شعرية السخرية في قصص نيكولاي غوغول

مجموعة "المعطف والأنف" نموذجاً

د.محمد رمصيص

يُعد غوغول واحداً من مؤسسي المدرسة "الواقعية" في الأدب الروسي، وأهم المؤثرين فيه على امتداد القرن التاسع عشر وما بعده.. ومقولة دوستوفيسكي "كلنا خرجنا من معطف غوغل" إقرارٌ بعظمة الرجل وسبقه في تأسيس أفق جمالي خاص بالكتابة السردية والدرامية على حد سواء. وصف ينطبق بحق على سحر موهبته تخييلاً وبناءً ولغةً ورموزاً... ولعل ما أسعفه على هذه المهمة سعة إلمامه بروافد الثقافة الشعبية لأوكرانيا -بلده الأصلي- واطلاعه الجيد على االمنجز الأدبي لروسيا عامة. اشتهر بِسخريته اللاذعة من كلَّ شيء، يكفي أن نستحضر سخريته من فكرة الخلود في رواية "أرواح ميتة" وهو في ذلك يستلهم روح الكوميديا الإلهية لـ"دانتي". كما سخر من تراتبية السلطة وفساد المسؤولين، الأمر الذي جعلهم يرتعدون ذعراً بخصوص قدوم مفتش مجهول الهُوِّيةِ إلى بلدتهم للتحقيق معهم، وذلك في مسرحية "المفتش العام".

كان غوغول في شبابه مقاوماً شرساً ولا يعرف معنى الاستسلام، يكفي أن نعلم أنه فشل فشلاً ذريعاً في تجربته الشعرية ولم يمنعه ذلك من مواصلة الكتابة؛ لأن الهدف كان أكبر من الشعر وأكبر من النثر، كان الهدف هو أن يقول للشعب الروسي من هو؟ ما ينقصه؟ وما عليه فعله؟ وهو ما عايناه في مجموعة "المعطف والأنف" فالمعطف المهترئ يمثل صورة مصغرة لعري الشعب الروسي، وهو البلد الغني على كل المستويات، كما أن فقدان الرائد لأنفه تحطيم لغروره وتعجرفه ورد على ادعاءات بعض رجال الدولة وهبتهم الزائفة... بالنتيجة قوة غوغول تكمن في تصوير المأساة بحس فكاهي ومزج الرعب بالهزل راصداً صعوبة حياة الفقراء دون استسلامهم لمنطق التفقير أو الهروب من مواجهة الأغنياء، علماً أن الغني هو من عليه أن يخجل من الفقير؛ لأنه اغتنى بإفقار الفقير.

فقط الشاب المقاوم ختم حياته بمفارقة غريبة يمكن اختزالها في سؤال مركب: كيف لكاتب بهذا الوعي والتبصر أن يستسلم ويقع فريسة قِسٍّ حثه على الزهد قصد التطهر من خطيئة أعماله الأدبية؟ الأمر الذي أدخله في حالة اكتئاب سوداوي حملته على إحراق الجزء الثاني من رواية "أرواح ميتة" فأحس بألم فظيع توفى إثره بعد أيام معدودة.
 

1- بصدد تحديد مفهوم السخرية:

لعل إحدى أهم خاصية السخرية هي تأزيم الحقيقة الأدبية وجعلها غارقة في النسبية بسبب اقترانها بوفرة من التأويلات، وهي بذلك جسر فني لمراوغة المراقبة من خلال اللعب مع المعنى وجعله في حالة ثمالة رمزية.. السخرية فضلاً عن هذا مفهوم يتسع ليشمل المفارقة والتفكه الأسود، الاستهزاء والهزل.. حددها "فليب هامون" بالشكل التالي: "تعد السخرية وظيفياً أداة تواصلية وفنية تضع الحقيقة الأدبية محل استفهام دائم، هي ترجمة لتوتر عاصف وخطاب يعري الأعطاب والاختلالات، وسيلتها في ذلك المبالغات والتشويهات"1. والسخرية مفارقة في الغالب لأنها تضحك من الواقع المبكي وتستهزئ من المواقف الجادة، "على المستوى النفسي هي أداة مقاومة لأنها تحمي الساخر والمتواطئ معه من السقوط في هاوية الاستسلام والضعف"2. لكل هذا تحتفي السخرية غالباً بالشك واللايقين وتمجد الارتياب؛ لأن الساخر في العمق يلعب بالمعنى بجدية طفل، ويلوي عنق الدلالة برصانة مناضل متطرف، يستغور الأعطاب ويستقطر هشاشة الذات محولاً إياها إلى قوة. بهذا المعنى، الساخر متمرد على البديهيات مروض للمفارقات مزاوج للعب بالجد، والمرح بالمأساة، والشك باليقين، والحزن بالفرح.

