مقدمة في الهايكو العربي..

حفريات في المنجز النصي المغربي

إسماعيل علالي

إن مقصودنا من هذه الورقة النقدية الوجيزة تعيين خصائص الهايكو العربي، والكشف عن إبدالاته النصية عبر تفكيك النصوص الهايكوية المغربية، التي سعى أصحابها إلى تبيئة هذا الجنس الأدبي الشعري في الثقافة العربية عامة، والثقافة المغربية خاصة، متوسلين في بحثنا بما استجد من أدوات إجرائية تحليلية، تعيننا في الوصف والتحليل والتأصيل.


ولتعيين خصائص الهايكو العربي في المجال التداولي المغربي وجمالياته ورصد إبدالاته، وتقريبها من القارئ، فرَّعنا ورقتنا النقدية إلى المحاور الآتية:
 

رحلة الهايكو.. مقدمة تاريخية مقتضبة

معلوم أن الهايكو شعر ياباني النشأة، تمرد أنصاره على النصوص الكلاسيكية المطولة الموسومة بالرِّنْغَا "renga"، وهي: "سلسلة من القصائد الطويلة المتصل بعضها ببعض، يشترك في تأليفها عادة مجموعة من الشعراء مجتمعين، اشتهرت في القرن الثاني عشر الميلادي"1، ثم تلاها الهَايَكَاي2. "haikai"، الذي اكتسب شعبية كبيرة في الأوساط اليابانية لطبيعته الكوميدية وتهجينه النصي، حتى غدا إرثاً إبداعياً توارثته الأجيال إلى أن جاء ماتسو باشو "و1644ت 1694م"، في القرن السابع عشر الميلادي، حيث أخرج القصيدة اليابانية "الهايكاي- الرينغا" من دائرة الإطناب3. والإنشاء الجماعي إلى دائرة الإيجاز والبناء الفردي، جاعلاً من البيت الافتتاحي أو ما يسمى بالهوكو"hokku"، في قصيدة الهايكاي شكلا شعرياً مستقلا بذاته، قوامه التصوير الحسي المشهديو الكِيغُو4. والدهشة، وسمه فيما بعد بــ" الهايكو"5.

وبموجب هذا الإبدال الذي اضطلع به الشاعر باشو ولد الهايكو الياباني باقتصاده اللغوي وامتلائه المشهدي، وأبعاده التأويلية، من رحم الهُوكُو6، -البيت الاستهلالي في الهايكاي-، ولادة مشهدية طبيعية يزدوج فيها الفصل السنوي"kigo " بالتجربة ازدواج الحس بالحدس، فطارت شهرته في الناس كل مطار، ثم توسعت دائرة شعرائه شرقاً وغرباً وشمالا وجنوباً، حتى غدا قنبلة عنقودية موزعة جمالياتها في جل الجغرافيات الشعرية العالمية، آسيوية كانت، أو أنجلوساكسونية أو أوروبية، أو عربية وغيرها.


الهايكو والتلقي العربي.. تبيئة وممانعة

معلوم أن أي اقتراح جمالي جديد، يقابل بالرفض والازدراء من قبل المتعصبين لما كان، الرافضين لكل تجديد من شأنه خلخلة النموذج السائد، وتجاوز الجماليات المتوارثة ومغايرة الذوق العام المتعارف عليه، سواء أكان هذا الإبدال الجمالي أصيلا تولد من داخل المجال التداولي7. الذي ينتمي إليه المبدع العربي، أم وافداً سعى المبدع العربي إلى تبيئته في مجاله بغرض توسيع دائرة الإبداع وخلق طرائق جديدة في الأداء الشعري، وتوليد طبقات جمالية حداثية في معمار الشعرية العربية.

من هنا، توزع المتلقون للهايكو في نسخته العربية إلى طبقتين8، طبقة معترضة رافضة لتبني هذا الإبدال بدعوى أنه دخيل على الشعرية العربية، مخالف لقوانينها في النظم، وذائقة أهلها في التلقي، وطبقة مؤمنة بحرية الإبداع مدافعة عن الحق في الاختلاف الجمالي، مؤيدة لهذا الاقتراح/ الإبدال، باحثة عن أشباه ونظائر له في الشعرية العربية، منتصرة للتجريب وخوض غمار التبيئة أملا في خلق هوية عربية لقصيدة الهايكو اليابانية، على غرار الشعريات العالمية التي تبنته ووسعت من جمالياته واستراتيجيات انبنائها، من خلال تجاوز النموذج الياباني، ومغايرة قواعده وموضوعاته بابتداع قواعد تراعي خصوصية الثقافة/ اللغة المنقول إليها، وما يفرضه مجالها التداولي من موضوعات قابلة للشعرنة الهايكوية.
 

الهايكو العربي المغربي.. بنية النص وإبدالات المبدع

إن الناظر في بنية القصيدة الهايكوية العربية عامة، والمغربية خاصة، يجد أنها تشترك مع الهايكو الياباني في الأصول، وإن شئت قلت، المبادئ، وتختلف عنه في الفروع وإن شئت قلت، استراتيجيات الانبناء النصي، حيث يتماها الهايكو العربي مع الهايكو الياباني في المبادئ الآتية:

مبدأ الصور الأدنى

نقصد بمبدإ الصورة الأدنى، اقتصار الهايكيست العربي/ المغربي، في بناء قصائده على صورة واحدة مقيدة من حيث التصوير المشهدي، ومفتوحة من حيث التلقي والتأويل.

ولبيان مدى تحكم مبدأ الصورة الأدنى في الهايكو العربي نورد لا على سبيل الحصر وإنما على سبيل التمثيل، النماذج النصية التي ضمنها باشو الهايكو المغربي الشاعر سامح درويش مجموعته الرائعة الموسومة بــ"ما أكثرني/ مع قطرات الندى/ أتقاطر"9، الصادرة حديثاً عن مطبعة النجاح الجديدة في طبعة أنيقة نصاً ومناصاً، نمثل بأبياتها الآتية:

مع الفجر
تِباعَا
تَنْقَشِعُ أزهارُ الجلّنارْ

****

لِتَوِّهِ مِنَ العُشِّ،
فَرْخُ الهَزارِ
يَتَهَجَّى الطَّيَران

****

اللَّوْزَةُ هُنَاكْ
نِصْفُهَا أَزْهَرَ
وَنِصْفُهَا لَمْ...

***

تَغْرِيدَةُ الشُّحْرُورِ
لَمْ تَكُنْ سِوَى
رَنَّةِ هَاتِفٍ نَقَّال10

فمن خلال هذه النماذج النصية لسامح درويش، نستشف أن الصورة الشعرية في الهايكو العربي، تتماها مع الهايكو الياباني، من حيث خضوعها لمبدإ الصورة الأدنى –التشكيل المقيد-، إذ من خلالها تبني مشهديتها التي يزدوج فيها الحس بالدهشة.

كما نلمح أن الصورة المشهدية المقيدة في الهايكو العربي ليست مجرد وضعية فنية ناقلة للواقع الخارجي كما هو –أي محاكاته-، ولكنها طريقة مخصوصة في العرض النصي المشهدي، تقوم على التدرج التصويري، كأن الصورة الكلية للقصيدة الهايكوية في تدرجها التصويري، وانبنائها المشهدي كومة الجليد في تدحرجها الطبيعي، ونموها الكمي، إذ عبر آلية التدرج التصويري، استطاع الهايكيست العربي المغربي، خرق مبدأ عدم التناقض المنطقي، والجمع في نصه المشهدي بين النقيضين: تضييق العبارة وتوسيع دلالة الصورة، كما يظهر في الأبيات الآتية:

مَنْ مِنْهُمَا َيرْتَعِش؟
رمشُ عَيْنِي
أمْ لَأْلَأَةُ النَّدَى عَلَى العُشْب

***

بِمَنَاجِلِهِمْ
يُلَوِّحُ الحَصَّادُونَ
لِلْفَتَاةِ العَابِرَة

***

على خَيْشِ الخَابيَة
يَنْمُو الزَّرع
ما تَبَقَّى، بخَيَالِي أتْمِمهُ

***

مِنْ يَدِي
يَخطف مائة درهم ويَفِرّ
تَيّارُ الهواء

****

آثار خَطْوٍ
بِنَهَمٍ

تَلْحَسُها الرّيح

***

قِطَارُ الصّبَاح
بطِيئا
يُسْرعُ في اتِّجَاهِ البارِحَة11

فمن خلال هذه الباقات الهايكوية نستشف كيف مكنت آلية التدرج12. قصيدة الهايكو المشهدية العربية من التقلب في أحوال دلالية متعددة أخرجتها من ضيق الوظيفة الإحالية المدركة بالحس إلى سَعة الوظيفة الرمزية المدركة بالحدس، التي تفرض على المتلقي تقليب الدلالة وتوسيع التأويل.

كما تجدر الإشارة إلى أن أغلب ألفاظ قصيدة الهايكو المشهدية مأخوذة من دوائر حسية مختلفة، يختلف ترتيبها من شاعر إلى آخر حيث ألفينا سامح درويش يحتفي بشكل صريح بدائرة الإدراك البصري، مع توظيفه لدوائر الإدراك الحسية الأخرى بنسب متفاوتة سيراً على نهج المعلم الأول باشو، بينما ألفينا الهايكيست رشيد قدوري يقدم دائرة الإدراك السمعي على دائرة الإدراك البصري واللمسي في مجموعته "سميميع الندى" التي احتفى فيها بالتقاطات الأذن قبل البصر طلباً للمغايرة والتميز، وعن هذه الرغبة في المغايرة قال في مقدمة مجموعة )سميميع الندى( "إذا أنا لم أدهش العالم بتفاصيلي وخصوصيتي..فلن أدهشه بعمومياته"13. وعن احتفائه بالتقاطات حاسة السمع قال: "نصوص هذا الديوان الذي أضعه بين أيديكم كانت ثمرة (سمعي) الخاص، فهي وإن كانت تقليداً يابانياً في الشكل والقالب وهذا ضروري لكي تُصنف كهايكو إلا أنني حاولت أن تكون أصيلة من حيث الموضوعات"14، ومن نماذج الاحتفاء بدائرة الإدراك السمعي عنده، نورد النماذج النصية الهايكوية الآتية:

سُورُ الطِّينِ القَدِيمِ .. يُسْمِعُني
رَكَزَاتك يا أبَتِ...
Oh Father! The old mud wall
Makes me hear
Your strong blows to set it down...

*****

تَحْتَ شَجَرَةِ البَلّوطِ .. الأحْجَارُ المُتَرَاصَّة.. تُواصِلُ حَدِيثَنا...
Under Oak Tree,
The compacted stones
Keep going our talk...

******

عَلَى نَغَمَاتِ نايْ .. يَنِطُّ الحَمَلُ .. مِنْ رَبْوَةٍ إلى رَبْوَة.
On flute’s tunes,
The lamp jumps
From a hill to another

*****

الزَّرِيبَةِ .. مَأْمَأةٌ رَخِيمَةٌ .. تَهْلِيلٌ بِحُلُولِ الصُّبْح
In the barn,
Melodious bleat
Cheering the morning

*****

أَذَانُ الظُّهْرِ .. لَقْلاقٌ يُلَبّي الدَّعْوَة .. بالعَمَل
Midday prayer appeal
And the stork meets the call

15By work

 

وإذا كان الشاعر رشيد قدوري، قد بوأ الألفاظ الحسية المأخوذة من دائرة الإدراك السمعي الصدارة في مجموعته "سُمَيْمِيعُ النَّدَى"، فقد وجدنا مِنْ شعراء الهايكو مَنْ مزج في النص الواحد بين إدراكين حسيين مختلفين، حيث ألفينا من يمزج بين ألفاظ الإدراك البصري والسمعي، وبين من يمزج الألفاظ اللمسية بالألفاظ المأخوذة من دائرة الإدراك الذوقي والشمي، لبناء مشهدية نصوصه، ومن النصوص الهايكوية التي مزج أصحابها بين ألفاظ دوائر الإدراك الحسية المختلفة نورد النماذج الآتية:

أ. نماذج المزج البصري والسمعي

قمرُ الصَّيف
وسْطَ البُحَيْرَةِ
يَنْبُضُ قَلْبُ المَاء

****

أَنِينُ العُودِ
يُصَعِّدُ ضَوْءَ البَنَفْسَج
حتَّى السُّجود

***

وَسَطَ الصَّلاة
رَنَّةُ مُوبَايل
مُلْحِدَة16
 

ب. نماذج المزج البصري واللمسي


نُزُوح .. حَافِيَ الْقَدَمَيْنْ .. يُدَوِّنُ التَّارِيخَ بِالْمَسَافَات...17

***

بِفَتِيت ِالحنّاء
في الفراش تستقبل جدتي
صَبَاحَ العِيد18

****

في آخِرِ اللَّيلِ
نُعانِق الهَبَاء
أنَا والقَمَر19.
 

ج. نماذج المزج البصري والذوقي
 

شَجرَةُ ٱلكَاكَّاوْ .. يَسيلُ لُعابِي .. أمامَ بَائعَةِ ٱلشّوكُولاتَه20

****

عَلى شَفَتَيْكِ
تَتَضَوَّعُ حُمْرَةُ الشَّفق
إِني أُغْرِبُ فيك21
 

د. نماذج المزج البصري والشمي
 

الزُّهُورُ المَرْقُونَةُ عَلَى بَابِنَا القَدِيم
ما زَالَتْ تَحْمِلُ عَبَقَ الحِنَّاءِ
بِكَفّ جَارَ تِي22

***

الزَّهْرَةُ الثَّمـــِلَةُ
بِعِطْرِهَا
تُعْرِضُ عَنِ النَّدَى23
بِحَاشِيَةِ القفطان
تَمُرِّيَن
فَتُؤَجِّجِينَ عَبَقَ الرَّيْحَان24
 

هـ: نماذج المزج اللمسي والذوقي
 

لِمَنْ تَكْشِفُ هذه الوَرْدَةُ مَفَاتِنَهَا
لِقُبْلَةٍ لَدُنِيّةٍ؟
لِيَدٍ آثِمَةٍ عَمْياء؟.

***

على شَفَةِ النَّهْرِ
أُدَاعِبُ قِشْرَةَ المَاء.
لِيَسْتَحِمَّ ظِلِّي25
 

و: نماذج المزج اللمسي والشمي
 

من أنفاسنا
على زجاج النوافذ
نمد ستائر26

***

كلَّ صَبَاحٍ بِيَدَيْهِ يَفْرِكُ عَرَائِشَ النَّعناعِ
إنّهُ يدعو قَبيلَةَ النّحْلِ
لِتُشارِكَهُ الفُطُورَ27

***

مَحَلُّ ٱلعِطَارَة .. اَلأزْهارُ ٱليَابِسَة .. مَا زَالَتْ تَفُوح28

فهذه النماذج النصية التي مثلنا بها، تنم عن تصور خاص للقصيدة المشهدية الهايكوية العربية، وترتيب مخصوص للألفاظ الحسية، حيث أخرجها شعراء الهايكو من ضيق الدلالة الحسية ورفعوها إلى دائرة التذوق الباطني.

وعلى الإجمال، فشعراء الهايكو العربي المغربي، يشتركون جميعاً من حيث وعيهم بالوظيفة الجمالية للمشهدية المقيدة القائمة على مبدإ الصورة الأدنى، ومبدإ التدرج، على غرار شعراء الهايكو الياباني، ويختلفون من حيث خِطَطِ بناء نصوصهم المشهدية، ودرجة استثمارهم لألفاظ دوائر الإدراك الحسي، حيث الصدارة في تشكيل الصورة المشهدية، لألفاظ معجم "العين/البصر"، يليها معجم "المسموعات"، فــــ"المذوقات"، ثم "المشمومات"، فضلا عن تباين طرائقهم في توظيف آلية المزج "الدمج الحسي"، في تشكيل نصوصهم، وتوسيعهم لمدلولات الألفاظ الحسية توسيعاً تنمحي معه الحدود الفاصلة بين الحقيقة والمجاز.

مبدأ الاقتصاد اللغوي

إذا تقرر أن الهايكو العربي يشترك مع الهايكو الياباني في الالتزام بمبدإ الصورة الأدنى، ويختلف عنه في استراتيجيات انبناء الصورة المشهدية المقيدة، فقد ثبت من خلال حفرنا في المنجز النصي الهايكوي المغربي، اشتراكهما –أيضا - في مبدإ الاقتصاد اللغوي، حيث تشترك أبيات الهايكو العربي مع أبيات الهايكو الياباني، في بنيتها التركيبية المكثفة المكونة من عدد محصور من الجمل القصيرة، والموزعة على ثلاثة أسطر، تربطها علاقات دلالية موسعة تسمح بالانفتاح على إمكانات تأويلية متكاثرة تكاثر القراء والقراءات.

أما من حيث إبدالات المبدع العربي المغربي، فيتجلى في خروجه عن الصواتة المقطعية اليابانية المحصورة في سبعة عشر مقطعاً صوتياً موزعاً على ثلاثة أسطر على النحو الآتي)5/7/5 مقاطع(29.

حيث لمحنا تحرر الهايكيست المغربي من هذه المقطعية الصوتية، بالتضييق تارة جلباً للخفة الإيقاعية، وبالتوسيع تارة أخرى تجنباً للبّس التركيبي والمعنوي، كما وجدنا اختلافاً في التوزيع المقطعي بين المبدعين أنفسهم، كما تفصح عنه النصوص الواردة في مؤلف "موكب الهايكو: أصوات شعرية من شرق المغرب الأقصى"، نورد منها على سبيل التمثيل لا الحصر، النماذج النصية الآتية:

على الطريق إليكِ
في ما تراكم من خطوي
أتعثر30 -هايكو سامح درويش-

***

مدخنة البيت المعزول
تعلنه
على قيد الحياة31 -هايكو رشيد قدوري-

***

ألبوم العائلة
صورة الجَّدة
جَدَّةُ الصُّور32 -هايكو البكاي كطباش-

***

لمن يلوح زهر اللوز بمناديله الموشّاة بالكرز؟
للراحلين الحفاة؟
لمن محنتهم أوجاع الحياة؟33 -هايكو مصطفى دزيري-

***

نور الصباح
تنسلخ شفتاي
من شفتيها34 -هايكو محمد حامدي-

***

بقفاز العروس المغناج
ينظم المرور
الشرطي المحزون35 –هايكو مريم لحلو-

فمن خلال هذه النماذج النصية، نستشف أن المبدعين المغاربة، رغم التزامهم بالتوزيع السطري الثلاثي، وتقديم الجملة الاسمية على الفعلية، إلا أنهم يختلفون في التوزيع المقطعي الصوتي، هذا الاختلاف الناجم عن تباين نظرتهم لأساليب البيان العربي، وإيقاعها النظمي، وحرصهم على الخفة الصوتية وأمن اللبس التركيبي، مع تمايزهم من حيث استثمار أساليب البلاغة العربية، بين محتف بالتقديم والتأخير، ومحتف بالإضمار والإظهار، وبين محتف بالمفارقة والمماثلة ومحتف بالتشبيه والاستعارة، وبين محتف بالتهجين النصي ومحافظ على النقاء اللغوي في بناء صوره المشهدية.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإبدال اللغوي المقطعي والأسلوبي، الذي لمحناه بين مبدعين ينتمون للمجال التداولي نفسه، هو في الأصل من أهم الإبدالات -أيضا- التي تميز الهايكو العربي عن نظيره الياباني، نظراً لاختلاف اللسانين، وما ينشأ عن هذا التباين اللساني من تباين جذري في خِطَطِ التصوير المشهدي باللغة، فحيث يكثر الشاعر الياباني من صيغ الغيبة، يكثر الشاعر المغربي من صيغ التخاطب والتكلم.

 ولبيان هذا التباين في استعمال الضمائر في النصوص الهايكوية اليابانية والعربية المغربية نسوق النماذج الآتية:

أ. نماذج أبيات الهايكو اليابانية وهيمنة ضمائر الغيبة: باشو نموذجاً

بحيرة قديمة
يغطس فيها ضفدع
صوت المياه

***

العجوز
أرى وجهها الآن منبوذة
والقمر أنيسها الوحيد

***

أول أيام عام جديد
وباشو في كوخه
مع أزيز الشعر36

***

هذا الدرب
لا أحد يطرقه
إلا المغيب الخريفيّ

***

إنها خضراء
كان يمكن أن يكفيها ذلك
الفليفلة37

ب. نماذج أبيات الهايكو العربية، وهيمنة ضمائر المخاطبة والتكلم: سامح درويش نموذجاً

قلبك أبيض
هلْ..
ترين ثلوجه؟.

***

من أنفاسنا
على زجاج النوافذ
نمدُّ ستائر

***

على شفتيك
تتضوع حمرة الشفق
إني أغرب فيكِ

***

معا
بأيدينا
نصنع ماضينا الجديد

***

خطوة خطوة
كالمخبر
يتعقبني عطرك

***

شوقا إليكِ
أتشمم
ضوء القمر

***

أعمى
ببصيرة يدي
أراكِ

***

بسبابتي
أكتب شيئا لكِ
في الهواء

***

ما أكثرني
مع قطرات الندى
أتقاطر38.

فمن خلال هذين النموذجي اللذين مثلنا بهما لرصد الفروق الموجودة بين اللسانين، من حيث استعمالهما لصيغ الكلام في النصوص الهايكوية، نستشف استثمار الهايكيست الياباني لصيغة الغيبة، في مقابل الصيغة الأخرى، بدرجة تجعله يعبر عن أناه بضمير الغيبة كما لمحناه في بيت باشو "أول أيام عام جديد،/ وباشو في كوخه/ مع أزيز الشعر"39، بينما يعلي الهايكيست العربي المغربي من ضمائر المخاطبة والتكلم كما لمحناه مع سامح درويش في مجموعته: "ما أكثرني/ مع قطرات الندى/ أتكاثر"، وبموجب هذا التباين في صيغ الكلام التي يوظفها المبدع في نصوصه الهايكوية، يجوز لنا أن نعد لغة الهايكو العربي لغة تخاطبية لكثرة توظيف ضمائر المخاطبة، ولغة الهايكو الياباني لغة غيبية لكثرة استعمال مبدعيها لضمائر الغيبة، ووسم لغة أخرى كالفرنسية-مثلا- بأنها لغة تكلمية لكثرة استعمالها للضمائر التكلمية40.

وعلى الإجمال فإن الشاعر المغربي، رغم حفاظه على الهندسة السطرية الثلاثية المعتمدة في الهايكو الياباني، إلا أنه حاد عن توزيعها المقطعي الصوتي، ولعل هذا الاختلاف مرده –كما أشرنا آنفا- إلى الاختلاف في طبيعة الألسن، وتباين أساليبها في الأداء التصويري، والتنغيم النصي، فحيث تستعمل إحداها صيغة المخاطب، تستعمل الأخرى صيغة التكلم أو الغائب، وحيث تستعمل هذه الإظهار والذكر، تستعمل تلك الإضمار والحذف، وحيث تعبر العربية عن المثنى41. بصيغة مخصوصة لا تشاركها فيه أي لغة، تعبر لغات أخرى عنه بصيغة الجمع، وحيث يلجأ الهايكيست الياباني إلى التنغيم والتنبير، يلجأ الهايكيست العربي، إلى الجناس، والتضاد، والاشتراك اللفظي، وقس على ذلك أوجه المغايرة اللغوية والأسلوبية، والإيقاعية.

مبدأ التركيب المزدوج

نقصد بمبدإ التركيب المزدوج، أن شعر الهايكو، في صيغتيه اليابانية والعربية، ليس مجرد صورة حسية فقط، بل هو صورة حسية مزدوجة بالحدس، وخطاب مشهدي مزدوج بالتأويل، ينبغي أن ننظر إليه على هذا المقتضى، والناظر في النصوص المشهدية المغربية، يجد أن الشاعر المغربي، شاعر حادس واع بخاصية الازدواج التي تميز شعر الهايكو، من هنا كان لزاماً على المتلقي لهذا النمط الشعري الوعي بهذه الخصيصة التركيبية المزدوجة التي يتمفصل فيه الحس بالحدس، وإن شئت قلت، التسلح في تلقيه النصي بمدركة البصر التي تسمح له بإعادة تركيب عناصر الصورة المشهدية حسياً، والبصيرة التي تسمح له برؤية المعاني الثاوية في الصورة الحسية حدسياً، ما دام الشاعر الحادس في نصوصه المشهدية، لا يكتفي بنقل المحسوسات، كما هي في العالم الخارجي، بل يحدسها ويرفعها إلى دائرة الإدراك الباطني، المدرك بالعقل الحدسي الذي يمكنه من استجلاء ما وراء حقيقة الصورة الحسية المشهدية الظاهرة.

ولبيان سمات هذا الانبناء المزدوج في قصيدة الهايكو، نورد النماذج الآتية:

في عَيْنِ الشُّبَّاكِ ..
تَنْصُب العنكبوتُ شِبَاكَهَا
لمُجَرَّد نَظْرَة...
Just for a look,
The spider weaves its nest
In wire mesh...

***

فِي صَفَاءِ الوَادِي
تَرَى القَلْعَةُ وَجْهَهَا
أكْثَرَ شَبَابا

On the pure river,
The castle sees her face
More youthful!

***

يَا لفَرْحَتِي!

مِنْ رَحِمِ الوِسَادَةِ

 يَخْرُجُ قَمِيصِي الطُّفُولِي

Oh my joy!
My childhood shirt,
Coming out from the pillow

****

رَحَى الزَّيْتُونِ
أسْطُوانَةٌ
للنَّوَادِرِ والحِكَايَات...
Olive’s millstone is,
A disc for
Anecdotes and stories
42

***

أنت أيضاً
سوف تستريحين
أقول للساعة

***

محطاتك بعيدة
صدى حقيبتك
يرن تحت وسادتي

***

تبكي الصغيرة
رجلها الثلجي
يتصبب عرقا تحت الشمس43

***

مقهى النخبة
لا حاجة إلى صابون
لصنع فقاعات

***

ضوء طبيعي
ذبابة ترشف النبيذ
خارج الاستعارة

***

فك ارتباط
حول دائرة الذهب
بريق الخسران44

إذ تُظهُر هذه النماذج النصية، خِطط التركيب المزدوج في قصيدة الهايكو العربية، وكيف يَقْلِبُ الشاعر الحادس بملفوظات حسية، كل عادتنا الحسية، وتمثلاتنا للعالم الخارجي، ويخرجنا من ضيق العالم المرئي إلى سعة عالم آخر فوق مرئي مدهش، غني بالاستعارات، والمفارقات، والحدوس الفلسفية45 التأملية، التي توسع مداركنا وتحررنا من الأحكام الحسية المسبقة، التي تأصلت فينا منذ عهود خلت، مثله في صنيعه مثل الصوفي46، الذي رُفِعَ عنه الحجاب حين سلك طريقاً معرفياً إشارياً مغايراً لطريق العامة في تعاملها مع العالم المرئي وتلقيها للعالم الغيبي/ الماورائي، طلباً لأفضل العوالم الممكنة.
 

إجمال

إن الناظر في النصوص الهايكوية العربية المغربية يجد أن الهايكو قصيدة مشهدية حدسية يوجهها مبدأ الصورة الأدنى، ومبدأ الاقتصاد، ومبدأ الحدس بالحس، والهايكيست شاعر حادس، لأنه لا يكتفي في نصوصه المشهدية، بنقل المدركات الخارجية كما هي بل يرفعها وينقلها من دائرة الإدراك الحسي المتذوق بالبصر، إلى سعة الإدراك الحدسي المتذوق بالبصيرة، توسيعاً لعالمه المرئي، بغية خلق عوالم مغايرة يستشعر وجودها بفطرته.

وتأسيساً على ما سبق نقترح تسمية شعر الهايكو في مجالنا التداولي العربي، بالشعر الحدسي، أو القصيدة الحدسية، وتسمية الهايكيست بالشاعر الحادس، ما دام حدسه وموضوعات نصوصه المشهدية، نابعة من خصوصية بيئته الجغرافية والثقافية، وخصائص لغته في التبليغ والتصوير.
 


 

الهوامش
1. للتوسع في تاريخ الهايكو والأنماط الشعرية اليابانية السائدة قبله ينظر كتاب: تاريخ الهايكو الياباني، للهايكيست ريو يوتسويا ترجمة سعيد بوكرامي، كتاب المجلة العربية، المملكة العربية السعودية، ط:1، السنة:1432هـ.
2. يتميز الهايكاي عن الرينغا في نزوع كتابه إلى اللعب بالكلمات، والاحتفال باليومي وتوظيف الأمثال العامية، وهي مميزات تنعدم في قصيدة الرنغا.
3. كانت تتكون من 14- 17 مقطعا.
4. إدراج فصل من فصول الطبيعة.
5. تجدر الإشارة إلى أن كلمة هايكو / haiko لغة تعني في اليابانية، طفل الرماد، ينظر تمهيد كتاب "تاريخ الهايكو الياباني، لمؤلفه ريو يوتسويا، ترجمة، سعيد بوكرامي، المجلة العربية، المملكة العربية السعودية ط:1، ص:7.
6. ينظر: صوت الماء، مختارات لأبرز شعراء الهايكو الياباني، ترجمة حسن الصلهبي، كتاب مجلة الفيصل، سنة 1437هـ، ط:1، ص: 16.
7. نستعمل مصطلح "المجال التداولي" بالمفهوم الطاهوي، ينظر كتاب: تجديد المنهج في تقويم التراث، طه عبد الرحمن، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط:2، ص: 243-272.
8. نبَّه الشاعر سامح درويش إلى هذا الصراع والتوجس من هذا الاقتراح الشعري، من قبل المحافظين في كلمته التقديمية التي شملها ظهر غلاف ديوانه الجديد "ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر"، الصادر عن مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط:1، سنة2019.
9. مجموعة "ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر"، سامح درويش، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط:1، سنة2019.
10. هايكو "ضوء رخيم"، البيت:11-12-13-14-15، مجموعة "ما أكثرني مع قطرات الندى أتكاثر"، ص:9-10.
11. مجموعة ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر، هايكو "بددا، لوحده يذهب الهندباء"، أبيات:8-14-18-19-24
12. لعل وعي الهايكيست العربي بأهمية آلية التدرج نابع من تأثره بقصائد المعلم الأول باشو، المترجمة، ومنها قوله: "سنمدد.. قائمة البلشون.. حين نضيف إليها قائمة التدرج"، ترجمة سعيد بوكرامي، ينظر كتاب تاريخ الهايكو الياباني، ص:17.
13. سميميع الندى، نصوص هايكو، تأليف رشيد قدوري، نقلته إلى الإنجليزية أسماء الشاهدي الوازاني، مطبعة أمياس، ط:1، سنة 2017ص:5.
14. سميميع الندى، نصوص هايكو، تأليف رشيد قدوري، مطبعة أمياس، ط:1، سنة 2017ص:8
15. سميميع الندى، أبيات هايكو: -2-4- 6- 12-25، ص:11-12-17-22.
16. أبيات هايكو بكاي كطباش، مقتطفة من مجموعة "موكب الهايكو، أصوات من شرق المغرب الأقصى"، إعداد سامح درويش، تقديم: محمد حمدي، منشورات الموكب الأدبي،ط:1، سنة 2016، ص:35- 36.
17. هايكو عبد الرحيم حامد الله، ماخوذ من صفحته.
18. هايكو مريم الحلو، كتاب الموكب الأدبي، ص:118.
19. هايكو محمد حامدي، الموكب الأدبي، ص: 96.
20. هايكو عبد الرحيم حامد الله، مأخوذ من صفحته.
21. هايكو سامح درويش، مجموعة ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر، ص:47.
22. هايكو رشيد قدوري، مجموعة "سميميع الندى"، ص:27
23. هايكو مريم لحلو.
24. هايكو سامح درويش، مجموعة ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر، ص:47.
25. هايكو الشاعر محمد حامدي، مقتطف من كتاب موكب الهايكو، منشورات الموكب الأدبي، ص:97.
26. هايكو الشاعر سامح درويش، مجموعة "ما اكثرني"، ص:47.
27. هايكو الشاعر مصطفى دزيري، مقتطف من كتاب موكب الهايكو، منشورات الموكب الأدبي، ص:45- 46
28. هايكو عبد الرحيم حامد الله.
29. تاريخ الهايكو الياباني، ص: 8.
30. موكب الهايكو، ص:38.
31. موكب الهايكو، ص:71.
32. موكب الهايكو، ص:25.
33. موكب الهايكو، ص:43.
34. موكب الهايكو، ص:105.
35. موكب الهايكو، ص:110.
36. أبيات هايكو باشو، ترجمة حسن الصلهبي، كتاب مجلة الفيصل، سنة1437هـ،ط:1، ص: 30-31.
37. بيت باشون ترجمة محمد الدنيا، مقتطف من كتاب أجمل حكايات الزن، يتبعها فن الهايكو، صدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الكويت، سنة أبريل 2005ن ط:1، ص:92
38. أبيات مجموعة هايكو "ما أكثرني مع قطرات الندى أتقاطر" ص: 46-47-48-50-51-78.
39. أبيات هايكو باشو، ترجمة حسن الصلهبي، كتاب مجلة الفيصل، سنة1437ه، ط:1، ص: 47.
40. سبق لطه عبد الرحمن أن نبه إلى هذه الفروق في عدة كتب، وبخاصة حين دعا إلى ترجمة تأصيلية للقول الفلسفي ومراعاة خصائص اللغة المنقول إليها.
41. المثنى ظاهرة عربية بامتياز، إذ يعبر العربي عن التثنية بألفاظ مخصوصة، بينما تخلو اللغات الأخرى من ألفاظ التثنية وتعبر عنه بتوظيف صيغ الجمع، كالفرنسية والأنجليزية.
42. أبيات هايكو رشيد قدوري، مقتطفة من مجموعة "سميميع الندى"، ص: 7-8-9.
43. أبيات هايكو مريم لحلو، مقتطفة من كتب "موكب الهايكو"، ص:111-112.
44. أبيات هايكو، بكاي كطِباش، مقتطفة من "موكب الهايكو"، ص: 30-34 -36.
45. لتعرف أنماط الحدس عند الفلاسفة، ينظر كتاب "المناهج الفلسفية" تأليف الطاهر وعزيز، منشورات المركز الثقافي العربي، ط:1، سنة 1990، ص:43.
46. تشير المصادر إلى أن الهايكو الياباني تأثر بفلسفة الزن، وهي فلسفة تتقاطع مع التصوف العربي في عدة خصائص، للتوسع ينظر كتاب "أجمل حكايات الزن، يتبعها فن الهايكو" تأليف هنري برونل، ترجمة: محمد الدنيا، مراجعة محمود رزقي، منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والأداب بالكويت، ط: 1، سنة 2005.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها