
العلاقة بين السينما والشعر، ليست علاقة بين صورتين بوسيلتين مختلفتين، فحسب، الصورة الشعرية التي تحلق في فضاءات شاسعة من الخيال عبر وسيلة اللغة، والصورة السينمائية التي تجسد الخيال عبر وسيلة الكاميرا، لتقدم رؤيا بصيرة مجسدة للخيال؛ وإنما هي علاقة تنفتح حتى على اللغة السينمائية التي يجسدها الحوار بين الشخصيات وبناء الشخصيات وأفكارها وتحولاتها في المشهد السينمائي.
فكيف نفهم هذا التمفصل بين الفضائين الفضاء الشعري والفضاء السينمائي؟
لا شك أن المتخيل الشعري ينهض على أساس رؤية عميقة فنية للكتابة ذاتها؛ أي أن اللغة هي المادة التي تجسد المعنى، أما الرؤية الشعرية السينمائية، أو للتخيل السينمائي، فتجعل من الصورة هي مادة المعنى، فكما أن اللغة الشعرية تحدث في اللغة كذلك الكتابة السينمائية لا تحدث بالصورة بل في الصورة، وبالتالي تصبح الصورة السينمائية هي شكل من أشكال الانعكاس الشاعري للحياة، فالعلاقة تكمن إذا في المرجعيات التي تسند إليها كلا الصورتين، وينهض على أساسها كلا الخطابين الخطاب الشعري والخطاب السينمائي؛ أي المرجعية الواقعية من المحيط التي ينهل منه الشاعر كما ينهل منه السينمائي، ليقدم كل منهما أسئلته عن هذا الواقع، بآليات فنية تنهض من جوهر الحياة، وفهم العلاقة بين الواقع والخيال.
▴ من فيلم مرآة Mirror (1975)
ويعد أندري تاركوفسكي، شاعر السينما وفيلسوفها، دون منازع، فهو يرى أن ولادة الفن السينمائي ليس مع ظهور فيلم "وصول القطار إلى المحطة" للأخوين لوميير؛ وإنما مع إدراك ماهية المبدأ الجمالي الجديد الذي نهضت على أساسه شعرية السينما، فإذا كانت الشعرية في المبدأ النقدي الحديث هي ما يجعل النص أدباً أي تتصل بأدبية النص؛ فإن الشعرية في الخطاب السينمائي هي ما يجعل السينما وفية لآلياتها الجمالية والفنية التي تجعل منها ليست مجرد عرض للصور، وليست مجرد محاكاة للواقع؛ وإنما الارتقاء بأسئلة الواقع وقراءته قراءة جمالية بأدوات الفن السينمائي وعلى كافة المستويات، بدءاً من السيناريو والحوار واللغة السينمائية، وانتهاءً بالإخراج بكل معطياته الفنية.
وعلى هذا الأساس يشبّه تاركوفسكي عمل السينمائي بعمل النحات الذي يحول كتلة الصخر وكومة من الطين إلى عمل فني ما يجعل شعرية تاركوفسكي كامنة في اكتشافه سر تسجيل الزمن داخل الكادر، حيث ينحت من الزمن سيرورة مختلفة من خلال مفهوم اللقطة- المتوالية وعمق المجال، الذي غير به طريقة النظر، من خلال تغيير الإيقاع الزمني، وتحطيم التسلسل الزمن ليصبح بناء الزمن لديه بناء جدلياً، وجمالياً للحظة المكاشفة بين البصر والوجدان.
ويشكل اندريه تاركوفسكي ظاهرة فريدة لها خصوصيتها في المشهد السينمائي العالمي، كونه شكل لوحده تياراً خاصاً به عرف بـ"التيار الشعري للسينما الذاتية"، وهو تيار يمتاز بمعاييره على مستوى الشكل والمضمون، برهانه على القضايا الكونية التي لا تخص شعباً بعينه؛ وإنما تخص كل شعوب الأرض، حيث استمر في تقديم رسالته الإنسانية، عبر بحثه الدائم عن الجوانب الروحية والجوانب الخفية والمجهولة للعالم الذي يسير بالإنسان نحو الكارثة.
▴ من فيلم المترصد Stalker (1979)
فأسلوب تاركوفسكي عصي على التقليد، حتى بوجود تنويعات ظاهرية في مضامين الأفلام التي يخرجها، حيث تتجسد عبقريته بأنه يضعنا أمام اختيار جمالي لكل الأشكال التي تقع داخل الكادر أم خارجه.
وُلد تاركوفسكي في سنة 1932 على ضفاف الفولغا، كان والده أحد كبار الشعراء الروس، حيث واصل دراسته المتنوعة بدءاً من الموسيقى إلى الرسم، مروراً بدراسة اللغة العربية وآدابها، كما درس البحوث الجيولوجية، وعمل كخبير جيولوجي في سيبيريا، وفي هذه الأثناء انضم إلى معهد الدولة السينمائي "فغيك"، ودرس فن الإخراج السينمائي لمدة أربع سنوات تحت إدارة وإشراف المخرج السوفيتي المخضرم ميخائيل روم، ليكون أول أفلامه فيلم التخرج وهو "العجلة الضاغطة والكمان"، لتتابع أفلامه فيلم "طفولة إيفان"، وفيلم "اندريه روبليف"، وفيلم "المرأة"، وفيلم "ستالكر"، وفيلم "الحنين" الذي كان أحد روائعه وتحفه السينمائية عن الحنين والغربة وحب الوطن الجارف، وغيرها من الأفلام التي قدم خلالها صورة من صور طفولته لإيمانه العميق "أن أعظم جوانب الموهبة مكون من الذكريات وأننا باستمرار، وبلا توقف، نشاهد الماضي يطفو ويفرز الحاضر مثيراً الأفراح والأحزان والآلام والندم وتبكيت الضمير، وهذه أمور لا ينبغي تجاهلها أو رفضها أو انكارها.
أما عن مرجعيات فلسفته التي ترتهن إليها أفلامه؛ فهو يعلن صراحة انتماءه وتأثره بفلسفة وتحليلات وطروحات فردريك انجلز، الذي قال: "إن أي أثر فني، من مستوى معين، يكون عميقاً وبمستوى الفكرة والرسالة التي يطرحها إذا تجنب المباشرة أصبح مستتراً بصورة أعمق".
▴ من فيلم الحنين إلى الماضي "نوستالجيا" (1983) Nostalghia
ولعل هذا ما يبرر الإشارات والاستفادات الأدبية والفنية كالشعر بصفة خاصة (شعر والده بالذات)، والرسم والموسيقى والتلاعب بالنور والظل والألوان والأبيض، والأسود والاستعمال الواعي والمتجدد للصوت كعنصر تعبيري مستقل. فضلا عن المكانة الخاصة التي يوليها للكلمات والأشياء والمكونات الطبيعية، حيث يقول: "يمكننا أن نعبر عن العالم الموجود في الواقع بطريقة شاعرية أو بهيئة وصفية بختة أما أنا فأفضل أن أعبر بصيغة مجازية وأصر على تعبير مجازي بدل الرمزية؛ لأن الرمز يحوي في داخله معنى محدداً وصيفة مثقفة، بينما المجاز هو الصورة بعينها عكس الرمز، وللمجاز معنى غير محدد ولا معرف إذْ نشعر فجأة بغبطة وارتياح حقيقي عندما نفهم أنه ليس بوسعنا استهلاك ومعرفة مكامن الصورة". مبيناً أنه يتوجه إلى الجانب اللاعقلاني عند الإنسان أكثر من الجانب النقلي والعقلي المنطقي.
هكذا كان المزج لدى تاركوفسكي بين الشعر والسينما ليقدم علاقة مبنية على فعل وجود وتجاوز وخلق. حيث ينتشل الصورة من الواقع ليحررها من وضوحها المرجعي، حيث السينما تدفع باللغة وبالصورة إلى ذروة المعنى، لتتحول الذاكرة إلى خلود، والزمن إلى ديمومة لا نهائية. بحثاً عن الحقيقة والخلاص، عن التطهير والسمو الروحي.

تاركوفسكي مخرج عبقري، أعاد للسينما روحها الإنساني، ووهجها الشاعري، وإيقاعها الوجودي، وفلسفتها الطبيعية، وخلودها في الذاكرة.