اجتماعياً عدت السُّخرية ملاذاً للمنكسر وطريقة لمراوغة الفشل ومهادنة الفقد، ولجلالة السخرية خلدتها الكثير من الحضارات الإنسانية بآلهة مخصوصة، فالثقافة الفرعونية كان عندها الإله "بس" إله المرح في الألفية الثالثة قبل الميلاد، وعند اليونان كان ديونزوس إله النبيذ والضحك، وذات الوظيفة شغلها باخوس عند الرومان، وقس على ذلك باقي الحضارات.

في مستوى آخر تتقاطع السخرية مع مفهوم الكرنفالية عند ميخائيل باختين، يقول في هذا الصدد: "فكل صور الكرنفال هي مزدوجة الوحدات؛ إنها توحد في أعماقها بين كِلا قطبي التناوب: الولادة والموت، المباركة واللعنة، المديح والهجاء، الشباب والشيخوخة، السامي والوضيع."3. السخرية بالنتيجة انتقاد لمختلف تجليات التسلط وهزء منها، شجب للرأي الواحد والانفراد بالحقيقة، مادامت الحقيقة تكمن في التعدد ضرورة، نقد حاد للبديهي والمألوف وخلخلتهما من خلال التشكيك في صحتهما، دعوة للتجدد والولادة في كل لحظة عبر الاحتفاء بنسبية القيم والانتصار للعب والهزل، وتمجيد الضحك من صنمية الثوابت.. طموحها الأكبر أن تصحح الاعوجاج بإبراز النقص.. لكن بالمقابل لكل هذه المزايا للسخرية يمكننا طرح السؤال التالي: أليست مخرجاً مثالياً لأزمة المهزوم، إذ في الوقت الذي عليه حسم الأمر على أرض الواقع يلتجئ لنصر على مستوى الخطاب، الأمر الذي جعل البعض يعتبرها مجرد ثورة في فنجان، أم إن انتصار الساخر على مستوى الخطاب هو مقدمة لتحقيق نصر واقعي؟ وفرة من الأسئلة سنحاول الاستضاءة بها على امتداد المقاربة.
 


1-2- مستويات السخرية في قصة "المعطف"

