كان يسهو عندما تغمره تفاصيل طفولته. فيدقّق النظر في حذاء كل من يلج مكتبه إلى درجة أن زائره يشعر بالحرج، فيحاول عبثاً إخفاء قدميه. ثم يفيق فجأة من سهوه! ويسأل دون اعتذار عن حاجة من دخل مكتبه.
يعود دائماً بزوجين من الأحذية ذات النوعية الجيدة عندما يسافر في مهمة إلى خارج البلد. فاعتقد النمامون أن الغاية من سفرياته إلى الخارج تقتصر على شراء الأحذية. وشك المغتابون في إمكانية إنجاز ما يوكل له من مهام في الخارج نظراً للوقت الذي يقضيه بحثاً عن نوع الحذاء التي يرغب فيه. قد يمضي أكثر من ساعة وهو يستعرض تشكيلة الأحذية المعروضة في المتجر. ويطلب من البائع أن يضع أمامه أصنافاً منها حتّى ينتقي أفضلها. يبدأ بالمعاينة والفحص الدقيق بعين إسكافي عجوز يُعَيّن الحذاء قبل ترقيعه. ينتعل أحدهم ويمشي بعض الخطوات وهو ينظر إلى شكله في المرآة. ثم يستبدله بآخر، ويطلب الحذاء ذاته بلون مغاير. وتبدأ المقارنة بين الأحذية التي طلبها من ناحية جودة الجلد، وخفة الوزن، والقدرة على تحمل الرطوبة ومقاومة الجليد، والشكل، واللون، ليقرّر أخيراً أيَّها يشتري.
عندما يسأله كل من يهم بالسفر عما يريده من خارج البلد، كانت إجابته واحدة: زوج حذاء من فضلك. ويكتب له ماركة الحذاء والمقاس واللون. ويرسم له خريطة تدله على مكان المتجر الذي يبتاع منه الحذاء في البلد الذي يقصده. هذا قبل أن تجود الأقمار الصناعية بخدماتها لتساعد كل سائل عن المكان الذي يقصده.
يكاد سكنه يفيض بالأحذية من كل الماركات العالمية، وبمختلف الأشكال والألوان، ومن بلدان العالم المختلفة. ومن النادر أن يمر يومان دون أن يغير حذاءه الملمع والمتناسق مع لون بذلته إلى درجة أن مساعديه يتغامزون، وهم ينظرون إلى أحذيته.
هل يعاني من عاهة في رجليه يحاول أن يسترها بالأحذية التي يغيرها باستمرار؟ هل يشكو من مرض نفسي ذا صلة بالأحذية؟ هكذا كان يتساءل المغرضون والحساد. لكن لا أحد تجرأ وسأله عن سبب ولعه بالأحذية. فمكانته الاجتماعية والمسؤولية التي يتقلّدها جعلته مهاب الجانب؛ تنهران كل راغب في حشر أنفه في أموره الشخصية.
عاد إلى الفندق مكسور الخاطر مهموماً، في زيارته الأخيرة إلى روما. لقد لام نفسه على وصوله متأخراً إلى المتجر. فلا سبيل لشراء حذائه لأنه سيكون في المطار في الصباح الباكر عائداً إلى أرض الوطن. حاول مرافقه أن يهون عليه الأمر قائلاً: لا تجزع، فأمامك مواعيد كثيرة للسفر مستقبلاً. ثمّ إنك تملك من الأحذية أفضل ممّا تنوي شراءه من باريس أو روما أو إسبانيا. ثم تجرأ وسأله: لست أدري لماذا كل هذا الولع بالأحذية؟ لقد لاحظت أنك تقتصد في شراء الهدايا لأسرتك مقابل ابتياعك الأحذية. تفاوض الباعة على أسعار كل ما تشتريه من هدايا ماعدا سعر الأحذية!
لاذ بالصّمت الذي يعجز عن إخفاء حرجه. وعاوده السهو من جديد. فانبعثت له صورة والده وهو عائد من سوق الألبسة المستعملة، وفي يده زوج من الأحذية التي عافها صاحبها. الفاقة حرمته من أن يشتري له ما يحتاجه للعام الدراسي سوى ذاك الحذاء الذي جعله الدهان يبدو في حالة مقبولة. لكن لم تكن الفردتان مختلفتين، بل متطابقتان، فكلتاهما يمنى! كان يشعر بألم مبرح عند انتعاله، فيضطر إلى خلعه والمشي حافي القدمين إلى غاية اقترابه من المدرسة، حيث لا يسمح له بدخولها دون حذاء. لقد كان هدفاً لتنمر تلاميذ المدرسة الذين ظنوا أنه أعرج. فكم تنمى أن يشاركهم اللهو والركض في فناء المدرسة لولا ذاك الحذاء اللعين.
كان يعود إلى البيت حافي القدمين، فينهال عليه والده- رحمة الله عليه- بالضرب. فيدعي كاذباً أنّه يشفق على حذائه "الجديد" من نتوءات الطريق غير المعبد. لقد تحمل ضرب والده وتأنيبه عن مواجهته بالألم الذي يسببه له "حذاؤه". فالوالد الذي هزمه الفقر يريد دائماً أن ينتصر لرأيه. والويل لمن يحاول أن يبيّن له خطأ اختياره.
أراحته والدته -طيب الله ثراها- من عذاب والده وحذائه معاً. فضحت بثروتها: دجاجة سمينة. واشترت له حذاءً رياضياً خفيفاً مصنوعاً من القماش. ارتحت قدماه أياماً معدوداتٍ فقط قبل حلول فصل الشتاء الذي جدّد عذابه. فحذاؤه الجديد يتحول إلى اسفنجة يمتصّ المطر المتساقط، وذاك المتطاير من عجلات السيارات المسرعة. فتسبح قدماه فيما جمعه حذاؤه من مياه. لكن السباحة تبدو أمراً هيّنًا على قدميه أمام ضعف الحذاء في مقاومة الجليد الذي يتسلّل إلى أصابع قدميه؛ فيشعر بأنها تجمّدت، وفقد القدرة على الحركة. هكذا يصبح الحذاء الجديد ضيقاً على القدمين المتورمين بفعل الجليد.
ظلّت لعنة الحذاء تطارده نهاراً وتلاحقه في منامه. كان يرتجف في الحلم لأنه تخيل الطرد من امتحان الالتحاق بالمدرسة التكميلية لأنه دخل الصف حافي القدمين. يستيقظ ليلا والعرق يتصبّب من جبينه، وأنفاسه تكاد تنقطع لأن الأطفال يلتحقون به، ويشبعونه ضرباً، ويسرقون محفظته ويعبثون بمحتوياتها الهزيلة دون أن يتمكن من الركض ليفلت منهم. يقضي الليالي هارباً من الشرطة في الفراش بتهمة سرقة حذاء من المتجر القريب من المدرسة الذي يقف أمام واجهته يمتع النظر بتشكيلة من الأحذية الجذابة. كان يتمنى ألا يصحو من نومه عندما يحلم أن رمال الصحراء الناعمة اكتسحت المدينة ودكت شوارعها فاستوت؛ وأصبح الأطفال يسيرون حفاة!
وهاهو اليوم يركض من متجر إلى آخر في كل بلد يزوره لشراء حذاء. إنه ينتقم من الماضي، يعالج آلامه. ويصفي ديونه مع الفقر.
على مئات الأميال من مكتبه، تجتمع النساء في مسقط رأسه لاستقصاء أخباره. يتساءلن: هل وصلت الإعانة المالية التي يقدمها لمن ضحت بثروتها، مثل أمه، لتعليم أطفالها. كان يفعل ذلك لرد دين والدته التي خطفتها المنية دون أن يتمكّن من تعويضها على ما عاشته من بؤس. فيدعون له بالصحة وطول العمر. أما هو فكان يدعو في صلواته بــمحو طفولته من ذاكرته و" الشفاء" من هذا الولع المؤلم.