اقتربت الجدة العجوز من اللافتات الورقية تريد تمزيقها، يحول الحفيد بينها وبين لافتاته، بعد أن ضمها إلى صدره، مهرولاً نحو الباب بينما ظلت العجوز تنظر إليه بغضب:
- راح أبوك ضحية هذا الطريق.
لكنه رد عليها بامتعاض:
- والدي كان ضحية حماسة المذاهب، التي تستهوي الطبقة المطحونة تحت شعارات كاذبة، أما أمري فمختلف وما قضيتي إلّا وطن.
جمعت الجدة بأناملها المرتعشة ما بقي من الطعام على منضدة واهية، نادت برأسها متحيرة من حفيدها العنيد ولا فائدة من جدالها معه، دخلت إلى المطبخ على مضض تنظف الأواني، كان صوت قرقعتها مقلقاً يزيد من أزيز القلق الذي ملأ رأسها عن حفيدها الذي غادر للتو إلى الجامعة يحمل بين يديه لافتات كثر، كُتبت عليها عبارات التنديد ضد العدوان الأجنبي على بلد أبيه وأجداده. وعلى أثر ذلك القلق سقط كوب زجاجي من بين يديها المرتعشتين، لم تهتم بذلك الأمر، لكنها تركت العمل وراحت تسير ببطء شديد، متوكئة على الجدران، نحو أقرب مقعد يتوسط الصالة.
أخذت ترنو ببصرها نحو الصور التي زينت الجدار، تترحم على الراحلين وتخاف على من لا يزال حيّاً ومَن غير حفيدها يملأ حياتها الفارغة من الأمل، توسدت برأسها المقعد القطني، تتلقفها ذكريات الماضي، صوت ولدها قبل الرحيل المنادي بالعدل والحرية، وصوت رئيس الحزب الذي وعدهم بغنائم ومناصب كبيرة لو كسب الانتخابات لصالحه، لأنهم أحق بالسلطة دون غيرهم، وسوف يحقق لها أحلامها بأن يصطحبها إلى زيارة بيت الله الحرام، ويجعل أبنه يُكمل مراحل تعليمه في أفضل المدارس كي يؤمن له مستقبلاً مشرقاً.
لسعت حشرة جلدها المجعد، انتبهت لتلك الدموع التي تتساقط دون إرادتها، عادت إلى الماضي، وإلى ليلة الانتخابات بالذات، حينها سمعت طرقات عجولة، مُقلقة على باب دارها، أصوات تُشبه الهسيس في أذن ولدها، أغلقت الباب عليها خرج وبصحبته زوجته، تركا لها الصغير ذي العشرة أعوام، وفي الصباح كان الراديو يذيع خبراً يصل إلى مسمعها باندلاع الحرب بين الأحزاب السياسية بعد محاولة اغتيال رئيس أحد الأحزاب، ظلت طوال اليوم تنصت إلى الراديو لانتظار أخبار جديدة، وكل لحظة تتطلع من خلال شرفة البيت، تدخل وتخرج من هذه الغرفة وتلك، تحاول إسكات الصغير، بعد أن ملت من محاولاتها اليائسة بالسؤال عن والديه بعد أن طال غيابهما ولم يأت عنهما أي خبر، ظل المذياع مصدرها الوحيد الذي أذاع نبأ جديداً يبين فيه تجدد الاشتباكات وسط المدينة في الشوارع المؤدية إلى مقر الحزب أدت إلى مصرع مئة وخمسين شخصاً وإصابة المئات بجروح.
انتشلها من تصفح الماضي صوت طرقات على الباب، صوت إحدى الجارات التي عملت معها خلال سنوات طويلة مضت، يتبادلن الزيارات بين ليلة وأخرى، لكن هذه هي المرة الأولى التي لم تفتح لها، بل ظلت تتابع نشرة الأخبار، متمنية سماع ذلك الخبر الذي يمنحها السكينة، التي غادرت صدرها منذ أن قررت حمل حفيدها وبقايا ذكريات من تلك الدار البعيدة، مستقلة الحافلة إلى أحد المخيمات لتنتظر الدور للجوء إلى إحدى الدول العربية.
مرّ نهار اليوم والدقائق فيه شبيهة بسنوات كثيرة، مرت عليها في تلك البلدة وهي ذات قدمين متعثرتين تغوصان في غربة لا تعرف نهايتها والشوارع والأزقة المزدحمة تحملها إلى حالة من التيَهان بين تلك الوجوه المرهقة للبحث عن لقمة العيش خلال النهار، وفي الليل تجد ضالتها في هذا الحفيد الذي يشتد عوده يوماً بعد يوم ويأتيها بخبر نجاحه لالتحاقه بالجامعة.
شعرت بشيء من الرضا عندما اقترب منها، هامساً بأنه وجد من تشاركه أحلامه، وقص عليها قصة حبه من تلك الفتاة أحلام التي منحها قلبه وذهب معها للبيت ملتقياً بوالدها، كان كريماً معه وأحسن ضيافة زميل ابنته، تشعر العجوز بأنها عادت إلى شبابها لأن أحلام الحفيد بدأت تتحقق، أحلاماً شبيهة بتلك الحديقة التي كانت بدارها البعيدة وكانت تُحسن رعايتها، ملأى بالزهور، تمنحها الغبطة عندما تستنشق عبير ورودها المتفتحة.
مرَّ يومان ولم يعد حفيدها للبيت، وقد ذاب أثره، لم تسمع أن هناك مظاهرات بالجامعة من خلال وسائل الإعلام، بحثت بين صفحات الصُحف وكأن أيام والده تعود مرة أخرى ولنفس القلق، وأنها تقترب من مأساة أخرى، تجلس من حولها النسوة يشددن من آزرها يمنحنها المسكنات بقصص واهية وأخرى حقيقية؛ بأن للشباب أحياناً تصرفات تكسوها الحماقة.
أحضرت إحداهن لها الطعام أقسمت عليها أن تشاركها، وقبل أن تغادرها النسوة، وعدتها إحداهن بأنها سوف تطلب من زوجها الذي تربطه علاقة حميمة بموظف كبير في وزارة الداخلية بالبحث عنه فى الصباح الباكر.
لكن قبل أن تنقضي تلك الليلة، سمعت صرير الباب الشقة يُفتح، جاءها الحفيد مترنحاً، ممزق الملابس، تغطي وجهه الكدمات، رقد على سريره بوجه كمد، لزم الصمت بادئ الأمر، لكن دموع جدته أرغمته على الحديث بعد أن طلب منها أن تدثر جسده المتعب وهو يشيح بعينيه إلى أفق بعيد:
- تم القبض عليَّ مع بعض الطلبة المتظاهرين، لكنهم خرجوا جميعاً بعد التحقيق معهم منفردين، لكن ما إن التقيت بضابط التحقيق، كانت المفاجأة الكبيرة بأنه والد أحلام زميلتي، سألني بهدوء: عن الهدف من تلك التظاهرات التي لا تجني منها البلاد شيئاً سوى القلق لرجال الأمن المنشغلين بمهام أكبر وأسمى.
تحدثت معه بحماسة صادقة عن القومية العربية وكيف.. ولماذا... وتلك البيانات والتصريحات من رؤساء الدول العربية عن شجب وإدانة العدوان وتأييد البعض له ما هي إلا كلمات ضعيفة ومواقف تشعر الجميع بالعار والخذلان.
لكنْ جدتي، لن تصدقّي ماذا ردّ عليّ بعد أن ظلت ابتسامته الساخرة لا تفارق شفتيه:
- لقد أصاب الأمة العار منذ أن قُتل والدك منذ عشرة أعوام، اقتتالكم بداية الشرارة التي اكتوت بها كل الأوطان العربية...
لكن يا جدتي ما انتهى من تلك الجملة، تغيّر وجهه عاقداً حاجبيه، محذراً إياي بشدة:
- بلدنا هادئ ينعم بالحب والخير بفضل حكمة قادته، ونحن لا حاجة لنا بإنسان يزرع بذور التشرذم والضغائن، أريد أن أجعل لابنتي أحلام مستقبلاً آمناً في بلدي، انهض سأسامحك هذه المرة.
تصوري قد هددني إذا عاودت هذا الأمر ثانية، صمت حينها، وماذا كان عليّ أن أفعل إلّا الصمت.
رقدت العجوز بجواره، تمسح على رأسه كما كانت تفعل من ذي قبل عندما كان صغيراً، ربتت بيدها على صدره المفعم ببقايا صرح الأحلام المتهدم، تهوّن عليه شعوره المملوء بالمرارة، نام على أثرها نوماً عميقاً، أطفأت العجوز مصباح الغرفة تهمهم بتلك الكلمات:
- يا زارع في أرض غيرك لن ينالك إلا التعب؟..