اتخذت تجربة نيقولاي غوغول السردية والدرامية من السخرية خلفية لها، مع تركيز واضح على سخرية الموقف بدل السخرية اللفظية ومنها: رفض الموظف ترقيته من ناسخ لمحرر تقارير تفصيلية في قصة "المعطف". ورفض أنف الرائد العودة لمكانه بعد فقدانه والعثور عليه في قصة "الأنف". كما أن القاص اتخذ من رمزية المعطف الرث وسيلة لعكس الصورة الجارحة لمجتمع روسيا بداية القرن التاسع عشر، مجسداً معاناة الطبقة الفقيرة، راصداً مساوئ مجتمع الاستقواء حيث الموظف البسيط أعزل وليس له من يحميه من غطرسة وتجبر رؤسائه.. والقاص في ذلك يشخص القسوة القصوى في جعل المعطف أهم من صاحبه، بل إن أهم طموح الموظف الحكومي البسيط هو حيازة معطف إن لم يكن هو دافعه للحياة، وغوغول قاص أوهم القراء أنه يصنع المواقف الساخرة من لا شيء تقريباً والواقع غير ذلك، بدليل أنه توفق في نهاية القصة من انتزاع تعاطفهم مع "أكاكي أكاكيفيتش"، وجعلهم يناصرون الثورة ضد البيروقراطية الروسية الظالمة خاصة إذا ألقينا نظرة دقيقة على حياة الحرمان والبؤس، التي عاشها البطل.. "بطل" تنازل مكرهاً عن الاستضاءة بشمعة كل يوم، بل وتنازل عن احتساء كأس شاي كل ليلة على مدار شهور ليوفر مبلغاً زهيداً يضاف لمكافأة حسن مردوديته بالعمل، علها تسعف على ابتياع ثوب لخياطة معطف من الدرجة العاشرة.. ويا للصدمة عندما توفق البطل في خياطته سرق منه وهو عائد من سهرة رئيس "الكتبة"، رئيس تطوع لإقامة حفلة أحرج بها الزملاء البطل "أكاكيفيتش" إثر امتلاكه معطفاً "جديداً"، غير أنه لم يكن يملك القدرة المالية على تحقيق رغبة زملائه على بساطتها.

وبالعودة لسرقة المعطف تجدر الإشارة أنه تسببت لـ"أكاكي" في حمى هذيانية فارق إثرها الحياة.. أفق رمادي محبط لم يجد القاص بداً من اجتراح مخرج سريالي بتحويل أكاكي لشبح يطارد أهالي بطرسبورج، ويسرق معاطف المارة ولا يهدأ له بال إلا حين يستولي على معطف المسؤول العام.

يتضح جلياً أن السخرية في قصة "المعطف" ترجمت تفكيراً نقدياً عميقاً استهدف عيوب المجتمع والتجاوزات المهنية والمجتمعية، بهدف تقويمها وذلك من خلال الاحتجاج على الحرمان والتهميش والتبخيس، الأمر الذي جعل الطموح الأكبر للساخر هو تجويد الحياة، وسيلته في ذلك السخرية كسلطة مضادة تتغيى إثارة التفكير في العطل والعطب.. لهذا نتصور أن السخرية تتموقع في قلب المجاز؛ لأنها تسخر من الحقيقة أو لنقل ما يظهر أنه حقيقة عند العموم وذلك بتوظيف استعارات وكنايات متنوعة، بل إنَّ السخرية بدت لنا من شرفة ثانية تتموقع في قلب الفلسفة بسبب دعوتها للتأمل والمراجعة، والهدف إعادة اكتشاف الحقيقة متوسلة مهارات خطابية وتقديم الدليل على صحة ادعائها.. سخرية لا تتوانى في التعرية والانتقاد والتلميح لبدائل محتملة دون التصريح بها.. فالغموض والعتمة جزء من شعرية السخرية وعلى حد قول كيركغورد "إن المتهكم يحصل على لذة عندما لا يتم فهمه، أكبر من تلك التي يحصل عليها عندما يتم فهمه، وكأنه فهم يقيد حريته في التهكم أو يقلل منها"4.

وبالعودة لمفتتح المحفل السردي في قصة "المعطف" نفاجأ بالسارد يتحجج بالنسيان كي لا يسمي الدائرة الحكومية التي وقعت فيها الأحداث الجارحة، والقصد من خلف ذلك أن كل الدوائر في الهم سواء، بل إن الدائرة الحكومية المنسية الاسم هي نموذج مصغر للوطن، أما بخصوص البطل "أكاكي أكاكيفيتش" فقدم مستشاراً بالاسم لأنه لم يسبق أن استشاره أحد، وهو حال الكثير من المستشارين في واقعنا الراهن، مستشار يسخر منه الكل بسبب هندامه الرث وسلوكه الساذج.. ومع ذلك مارس عمله بحماس وإخلاص وكان يجد متعة في النسخ وعلى حد قول السارد "لو كانت مكافأته معادلة لحماسه، فلربما تمت ترقيته إلى مستشار دولة".

في مستوى ثالث شخص "أكاكي" حالة الطبقة المسحوقة التي تعتبر الصقيع الشمالي القاتل أحد أعدائها في ظل غياب معاطف دافئة، ولذلك على هذه الفئة بالضبط من الموظفين "الجري مسافة خمسة أو ستة شوارع حتى يسترجعون جميع ملكاتهم الحسية المتجددة استعداداً للعمل المكتبي، "والسارد من خلف هذا يسخر من كون الجري يمكنه أن يعوض المعطف، هذه الأداة الوظيفية التي تدخر حمولة تواصلية ونحن نعلم أن الملابس تتكلم قبل أن نتكلم وإن كانت وظيفتها الأساس هي الحجب؛ فإنها تعري في مستوى ثان وتفصح الحالة المادية والاجتماعية والذوقية للمرتدي، يقول ليفين ستراوس في ذات الأفق: إن الأفراد "لا يتواصلون مع بعضهم بعضاً بالكلمات التي ينطقون بها وحدها، بل يتواصلون أيضاً بالملابس التي يرتدونها، والطعام الذي يأكلونه، والطريقة التي يرتبون بها أثاث الغرف"5. المعطف بهذه الخلفية بطاقة هُوِّية ناطقة بلسان مالكه، كما أن المعطف المهترئ للبطل ناطق بحالة فقره وعريه المادي الجارح، وإن اقترن المعطف بالستر في أذهاننا.. وجدير بالذكر أن مجمل القيم مرتبطة بأضدادها فالعري مرتبط بالستر والحشمة بالإثارة وهكذا... وبالعودة للمقطع السردي المتحدث عن المعطف الشفاف والدالة على العري، مقطع أحالنا مباشرة على لحظة اختراع الملابس في لحظة معطاة من تاريخ الحضارة.. لحظة تلاها تجريم العري وبدأ تاريخ الخجل من الجسد العاري في التشكل إلى أن جاءت ثورة تحرير الجسد، والتي بلغت أوجها عقد الستينيات من القرن العشرين.. ثورة لم تلغ بالمطلق من ذاكرة الحضارة أن الحجب أكثر إغواء من العري أحياناً وإن في سياق مختلف، بالنتيجة كل الألبسة ناطقة وما من رداء صامت أو محايد وعلى حد قول هيغل "إن اللباس هو ما يجعل الجسد دالاً". والمعطف كباقي الألبسة منتوج ثقافي يترجم وفرة من الرسائل، يقول ميشيل فوكو: "المسافة كبيرة بين ما تظهره الرموز وما تحجبه، وما تومئ إليه وما تستره، إلا أن التباعد في حد ذاته، هو ما يجعل عملية التأويل ممكنة".

إن واقع العري والبرد القارس أعلاه جعلت من السارد يجترح جملة في غاية السخرية من واقع معطوب، حيث ردد غير ما مرة "المسافة الرسمية للجري الخاصة بالموظفين يومياً بسبب عدم امتلاكهم لمعاطف" خالقاً حالة من الفكاهة السوداء؛ لأن سياقها يجعلنا نضحك بتحفظ إن لم ننه ضحكنا بالبكاء.. وهو ذات السياق الذي تحدث فيه عن خياط المعطف الضرير بإحدى عينيه والدائم السكر.. الأمر الذي استدعى تفكهاً أسود من حديثه المسهب عن دقته في إنجار التصاميم والخياطة. سخرية تعدت المعطف لتشمل الأحذية وما إليه، يقول السارد واصفا البطل: "وكان عليه أن يطأ الأرض بخفة كل ما أمكن ذلك فوق بلاط الطريق، كان يمشي على أطراف أصابعه ليوفر نعلي حذائه". عند هذا المستوى أمست السخرية تجسيداً لفظياً لفن الكركتير ساخرة من الحاجة والعوز ومراوغة الحرمان وغياب الحق في حياة كريمة، مراوغة ومستويات أصبحت فيها السخرية آلية لإنتاج الوعي لا تهريجاً ينتج الضحك كيفما اتفق.. صحيح أنها تتوسل المبالغات ومقارنة الواقع بالمأمول مع التأشير على إمكانية تغيير منشود، قصد تجنيب الساخر والمتعاطف معه السقوط في هاوية اليأس والاستسلام، غير أنها سخرية لا تتوانى في فضح كل الخروقات والتجاوزات. في سياق آخر عاد السارد للفكاهة السوداء بهدف فضح العبث من خلال حديثه عن "المجاعة المعتدلة" والتي عاشها البطل على امتداد شهور لتوفير جزء من مبلغ المعطف، والأدهى من ذلك أن السارد وصفه منهمكاً في ترف الاستلقاء في فراشه احتفاء بحيازة معطف، وكأنه حاز سبقاً لم يطرق من قبل.

ولعلها مفارقة إضافية أن مجتمع الزملاء طالبوا البطل -على هامش حيازته المعطف الجديد- دعوتهم للاحتفاء به، الأمر الذي خلق وضعية حرجة تطوع فيها مساعد "الكتبة" -المدعي قربه من الموظفين وهو غير ذلك في الواقع- إلى دعوة الجميع عنده ليلاً.. دعوة سمحت للبطل بفرصة السياحة في جراح الأحياء الفقيرة حيث يسكن.. أحياء دون إضاءة ولا تهيئة مجالية خلافاً لحي مساعد كبير الكتبة حيث الرفاه الفاحش والثراء الجارح، فكانت المقارنة فرصة لإدانة الظلم المسلط على الفقراء دون وجه حق. يصف السارد عودة البطل من حفلة المعطف ليلاً والتي تسببت في سرقته: "خرج بروح معنوية مرتفعة حتى إنه كاد أن يطارد امرأة ما مرت بجانبه كالبرق، وهو يعبر الأحياء في عودته بدأت الأضواء تتضاءل إلى أن صار ظلام مطلق أحياء أكثر وحشة وهجرا، أكواخ واطئة تبدو في سبات". وبنفس النفس الساخر صور السارد جرح الانتظار والبيروقراطية الممارسة من لدن رؤساء المصالح والدوائر الأمنية عندما أراد "أكاكي" تقديم شكاية لرئيس الشرطة، حينها تفاجأ بجواب المسؤول السامي على سلامة المواطنين -والذي طرده شر طردة بعد أن قال: "ألا تعلم كيف تساس الأمور هنا؟ آن الأوان لأن تعرف أولا بأن طلبك يجب أن يقدم في المكتب الرئيسي، ثم يوصل إلى كبير الكتبة، ثم إلى مدير الإدارة، ثم إلى سكرتير مكتبي الذي سيقوم بتقديمه إلي للنظر فيه". إن فعل الطرد والإهانة على هامش طلب "أكاكي" استرداد المعطف وقفا معاً خلف موت البطل حسرة، الأمر الذي حمل السارد على إيجاد مخرج سريالي حيث تحول البطل إلى شبح يبتغي استرداد معطفه.. واقعة خلقت حالة من الرعب وسط الأهالي، فأحدث موته صخباً أكثر من حياته هو الذي نشأ في الظل بعيداً عن الأضواء والضجيج.. شبح انتزع شتى أنواع المعاطف من فوق أكتاف أصحابها غير عابئ برتب ودرجات رجال الدولة، الأمر الذي جعل الأوامر تصدر لرجال الشرطة قصد إلقاء القبض على الشبح مهما كلف الأمر دون جدوى، إلى أن التقى شبح "أكاكي" مع المسؤول عن موته ممزقاً معطفه ومنذ ذاك الحين لم يعد يضطهد مرؤوسه فاختفى الشبح إلى غير رجعة.

نخلص إلى أن السخرية شكلت وحدة بانية لقصة "المعطف"، سخرية استخفت بمرارة القهر ووطأة الغربة وجرح الكبت، والهدف التخفيف من حجم التوتر الذي عانه البطل وشريحته، بطل كل جرمه أنه انتسب لزمن التردي القيمي والسقوط الإنساني، حيث تعملق حب الذات المرضي والتنكر لقيم التعاضد، فشكلت السخرية مخرجاً انتقادياً للقبح والتسلط والكبت.. والسخرية بهذه الخلفية وظفت لتعرية الجرح وتسمية الجارح مستثمرة الفكاهة السوداء والتهكم، الدعابة والهزل والباروديا وما إليه.. أدوات أسعفت الذوات الموجودة في حالة خطر على تحقيق أماني ورغبات معطلة، ومواضيع مرغوب فيها في حالة انفصال.. كما أن السخرية استعملت أحياناً ليس فقط للدفاع ولكن للهجوم على الخصم وفي الحالتين معاً هي فعل محرر للطاقة الانفعالية المكبوتة من خلال المقارنة بين الأضداد وحفز المتلقي على الانحياز لأجودها، مشكلة مخرجاً افتراضياً لواقع الأزمة.

تبقى الإشارة إلى أن قصة" المعطف" وإن اعتبرت حجر الزاوية والمنطلق الأساس الذي اهتم بالإنسان البسيط ورسخه التيار الواقعي في السرد الروسي عموماً، فإن تحول "أكاكي" إلى شبح في نهاية القصة نسف الرؤية الواقعية من الأساس.. وإن كانت قصة "المعطف" قد نالت تعاطف القراء، فإنه على حساب إنسانية "أكاكي"، الذي حوله القاص لآلة ناسخة وذات راغبة بلا وعي، فضلاً عن المبالغة في تصوير حالة فقره إلا إذا كان يرمز لفقره الروحي.

2-2 تجليات السخرية في قصة "الأنف"

في قصة "الأنف" واصل غوغول السخرية من شخوصه حيث فقد مفتش الكليات (الرائد) أنفه وبات يستجدي كل من صادفه في طريقه لاسترداده.. وبذلك حطم غروره وعجرفته، والقاص من خلف ذلك ينتقد المظاهر الزائفة والعادات المرضية ساخراً من الرائد الذي كان يركز حصراً على انسجام مظهره الخارجي دون التفكير في التصالح مع داخله.. وتجدر الإشارة هنا أن الثقافة الغربية عرفت بحكايات الأذن المقطوعة مقابل الثقافة العربية المعروفة بجذع الأنف.. وكلاهما شخصا قمة الإذلال والإهانة في حق الشخص المذنب.. سياق عام كانت تقطع فيه الأذن في عادات اليونان والرومان بسبب تهمة الوشاية، أما جدع الأنف فكان إما بسبب خيانة القبيلة أو عدم الذود عن عرض وشرف العائلة، لكن المأساة في هذه القصة هو أن الرائد فقد أنفه دون أي حدث يذكر ظاهرياً، جاء في معجم الرموز: "الأنف أداة تواصل حدسية أكثر منها عقلانية، وهو رمز في العموم للأنفة والعزة"6. بهذه الخلفية أراد القاص بإفقاد مفتش الكليات أنفه إصابته في عمق شخصيته ومعاقبته على ترفعه وغروره.. فالأنف في هذه القصة أخذ رمزاً للتفاوت الطبقي من خلال جملة من الوقائع من قبيل خوف الحلاق وزوجته من تعرفهما على أنف الرائد الذي وجداه بكسرة خبز، بل إن الأنف نفسه –عندما استقل بنفسه وأصبح مستشار دولة- تكبر على صاحبه حيث قال له: "من خلال لباسك الرث لا تبدو لك علاقة بي إطلاقاً". ونفس التفاوت الطبقي طفا على سطح الأحداث عندما التقى البطل دون أنف بأم الآنسة التي كان سيتزوجها وهكذا.

في مستوى ثان من هذه القصة ركز القاص على عدة مفارقات ساخراً من المجتمع الروسي المقسوم على نفسه، فالحلاق الذي ينقي وجوه الزبناء يومياً من الشوائب يديه نتنتين، والرائد الذي تعود الظهور في الشارع العام والتباهي بمنصبه أصبح يختبئ بسبب فقدانه أنفه، بل لم يعد يجرؤ على النظر في وجه من كان يحتقرهم، هو المتباهي بمنصبه، والأنف الذي تعودنا تبعيته للوجه بات مصراً على كونه كياناً مستقلاً، بل صار مستشار دولة وهكذا. بهذه الخلفية تحولت السخرية إلى آلية لشحذ الوعي وتعرية المسكوت عنه. يقول الناقد نزار عيون السود في هذا الاتجاه: "حين تلامس الجرح، وتظهر العيب وأنت ترسم الابتسامة على وجه القارئ باستخدام ألفاظ تجعله يضحك، فأنت تسخر، وحين يضحك الموجوع من ألمه، ويعيش واقعه بضحكة تخفف عنه ألمه ويضع حلولاً ولو بالأحلام فهو يسخر.. وحين نعبر عن حالة رفض للواقع دون اصطدام أو خلق مواجهة مباشرة مع السلطة، فنحن نسخر.."7.

في مستوى ثالث لعبت المرآة دوراً حاسماً في اكتشاف الرائد فقدان أنفه، حيث كان يعود لها في كل مرة للتأكد من فاجعة الفقدان مسائلاً نفسه: "ترى هل أنا في حالة سكر أم أنا حالم"؟ منتهياً للتصديق ببشاعة شكله الجديد، والقاص في ذلك يستثمر قصة نرجس بشكل معكوس، يوازي حب نرجس لمحياه بكره الرائد لوجهه.. لكن في الحالتين معاً شكلت المرآة أداة لمعرفة الذات، بها نضعف (doubler) الأنا، ونجعل من الرائي ناظراً ومنظوراً إليه وإن كانت الذات المعكوسة على سطح المرآة -في آخر المطاف- ذات أخرى، دون أن ننسى إمكانية إحالة القاص على مرآة رمزية والقصد بها مجتمع القصة بما في ذلك الحلاق وزوجته كأول مرآة اكتشفت فقدان مفتش المحكمات لأنفه، أو لنقل اكتشاف الجانب المجهول من شخصيته والوجه البشع وشخصيته المتوحشة.. وجه غريب عنهما وقريب منهما في الآن نفسه.

تبقى الإشارة إلى أن تقنية المرآة هذه، سبق لشكسبير أن وظفها في مسرحية "الملك لير" الذي رأى نفسه عارياً وناقصاً تماماً عندما اكتشف نكران فتياته الثلاثة لجميله، وفقد عقله باكتشاف حقيقة الإنسان في ظله، وذات الشيء انتهى إليه أوسكار ويلد في روايته "صورة دوريان جراي" حينما قال البطل متسائلاً وهو أمام المرآة: "هل أنا هو هذا الآخر الذي أراه أمامي".

نخلص إلى أن واقعية غوغول -إن جاز تسميتها كذلك- معجونة برمزية وخيال بلا قرار.. واقعية لها منطقها الخاص، تحدس ولا تصف، تشتغل أطروحيا على الفقدان والنقص لا باعتبارهما جزء من التكوين الأنطلوجي للفرد، ولكن كنتيجة تسلط البعض على البعض الآخر.. ونحن نشير من خلف هذا لتلك الاضطرابات التي عاشتها روسيا على هامش ثورة 1825، والتي حملت القاص على التوسل بأسلوب رمزي ليقي نفسه من المتابعة، ومن جهة أخرى للتعبير عن حرية مفتقدة، سياق يبرر الخلفية الفنتازيا التي كتب بها غوغول قصصه ساخراً من ضعف الإنسان وأعطابه والغاية إعادة الابتسامة الغائبة عن محيا الشعب الروسي. يكفي أن نستدل بكلام السارد نفسه في قصة الأنف الأمر الذي اعتبرناه تدخلاً سافراً في مجرى أحداث القصة مكسراً فعل الإيهام بواقعية الحكي، يقول في الصفحة 119: "نرى بأن الكثير من هذه الأحداث في قصتنا مغرق في الخيال ولا أساس له من واقع الحال، فإلى جانب أنه من غير المعقول أن يختفي أنف بمثل هذه الطريقة الخيالية، ثم يعاود الظهور في أجزاء مختلفة من مدينتنا في هيئة مستشار دولة، من الصعب الاعتقاد بأن كوفاليون كان على هذه الدرجة من الجهل بأن يصدق بأن الجرائد ستقبل بنشر إعلان عن الأنوف...".

بالنتيجة سخرية غوغول انتعشت باشتغالها ضمن سياق الغموض، وذلك بلعبه بالمعنى متوسلاً استعارات حافلة بثنائية الدلالة.. وبسبب إيحائها بشيء وقول شيء آخر فهي أنتجت متلق يقظ لا يكتفي بالعوم على السطح، ولكن ينزل لعمق المعاني لأن سخرية مماثلة تتوسل الإخفاء والتمويه، الأمر الذي يستوجب تأويل خطابها المبني على القلب والمفارقة، فغوغول عندما قدم "أكاكي" مغلوباً على أمره كان في العمق لا ينشد رثائه ولكن استفزاز أمثاله وحملهم على التمرد، كما أن تعاطفه مع مفتش الكليات الذي فقد أنفه لم يكن تعاطف الداعم بقدر ما هو موقف مقلوب يقصد من خلفه تجلية الوجه البشع للمفتش عموماً.. خلاصة تجعلنا نتفق تماماً مع الدكتور شاكر عبد الحميد حيث قال: "إن جدية المتهكم ليست جادة، إن ما يقوله المتهكم قد يكون جاداً بحيث يبدو كلامه صادقاً للمستمع، لكن هذا المستمع عندما يكون عارفاً بما يقصده المتهكم، فإنه يشاركه ذلك السر الدفين الذي يكمن خلف هذا الكذب، ومن ثم يتم إلغاء التهكم أو نفيه مرة بعد مرة"8.

إن فرادة سخرية غوغول نابعة من كونها تشكلت من أرض مشتركة بين الواقعية والرمزية من جهة، ومن جهة ثانية جمعها للتفكه بالوجع والهزل بالرعب.. وبسبب هذا توفق في جعلنا نعيش حلم الفقراء وإحباطاتهم بمرارة.. خلفية جمالية ضمنت لقصصه الخلود بسبب استمرار نفس الظواهر في مجتمعاتنا الراهنة.. استراتيجية حققت للكاتب معاقبة الفساد عن طريق السخرية منه وتحويل ميولات القراء وتكثيفها وتوجيهها نحو خصم طبقي محدد.



 


"المعطف والأنف" لـ نيكولاي غوغول، ترجمة.د محمد الخزعي.
المؤسسة العربيـة للدراسات والنشر. الطبعة الأولى (2013).
 

 


الهوامش:
1 - Philipe Hamon. Stylistique de l ironie.in Qu’ est ce que le style. Ed.Puf. Paris. p 148.
2 -Bedda. Allema.l ironie en tant que principe litteraire.in poétique. Coll. Flammarion.1964.p15.
3 - ميخائيل باختين: شعرية دوستوفيسكي، ترجمة جميل ناصف التكريتي، دار توبقال، الدار البيضاء، 1986 ص: 125.
4 - مجلة عالم المعرفة: الفكاهة والضحك، شاكر عبد الحميد، عدد 289. 2003 ص: 104.
5 - إيدموند ليتش: كلود لفين ستراوس، البنيوية ومشروعها الأنثربولوجي، ترجمة ثائر ديب، دار النهار بيروت، الطبعة الأولى، 1985.ص: 61.
6 - Dictionnaire des symboles .Nadia Julien. MARABOUT.1989.P.238.
7 - القصة الروسية الساخرة: مجموعة من المؤلفين، ترجمة: نزار عيون السود، المدى، الطبعة الأولى: 2016 ص: 5.
8 - مجلة عالم المعرفة: الفكاهة والضحك.م/م.ص: 101.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها