أيها الترابُ، يا أخي، إنْ أنت إلَّا سماء!

كتاب «المنشقّ» لـ هيلين ساميوس عن كازنتزاكيس

عاطف سليمان

«الـمُنشق»، بمعنى هذا الذي أخرج نفسَه عن مجاراة عصره، هو عنوان الكتاب الذي أوفت به هيلين الرجاءَ، واعتمدت لأجله على رسائل كتبها نيكوس إليها وإلى آخرين، وكان يدرك أن رسائله، يوماً ما، ستُنشَر على الملأ، بل كان يأمل ذلك، وأوردت فيه نتفاً من مذكرات ونصوص له غير منشورة، وانتهت منه في مدينة جنيف سنة 1967. وانتهى «محمد علي اليوسفي» من ترجمته عن الأصل الفرنسي في فبراير 1994. وقد تحسُن الإشارة، في هذا السياق، إلى أن شاباً، مصري المولد، اسمه «عزيز عزت»، كان يعيش في فرنسا ويحرِّر مجلة فرنسية بعنوان «الدلافين الأربعة»، التقى نيكوس وهيلين في صيف 1954 بفرنسا، ثم كتب دراسةً بعنوان «نيكوس كازنتزاكيس، سيرة حياة»، صدرت عن منشورات بلون، باريس، 1965، وأثنت هيلين عليها.

 

ميثاق‭ ‬الأيام‭ ‬العشـرة

كان نيكوس، وهو في الثامنة والعشرين من عمره، قد تزوج غالاتي، عن غرامٍ، سنة 1911، ثم انفصلا لسنوات، وتطلَّقا رسمياً سنة 1926. تعرَّفت هيلين على «غالاتي»، قُبيل أيام قليلة من تعرُّفها على نيكوس في يوم 18 مايو 1924، وتذكر أن غالاتي قد دأبت طوال حياتها على مداومة الحديث عن نيكوس؛ تبث صورةً كريهةً ومشبوهةً عنه في نفوس الذين لا يعرفونه، غير أنها بقيت ملتزمة بتوبيخ كل مَن يتجرأ على الإساءة إليه في حضورها! ربما كان اختلاف طباع الاثنين، نيكوس وغالاتي، وتلاشي الانسجام بينهما بعد الزواج هو ما أدى إلى انفصالهما، لكن تُوجد ثمة إشارة مبثوثة عن غيرة غالاتي من اتساع النجاحات الأدبية الأولى في حياة نيكوس، وعن إهمالها له أثناء مرضه في فيينا. ومن ناحيته هو فكان يدرك أنها تشعر معه بالملل، وأن أعصابَها تثور من الضجر في رفقته.
ويبدو أن نيكوس وهيلين قد تحابا من دون أن يتوصَّلا، لسنواتٍ، إلى التيقن من قُدرتيْهما على العيْش سوياً تحت ميثاق الزواج، فاتفقا على أن يظلا حُريْن، على أن يلتزما بـ«ميثاق الأيام العشرة» الذي وضعه نيكوس منذ أن تعارفا، والذي تعيَّن عليهما، بموجبه، أن «ينتزعا» عشرةَ أيام كل سنة لكي يعيشاها معاً «وحيديْن متواجهيْن». تقول هي عن علاقتهما: «أشعر بالراحة إلى جانبه كما لو كنتُ في مأمنٍ تحت سنديانة كبيرة قُرب نبْع»، ويقول هو: «لوزتان في قشرة واحدة». وفي 1945، بعد ثماني عشرة سنة من العلاقة الحرة، حلَّ اليومُ الذي وقَّعا فيه على أوراق الزواج الرسمي، بعدما اختير كازنتزاكيس وزيراً لإعمار اليونان بعد الحرب العالمية الثانية، حتى يتحاشيا أيةَ تعقيدات قد تترتب على بروتوكولات الوظيفة الرسمية.
شمله حبٌّ أخوي رقيق مع شقيقتيْه «آنستازيا» و«هيلينا»، وبدا أن وجود الأب، القبطان، «ميخاليس» في الحياة قد جثم بمثابة كابوس للابن نيكوس. وحين مات ميخاليس، كان نيكوس في مدريد، يناهز الخمسين من عمره، فكتب إلى حبيبته هيلين، في باريس، رسالةً أفضى فيها ببعض أحاسيسه، وتمنى أن تحرقها بعد أن تقرأها، «الآن، وقد غاب الذي أتى بي إلى العالَم، أُولد في العالم»، «لقد تعزيتُ وتحررتُ، وسوف تتقوى روحي». ما كان ذلك البوح قسطاً من صنوف الكراهية ولا من صنوف الحب ولا التمرد، إنما هو تعقيدٌ وَسَمَ علاقته بأبيه، بخلاف حاله مع أمِّه، التي ماتت قبل ذلك بسنوات، فشعر إذ ذاك بالفقْد، بالوحشة والحزن، وبأنه طفلٌ يضيع في العتمة بانفلات يدها من يده.


قلب‭ ‬مقدود‭ ‬من‭ ‬الصخر

يسند الكتابُ إليه صفات وسمات؛ فهو ممتلئ بتوتر روحي وقلق نفسي، وهو صادقٌ، يعشق الجمال ويرغبُ في خدمته بقدر ما يستطيع، ويشمئز من المرض. لم يتوانَ إذاً عن إشباع رغائبه، وتنمُّ بعضُ رسائله عن أنه كان قد تخلَّى أثناء سنواته الأخيرة - على الأقل - مع غالاتي عن إخلاصه لها، وبدا مثل بندولٍ يشدُّه تارةً سلطانُ ديونيسيوس (باخوس) الـمُوعِز بطقوس الابتهاج والطافر بآلائه الحسية ونشواته، ويشدُّه تارةً سلطانُ بوذا بصرامته التقشفية وزهده، فيتأرجح بينهما ويساوره الندم. وشرَحَ: «عندما أموتُ سوف يدَّعي أحدُ مؤلفي سيرتي، ويا له مِن أحمق، بأنني كنتُ زاهداً، قليلَ الشهوات، رجلاً يستمرئ العيْشَ في الإهمال والفقر، ولن يدرك أحدٌ أنني اكتفيتُ بحياة «الزاهد» لأنه استحال عليَّ العيْش وِفق طبيعتي الحقيقية». وقد استطاعت هيلين - لاحقاً - أن تحب حبيباتِه السابقات وتتفهم شغفَه بهن. ومن تحت سطور مذكراته ورسائله تُلاحَظ جعبةُ الإغواء التي قارَبَ بها النساءَ، وهي خليطٌ من قدْرٍ محسوب ومتتالٍ من الإبهار الفكري يناوش به المحبوبة المحتمَلة، تصاحبه دفقاتٌ ساحرةٌ منتقاة من التعبيرات الفلسفية المنعِشة للروح والخيال والمحفزة للمغامرة، مع بث زخاتٍ من تملُّقٍ رصين ودقيق يخلب به المحبوبة.
كان هو «الوحْش»، بقلبه المقدود من صخرٍ، حسبما ارتآه أقرانُه من المثقفين والكُتَّاب اليونانيين، وبغطرسته التي لم يتحقق منها أحدٌ عن قُرب، لأنها لم تكن سوى المظهر البعيد الهشّ للنبالة والطِّيبة، ولطالما نَبَذَه الكتَّابُ الآخرون والناشرون، ورَاقَ لليمينيين أن يصنِّفوه كشيوعي ويحْذَروا منه، ولليساريين أن يصنِّفوه كمتصوِّف وينفروا منه، ناهيك عن التقوُّلات عليه بالعمالة، لصالح هذه الجهة أو تلك، التي طالته أثناء كروب الحرب العالمية الثانية، ووصل الأمرُ إلى أنْ أُنكِر عليه حقُّه في أن ينال نصيبَه من الطعام! ولطالما تعرض كازنتزاكيس من زملائه للوشايات والاغتيابات. وفي أحد الأيام، علِم نيكوس، وكان في إسبانيا، بوجود شهود في أثينا مستعدين لإثبات أنه لا يجيد الفرنسية وأن ترجماته من هذه اللغة ليست جيدة، متجاهلين أنه أجاد الفرنسية وكتبَ بها مباشرةً بعض مؤلفاته. وبدوره بادلهم المنشقُ نيكوس البغضَ والازدراءَ، ورآهم زمرةً كريهةً وقطيعَ قرودٍ في أثينا تناصبُه المقْتَ.

 

ممثلو‭ ‬الفضيلة

كان كازنتزاكيس يتمثَّل مدارج «تولستوي»، ويرنو بإعجاب إلى ارتقاءاته الروحية، وراح يردد أن الحرية واللذة، بالنسبة إليه، تكمنان في العمل، وأن سعادتَه لا تنبثق له مطلقاً إلا في ذروة اليأس. غير أن تصريحات له هنا وهناك تحنث بمبدأ الزاهدين، ذلك أن فيها ما فيها من ضجةٍ مفتقِدةٍ للتواضع، ولا يُستساغ كذلك ما بها من حماسةٍ تشارف التبجحَ أو الادعاءَ أو الحذلقة، إذْ يجاهر، وكأنه يفاخر، بمجاهداته واحتشاداته لأجل إجبار روحه على ارتقاء ذُرى جديدة، وتراه يكتب عن نفسه: «لم أعد قادراً على القيام بما هو مؤقت وزائل، وإني أهبُ نفسي كاملةً في كل خطوة»، أو يصك شعاراً: «ليس هدفي هو المجد أو الشهرة، ولا حتى الرفاهية والثرثرة المطمئنة، بل هو تحويل الطين إلى صرخة».
عاش عمرَه كله وقد أحاط روحَه بأحب ممثلي الفضيلة إليه؛ المسيح، بوذا، مايكل أنجلو، بيتهوفن، أفلاطون، دانتي، تولستوي، مثلما حَصَّن نفسَه بأبطاله؛ هرقل، ديونيسيوس، القديس فرانسيس، نيتشه، إل جريكو، طاغور، برجسون، لينين، زوربا، كلوديل، وكافافيس.


مع‭ ‬الأماكن

في وجدانه تحدَّد معنى الغربة في ابتعاده فحسب عن كريت، حتى لو كان ذلك سفراً صغيراً إلى أثينا لا أكثر. وفي كريت اعتادت أمُّه أن تطلي له ثيابَه الداخلية بالقطران من أجل أن تصدَّ عنه سائرَ الأمراض، ولقد داومَ هو على ارتداء الثياب المطليَّة بالقطران حتى بعد تخرجه في جامعة أثينا وسفره إلى فرنسا وإيطاليا لدراسة الفلسفة والتجوال وكتابة القصص والمسرحيات والدراسات. وكانت أوروبا، يومذاك، على بُعد خمس سنين لا غير من نشوب حربها العالمية الأولى، التي سيتداعى بسببها ذلك العالَم القديم، بطرائق الأمهات فيه لِصوْن أطفالهن، وبتقاليده وخيراته وشروره جميعاً.
أحبَّ «القدس» و«موسكو» وجزيرة «ميكونوس» اليونانية، وكان شغفه بالمدن الشرقية مبهِجاً، وقد آلمه فقدانها لطابعها وهويتها تحت حجة التقدم، ويبدو أن إعلانه عن حبه لليهود وللمسلمين كان إيجازاً عن افتتانه بالشرق، وكتبَ حين زارَ كازاخستان: «فجأة لمحتُ، في قرية على يميني، قُبةَ مسجد خضراء. وثبَ قلبي فرحاً؛ نحن في بلدٍ إسلامي». واشتكى مراراً من اضطراره إلى العيْش في أثينا، هو المحِب للتطواف حول العالم، ولمراتٍ صرَّح بأن اليونان، أرض الزيتون والتين ذي القطرات العسلية، لا تني تناديه، ويشتاق إلى الأماكن التي يحبها فيها، وقد داومَ مع ذلك على الرحيل عنها، بلا رجوعٍ إليها إلا لنُقصان مؤونته المالية. وبقيت أوروبا، خاصةً لندن، حيث شعرَ بطمأنينته وحلُمَ بالعيْش فيها، هي البراح المفضل لإقاماته مهما بدا من شعوره في النهاية بالضجر من فتورها.
زارَ مصرَ في فبراير 1927، ونزل بالقاهرة في فندق بالاس، وكتبَ في وصفِها: «هذه المدينة أعجوبة»، وأشاد بالكنوز الذهبية للملك توت عنخ آمون وبالفن المصري القديم، وافتتن بتمثال أبي الهول، بينما رأى أن الأهرامات «سخيفة»، وذهب إلى الأقصر وأعجبه النيل وراقته الحقول وأبهرته الصحراوات. وفي الصحارى المصرية جاءه الإحساسُ بالغضب إزاء المصير المتواضع للإنسان وبات يكره أنْ يقبلَ به، وفي الختام وصل إلى الإسكندرية، وكتبَ: «إحساسي بمصر حاد جداً، ولا أريد الحديثَ عنه مع الناس».


القائد‭ ‬عوليس

هو، وقد اعتبرَ بوذا وعوليس قائديْه الكبيريْن في الحياة، أراد أن تكون له «أوديسته» الخاصة به، ولسنواتٍ طويلة جداً عاش في رِفقة البطلَ الملحمي عوليس، وفي وقائع الحياة المتجددة يحلو له تخيُّلُ أنهما يتبادلان الحلولَ محل بعضهما بعضاً، كأنهما في جلدٍ واحد يعيشان، وكان له بذلك أنْ عثر على وسيلته الممتازة لحماية سِجلات أعمق وأروع لحظات حياته من الانهدار والتلاشي، إذْ راح يحيلها سطوراً شعرية، بمثابرةٍ شبه يومية، ويُودِعها في «الأوديسة»، قصيدته الأهم، التي أتمَّ صياغتَها النهائية وهو في الخامسة والخمسين، في 33333 بيتاً شعرياً، مبتدِعاً لها نغمةً جديدة في الشعر اليوناني، متسائلاً ومهموماً عمنْ سيفهمها في اليونان، اللهم إلا صديق واحد فقط. كان يحتج على نفسه: «كيف اقتصرتُ على أن أكون عالماً، يؤلف الكتبَ، وأنا رجل اللمْس الذي لا يصدِّق سوى الأشياء التي يلمسها، والذي ركَّز كل قيمة الحياة في يديه»، لكنه، مع الوقت، ازداد ارتياحُه إلى تكريس جهده في كتابة أعمال كبيرة لها سمات ملحمية، وكان قد عرف أنه تهيَّأ لمشوار الكتابة البعيد العميق، مبدياً أملَه في أن يحطَّ عليه نسرُ زيوس وينهش كبدَه، فكتبَ: «المهم هو تقديم نفسي طعاماً لحيوان مفترس من الحجم الضخم، فبهذا وحسب أتخلص من الحشرات الصغيرة».

قُدِّم إلى المحاكمة بجريرة نشْر كتابه «تصوُّف» أو «زُهـْد»، وابتغت الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية معاقبته بالحرمان الكَنَسي، بينما دبَّجت له المحكمةُ اتهاماتٍ بتخريب الدين والأخلاق والوطن، ولم تُستكمَل تلك المحاكمة، ولم تُقفَل نهائياً، إنما أُبقي عليها كتهديدٍ لا يزول. لم يتحمس له ناشرٌ يوناني واحد فعانى صعوبة نشْر كتبه داخل اليونان، واضطر، هو عاشق اللغة اليونانية، إلى الكتابة بالفرنسية نظراً لتوافر ثلاثة ناشرين فرنسيين لديه. ومبكراً، قبل ظهور رواياته الكبرى في الوجود، كان قد كتب العديد من الكتب الأخرى والمسرحيات، فسعى إلى الترشُّح للفوز بجائزة نوبل، لا من أجل المجد الأدبي والشهرة، بل طمعاً في الثروة المضمونة بها. وبعد انتشار رواياته لقي تكريماً من النرويج، التي رشَّحه أدباؤها بالإجماع، وهو في التاسعة والستين، لنيْل جائزة نوبل، ووافقت سلطاتُها على منحه جوازَ سفرٍ نرويجياً حين تعنتت سلطات اليونان في تجديد جواز سفره، بل وافقت على منحه الجنسية النرويجية إذا هو طلبها، وعلى التكفُّل أيضاً بمتطلبات علاجه. وفي سنة 1956، مُنِح بإجماع الأصوات، جائزة اللجنة العالمية للسلام، ورُفِضت محاولتُه في التنحي عن قبولها كيما يوفِّرها لمن قد يكون أجدر منه بها.


حكايات‭ ‬من‭ ‬العدم

في الحياة، كان يتلقَّط الحكايات من العدم! ولو أنه نهض فقط لينشر جوربه على حبل الغسيل فسيعود من ذلك بحكاية حلوة طليقةٍ لبقةٍ حقيقية يرويها لهيلين. وفي الكتابة، أمضى إحدى وخمسين سنة، من 1906 إلى 1957 ممسكاً بقلمه في تواضع، وأحرزَ قدرتَه الفذَّة على جلْب الحرارة والرونق وبثِّهما في عباراته ونصوصه، وما كان يكتب إلا للهرب من الاختناق، وإلا تلبيةً لاحتياجٍ ينبعث من دواخله. وقد كتب هو عن نفسه: «منذ الفجر، أنحني على الورق وأكتب وأصارع كي أنقذ روحي، ولَسوف أفعل ذلك ما دمتُ قادراً، ليس من أجل أن يعرف الناسُ بوجود رؤيا مشبوبة ومتموجة في ذلك الرأس الأسود، بل من أجل إنقاذ روحي حقاً، وذلك بعد أن يختفي جسدي الزائل»، وكتبت عنه هيلين: «من أجل كتابة بيت شعري جميل، رأيتُه يضحِّي تباعاً بكل ما يفضله بنو البشر؛ العزة، السفر، الراحة، الصداقة، الأهل، الموسيقى، الكتب..».
تخوَّف من كتابة الرواية متوَّهِماً أنْ ليس لديه الصبر الضروري لذلك، وظل يعتقد بأنه قد وُلِد ليكون كاتباً مسرحياً، وبأنه لا يستطيع «الكتابة على غرار «أنَّا كارنينا»»، فلم يكتب قصصاً منذ قصته الطويلة الأولى «الثعبان والزنبقة»، التي كتبها سنة 1906 أثناء دراسته الجامعية، وتنصَّل منها لاحقاً، إلى أن حلَّت سنة 1941. وبينما الحرب العالمية في عصْفِها وهوْلِ مجاعتها، بدأ نيكوس في كتابة رواية «زوربا»، وهو في الثامنة والخمسين، مستلهِماً «جورج زوربا» الشجاع، الحقيقي، الذي لا يعرف الخوف، ويفضِّل أن يكون موتُه عنيفاً، ممزقاً بين أنياب ذئابٍ ودببة، ويرتعب فقط من الشيخوخة، التي تُفقِد المرء حريته وتضطره إلى قبول ما يكره.
في سنوات عمره الأخيرة ازدادت لهفتُه على العمل، فتتالت رواياته الكبرى، وواتته خصوبةٌ عارمة، فكان ما إن ينتهي من كتابة رواية حتى تتدافع إلى سِنِّ قلمه روايتان أو ثلاث فيشرع فوراً في الكتابة. في سنته الخامسة والستين، بدأ في كتابة «المسيح يُصلَب من جديد»، ثم «الإغواء الأخير»، وفي السادسة والستين أنهى المسودة الأولى من «الأخوة الأعداء» وبدأ في «الحرية أو الموت» (بعنوانها الأول، «الكابتن ميخاليس»)، وفي الثامنة والستين أنهى «الإغواء الأخير»، وفي التاسعة والستين بدأ «فقير الله فرانسيس الآسيزي»، وظل أثناء مرضه يكتبُها في قلبه ويهلوس بمقتطفات منها، وأتمَّ نسخها على الورق وهو في الحادية والسبعين، ثم بدأ في «تقرير إلى غريكو» وانتهى منه وهو في الثالثة والسبعين، وقد آثر أن يختتم كتاباته قاطبة بتلك الرسالة الوافية عن حياته إلى «إل غريكو»، الفنان الذي وُلِدَ في كريت باسم «دومينيكوس ثيويوكوبولوس»، ونزح من اليونان إلى إسبانيا، والذي حَلُمَ نيكوسُ بمشاهدة لوحاته وزيارة مثواه في طُليطلة. إبان ذلك حظي كازنتزاكيس بالألق السامي بين القراء في أرجاء العالم، واعترفت به أوروبا وترجمت أعمالَه، وكثُرت ألقابُه ككاتب ذي أعمال عديدة رفيعة، وأظن أن أحبَّ تلك الألقاب إليه هي أنه صاحب الأوديسة الجديدة.

مات في فرايبورج بألمانيا يوم 26 أكتوبر 1957، بعد ثلاثة أيام من إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب، وكان منه لحظتذاك أنْ أبدى رضاه وأنعشَ جسدَه وبَارَحَ فراشَ المرض الثخين حتى يُملي، بحيوية، على هيلين، برقية تهنئته السَّارة إلى الفائز ألبير كامو.


***‬

«لا أخشى شيئاً، لا آملُ في شيء. أنا حُر» ذلك هو شعاره المختار، عن الجسارة والاستغناء، وقد أراده نهجاً لحياته، ومبدأً يكْرُزُ به، ونقشاً يُنحَت في الختام على شاهدة قبره.

 

‮«‬الـمُنشق‭ ‬نيكوس‭ ‬كازنتزاكي‮»، ‬تأليف‭ ‬‮«‬إيليني‭ ‬هيلين‭ ‬كازنتزاكي‮»‬،‭ ‬ترجمة‭ ‬‮«‬محمد‭ ‬علي‭ ‬اليوسفي‮»‬،‭ ‬الناشر: «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، سنة ٢٠١٢ 534  صفحة من القطع الكبير.

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 15)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها