلي، لكنها في الوقت نفسه تأكيد على أن الفن الإماراتي "قادر على مخاطبة العالم بلغةٍ بصرية نابعة من الجذور".

الفن كاستراحة الروح:

بالنسبة لمحمد يوسف، الفن ليس مهنة بل "حالة إنسانية خالصة". يعيشه كما يعيش التنفس، ويجده الملاذ من صخب الحياة. في المسرح يرى الألوان تتحرك، وفي اللوحة يرى الشخصيات تمثل صمتها. كلا الفنين وجهان لروحٍ واحدة تسكنه، تترجم رؤيته للحياة والإنسان والطبيعة.

ورغم السنوات الطويلة التي قضاها في الفن، لا يرى يوسف في العمر عبئاً، بل حافزاً. يواصل العمل والحلم كما لو أنه في بداياته الأولى، ويؤمن أن الفنان لا يشيخ طالما ظلّ "يحمل شغف الاكتشاف في قلبه".

يضع يوسف مسؤولية كبيرة على عاتق الجيل الجديد من الفنانين، داعياً إياهم إلى أن يتعرّفوا على تاريخهم وبيئتهم قبل أن يندفعوا نحو الحداثة. فالفن، في نظره، لا يُخلق من فراغ، بل من "معرفة الذات والارتباط بالجذور". ويرى أن التقليد يقتل الإبداع، وأن على الفنان أن يبحث عن صوته الخاص، وأن يظلّ وفياً لما يحب؛ لأن الفن بلا حبّ يتحوّل إلى حرفة جامدة لا روح فيها.
 

  الفيديو: حساب أبوظبي للثقافة الرسمي © YouTube  


إرث من الضوء والذاكرة:

في نهاية المطاف، يظلّ الدكتور محمد يوسف "ذاكرة حيّة للفن الإماراتي"، يجمع في مسيرته بين الفكر والتجريب، بين المسرح والتشكيل، وبين الجمال والبحث المستمر عن المعنى.

تجربته ليست فقط سيرة فنان، بل "وثيقة حياة" ترسم ملامح جيلٍ صنع من الصفر حراكاً فنياً بات اليوم جزءاً من هُوية الوطن.

في منحوتاته تختبئ أصوات البحر، وفي لوحاته يسكن ضوء الصباح الأول على وجه الصيادين، أما في روحه فهناك إيمانٌ عميق بأن "الفن هو الحياة حين تُنحت بالضوء، وتُعرض على مسرح الوجود في مشهدٍ لا ينتهي".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها