حين يفرّ الشعراء من النحاة!

دعوة إلـى تيسيـر الدرس الـنحوي

صلاح حسن رشيد

"العربية لا تحيا بالنحو ولا بالنحاة فقط؛ بل بالفن، والأدب، والابتكار في كل العصور والأمصار" العلامة د/ الطاهر أحمد مكي.

"دلوني على نحويٍّ واحدٍ من أصحاب الأساليب الرائعة في العربية؛ فإذا أعوزكم ذلك؛ وسيعوزكم بلا ريبٍ؛ فأقول بكل ثقةٍ: إذاً؛ فالفصحى ليست ملكاً للنحاة" د/ حسين مجيب المصري.

لذلك؛ قال بشار بن برد تعليقاً على تخطئة الأخفش له في بعض أشعاره: "ويلي على القصّار بن القصّارين! متى كانت الفصاحة في بيوت القصّارين"! لا؛ بل اعترف النحوي خلف الأحمر البصري في كتابه (مقدمة في النحو) عندما أحس بالثقل الذي ألقاه النحاة على الطلاب، وبالصعوبات التي يواجهها دارس النحو على أيامه الزاهيات؛ فقال عن سبب وضعه لهذا الكتاب التيسيري: "ولما رأيت النحويين، وأصحاب العربية أجمعين، قد استعملوا التطويل، وكثرة العلل، وأغفلوا ما يحتاج إليه المتعلم المتبلغ في النحو من المختصر، والطرق العربية، والمأخذ الذي يخف على المبتدئ حفظه، ويعمل في عقله، ويحيط به فهمه"! فقد وضع خلف هذا الكتاب قبل أن تدخل الفلسفة، والمنطق في النحو، حسب كلام الدكتور/ يوسف عز الدين رحمه الله في كتابه (تراثنا والمعاصرة).
 

:: الشعراء أرباب اللغة ::
 


أمير الشعراء/ أحمد بك شوقي


وفي إحدى المرّات؛ سُئل أمير الشعراء/ أحمد بك شوقي رحمه الله تعالى.. عن سر نبوغه الشعري، وتألقه في عالم الشعراء؛ فأجاب قائلاً: "الفصحى لا النحو؛ فصحى الشعراء؛ تجري في دمائي، وأتنفسها في شهيقي، وأحلم بها في هجوعي، وأبادلها المحبة؛ فتبادلني هي التفنن، والنبوغ"! وقال الدكتور/ طه حسين في (رسائله): "ويلٌ للمبدع ثُمَّ ويلٌ له؛ إذا اكتفى من اللغة! فلا يزال يطلبها، ولا تزال هي تطلبه؛ يطلبها في الأشعار العالية الجرس؛ والأدب الجزل؛ فتعطيه أكثر مما يظن؛ حتى تتحقق له الريادة في الأدب"! وذات مرَّةٍ؛ فوجئ أصدقاء شاعر النيل/ حافظ إبراهيم به، وهو يهرب من المقهى مسرعاً؛ بلا أي اعتذار من جانبه! وفي اليوم التالي؛ أخبرهم أنه لمح من على البعد الشاعر/ محمد توفيق البكري يهم للانضمام إلى مجلسهم الشعري؛ فآثر حافظ الانسحاب خوفاً على لغته الشاعرة من تقعيرات البكري، وألفاظه غير الشعرية! وروى محمد طاهر الجبلاوي أن سارة سألت العملاق/ عباس العقاد، كيف تتغلَّب على صعوبة النحو، وتكتب بلغتك الجزلة؟! فردَّ عليها العقاد ساخراً: "بالفرار من النحاة، والاقتراب من لغة الناس"! وعلى مقهى متاتيا بالقاهرة؛ سأل الشاعر/ طاهر أبو فاشا صديقه الدكتور/ زكي مبارك.. ما اللغة؟! وما الأسلوب؟! فأجاب قائلاً: "اللغة مِلْكٌ لكَ؛ تتصرَّف فيها بحرية؛ وكأنك صائغٌ يصنع الجواهر بيديه! أو كأنك ملاَّحٌ ماهرٌ تسبح بسفينتك في عالم الحرية؛ فتكسر الأمواج، وتتغلَّب على العواصف؛ حتى ترسو على شاطئ الأمان! وأما الأسلوب؛ فهو أنتَ، شخصيتكَ، ورأيك، وطريقتك في الكتابة، والاشتقاق، والنحت، والابتكار، وليس لغة غيرك، وتصوير مَن سبقك"!
 


الأديب عبدالله باشا فكري
 

بل إن الأديب/ عبد الله باشا فكري؛ كتب لأصدقائه متهكِّماً من طريقة تدريس العربية في عصره؛ فقد عزلوا الناس عن طرائق الابتكار اللغوي، ووقفوا في وجه التجديد في أساليبها؛ فقال متعجِّباً: "يا قوم: أهذا النحو وإعرابه، والصرف وأبوابه، والعَروض وأوزانه وأبحره، والمعاني وإنشاؤه وخبره، والبيان وفرائده، والبديع وشواهده، وهذه العلوم الموضوعة، والأسفار المحمولة، والدرس المأهولة، والأصوات المهولة؛ لمجرد معرفة ضَرْبِ زيدٍ لعمرو، وقتال خالدٍ لبكر، وأنَّ قال أصلها قَوَلَ؟! ثُمَّ لا يدري ما حصل! والطويل من فعولن مفاعيلن، ثُمَّ لا يعلم كيف يُنْظَم؟! والفصل والوصل، ولا أصل ولا وصل! والحقيقة والمجاز، وليس لهما مجاز! والتورية والجناس؛ مما يُحفَظ ويُقاس! إذن واللهِ تكون تلك الفنون، من أفانين المجانين! ويكون الميلُ إليها، والإقبال عليها عملاً حابِطاً، وشغلاً ساقطاً، وهوساً عاطلاً، ووسواساً باطلاً! ويكون واضعوها أساءوا الناس، وأخطئوا القياس، وبنوا على غير أساس! كلا؛ إنما وضعوا هذه القواعد، وشرعوا للناس تلك الموارد؛ ليتكلموا بكلام العرب مثل ما تكلمتْ، ويفهموا من ألفاظها كالذي فهمتْ، ويُترجموا عن سرائر الضمائر كما ترجمت، وينثروا وينظموا كما نثرتْ ونظمتْ! وقد كانت هذه العربُ التي أودع الله الفصاحة لسانها، وشرَّف بسيدنا النبي، والقرآن العربيِّ مكانها؛ تتكلم بهذه اللغة العليَّة، على الفطرة الأصلية، والسجية الجِبِلِّيّة، من غير هذه القواعد والأصول، وتلك الأبواب والفصول! وكانت تَعْتَدُّ البلاغةَ مبلغ عُلاها، وتعتقد الفصاحة من محاسن حُلاها.. إلى أنْ خَلَفَ هذا الخَلَفُ؛ فظنوا تلك الوسائل مقاصد، ليس لعدها غايةٌ لقاصد! وحسبوا هذه الكُتُب تُقْصَدُ لِذاتها، ويُكْتَفى بالتعبد بكلماتها؛ فوقفوا عندها، ولم يتجاوزوها لِما بعدها! واتخذوا الأدب وراءهم ظِهرياً، وجعلوا النظم، والنثر شيئاً فريّاً"!
 


الأديب أمين الريحاني
 

:: التقعر النحوي ::

ومن هنا؛ فلا نُفاجأ عندما نعلم أن الأديب الكبير/ أمين الريحاني كان يضيق بالتقعر النحوي، والتعقيد اللغوي، فيقول عن النحو المُلْغِز:" كفاني منه مشقة وعذاب، لقد أنهكتُ قوايَ، وتمزَّقتْ أحشائي بين الكسائي وسيبويه، وابن مالكٍ والمُبرد ونِفطويه.."! ويقول لنعوم مكرزل: "أود أن أكتب كل أسبوع، غير أني وقعتُ كما تعلم بين لغتين، بل بَلِيَّتين؛ فإن كانت اللغة الإنجليزية في دمي، فلغة سيبويه في عظامي، والاثنتان تتجاوبان في فؤادي؛ ولذلك أحيا مُنهكَ القُوَي، أليفَ الهمِّ والحَيرة، والبلية الكبرى هي أنني كلما حفظتُ لفظةً جديدة عربية، أنسى من الإنجليزية اثنتين وثلاثة، فإن طال باعي في تلك، قصَّر في هذه.."! وهو يصف جرجي زيدان بأنه: والتر سكوت العرب، ويخاطبه طالباً منه الرحمة بالناس؛ فيقول له:" أعطِ قُرّاءَك ولو إجازة صغيرة يا شيخ، وقِفْ أنتَ قليلاً؛ كي تأخذ نَفَساً"! ويتمنى في رسائله مع صديقه لطفي جمعة، بل يتطلع مستشرفاً: "أن نصل إلى الدرجة التي يُتَرجِم فيها الغربيون آثارنا! ليت شعري متى يترجم الإفرنج كُتُبنا، أو بالأحرى، متى نكتب شيئاً يستحق أن يُنقَل إلى لغات هؤلاء"! ويشير الريحاني إلى أنه ترجم قصيدة" دنشواي" لحافظ إبراهيم إلى الإنجليزية، تلك الحادثة الشهيرة بمصر، عام 1906م، ويقول: إن صوت الشاعر الحقيقي ليس إلا صوت الأمة بالذات..!



الأديب نجيب محفوظ
 

:: نجيب محفوظ يخشى النحاة ::

وخوفاً على إبداعه، وجمالياته من وطأة التعقيد، ورطانة، وخشونة التقعر، والغموض.. روى الأديب نجيب محفوظ للصحافية/ عايدة الشريف في كتابها (محمود محمد شاكر قصة قلم)، كيف أنه خشي على أسلوبه الروائي من أسلوب شاكر؛ فقال حاكياً عن شاكر، وجفاف أسلوبه في الكتابة: "كنت في زيارة زميلي الأستاذ يحيى حقي، أيام كنا نعمل بمصلحة الفنون، وعندما رحتُ أصافحه (يعني محمود شاكر)، استقبلني متهللاً بقوله: "واد يا نجيب، بقيت لك خطوتان، وتكتب العربية الفصحى"! كانت أطراف أصابعه تتحرك مع كلماته في شكل دائري. ثُمَّ دعاني لزيارته، ولكنني خِفتُ على ما أكتبه منه؛ ذلك لأني لاحظتُ أن لغة يحيى حقي قد أغرقتْ في البلاغة، بعد أن توثَّقتْ علاقته بمحمود شاكر، حتى إنه كتب للعُمَّال في جريدتهم (التعاون) فلم يفهموه"!

فلا جرم؛ فقد هاجم جبران خليل جبران جمود النحاة؛ ولغتهم النازلة؛ فقال متهكماً تحت عنوان (لكم لغتكم ولي لغتي): "لكم من لغتكم: البديع، والبيان، والمنطق، ولي من لغتي: نظرة في عين المغلوب، ودمعة في جفن مشتاق، وابتسامة على ثغر المؤمن، وإشارة في يد السموح الحكيم، لكم منها الفصيح دون الركيك، والبليغ دون المبتذل.. ولي منها ما يتمتمه المستوحش، وما يغص به المتوجع، وما يلثغ به المأخوذ، وكله فصيح بليغ (...) لكم منها ما قاله سيبويه، والأسود، وابن عقيل، ومن جاء قبلهم، وبعدهم من المضجرين المملين! ولي منها ما تقوله الأم لطفلها، والمحب لرفيقته، والمتعبد لسكينة ليله"!

فاللغة لا تعيش بغير الأدب، والفن.. كما يقول الدكتور/ حسين مجيب المصري في كتابه المخطوط (تذكار الصبا): "اللغة لا تحيا بالنحاة فقط؛ بل بخيال الأديب، وجرأة الشاعر، وجسارة الفنان، وريشة الرسام! ولولا ذلك؛ لتحنطت اللغات، وماتت في رحم النحاة! فالنحو نافلة، والأدب والفن فرض الخلود"!

وعن هذه الوظيفة القمينة بالأديب، يقول الأديب الكبير/ أحمد حسن الزيات عن الكلمة في مجلة (الرسالة): "وفي اختيار الكلمة الخالصة بالمعنى إبداع وخلق؛ لأن الكلمة ميتة مادامت في المعجم؛ فإذا وصلها الفنان الخالق بأخواتها في التركيب، ووضعها في موضعها الطبيعي من الجملة؛ دبَّت فيها الحياة، وسرت فيها الحرارة، وظهر اللون، وتهيأ لها البروز. والكلمة في الجملة كالقطعة في الآلة؛ إذا وُضعت موضعها على الصورة اللازمة، والنظام المطلوب، تحركت الآلة، وإلا ظلت جامدة! وللكلمات أرواح.."!
 

:: ثورة ابن مضاء النحوية ::

وتأتي المحطة الحداثية المكملة لسيبويه وهي ثورة الأندلسي/ ابن مضاء القرطبي (ت592هـ) في كتابه "الرد على النحاة" الذين وصفهم بالتقليديين، وهو الذي رفض أن يستمر الدرس النحوي لثلاثة قرون يرتكز على مجموعة من القواعد التي نالت درجة التقديس عند كثير منهم، وكانت ثورة ابن مضاء دعوة حداثية تجديدية باكرة؛ لإعادة النظر في منهج النحو العربي، وهو في كتابه المختصر النافع لا يدعو إلى هدم النحو ونسف الماضي، بل يطالب بتجريد النحو من الشوائب وتخليصه من صناعة النحاة، فيقول: "إني رأيت النحويين -رحمة الله عليهم- قد وضعوا صناعة النحو لحفظ الكلام من اللحن، وصيانته من التغيير؛ فبلغوا الغاية التي أمّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا". وقد استوحى آراءه النحوية الجديدة من المذهب الظاهري في الفقه.
 

:: تجديدات شوقي ضيف ::

وينتقد نحوي معاصر عدم اهتمام معاصري ابن مضاء وخالفيه بما قال وأبدع، حيث استمر الغلاة في النحو في تعقيد الصناعة النحوية بعد ابن مضاء؛ إلى أن قام شوقي ضيف رحمه الله بتحقيق هذا الكتاب عام 1947م، وأصدر من بعده كتابه العمدة عن تجديد النحو، ومؤلفاته عن تيسير النحو، وغيرها من بحوثه الداعمة لهذا الاتجاه الجديد.

يقول يوسف عز الدين: "ولا ننسى محاولات السيرافي، وابن مضاء الأندلسي في العصور القديمة في تسهيل، وتطوير النحو، وفي العصر الحديث مؤلفات الأساتذة: حفني ناصف، وعلي الجارم، ومصطفى أمين، والغلاييني، وإبراهيم مصطفى، وشوقي ضيف، وأمين الخولي، وعبد الحميد حسن، وعباس حسن، وأحمد عبد الستار الجواري، فقد عُقدت مؤتمرات في تيسير النحو في القاهرة، والشام، وحلقات في دار العلوم بالقاهرة؛ لخدمة هذه الفكرة".

من هنا؛ وضع النحوي القدير/ إبراهيم مصطفى يده على جُرح اللغة؛ عندما قال: "ألا يمكن أن تكون الصعوبة من ناحية وضع النحو، وتدوين قواعده، وأن يكون الدواء في تبديل منهج البحث اللغوي للعربية"!

والسؤال المهم الآن هو: ترى متى يدرس الطلاب في بلادنا لغة شوقي، والعقاد، والأخطل الصغير، وحافظ، وطه حسين، والرافعي، ومارون عبود، وزكي مبارك، وأمين الريحاني، ومي زيادة، ومطران، وبدوي الجبل، ونزار قباني، وغادة السمان،.. وليس لغة النحاة التقليديين، الوارثين للغموض، والإلغاز، والأحاجي التي تقضي على جماليات اللغة، ومكانتها بين الأجيال الجديدة؟!
 

:: تدليس بعض النحاة! ::

وربطاً بما سبق؛ كشفت دراسة علمية رصينة؛ قام بها نحوي أزهري؛ لا يشق له غبار؛ باقتدار وشفافية؛ أن النحاة وضعوا مائتي بيت من الشعر، وهو ما يعادل خمس شواهد كتاب سيبويه؛ خدمة لمذاهبهم، وآرائهم، ومدارسهم؛ وكيف أن بعض النحويين قد خضعوا لسلطان قواعدهم خضوع الهوى، والمصلحة، والغرض؛ فتلاعبوا بالنحو واللغة؛ تلاعباً أتى بالضرر البالغ للنحو؛ من خلال طرائق المداورة، والتحريف، والانتحال، والوضع، والتلفيق؛ لكي يضمنوا لقواعدهم الانتشار، والصواب، والاعتماد من قِبَلِ النخبة والعامة؛ ولو كان كل ذلك؛ ضرباً لكلام العرب؛ ومخالفة لما ورد في دواوين ومصادر عصر الاحتجاج اللغوي؛ تغليباً لشيوع هذه القواعد وذيوعها؛ حتى وإن مشت على أرجل من التزييف، والتغيير، والصنع، والتأليف!

ففي كتابه المهم (تغيير النحويين للشواهد) الصادر عن مكتبة الآداب بالقاهرة مؤخراً؛ يقول الدكتور/ علي محمد فاخر أستاذ النحو والصرف بكلية اللغة العربية بجامعة الأزهر الشريف: "فمن المعروف؛ أن مهمة النحوي في الأصل؛ وصف الظاهرة النحوية، وتقعيد القواعد لها؛ من خلال النصوص الواردة إليه من كلام الله تعالى؛ الذي يتمثل في القرآن الكريم، ومن خلال كلام العرب؛ الذي يتمثل في الحديث الشريف، والشعر الذي يستشهد به. أما أن يصنع النحوي الكلام الذي يستشهد به، ويعمل الشواهد التي توافق قاعدته ومذهبه؛ فهذا لا يجوز، ومع ذلك كله؛ تجرأ النحاة وصنعوا الأبيات، وأعدوا الشواهد! ولم يكن ذلك في العصور المتأخرة؛ بل كان في عصر سيبويه، وفي كتاب سيبويه نفسه"!

:: الأبيات المصنوعة ::

وبالرجوع إلى كتاب سيبويه نفسه؛ كما يقول الدكتور/ علي محمد فاخر؛ وجدناه يشير إلى ذلك؛ يقول سيبويه (الكتاب1/188): "وقد جاء في الشعر، وزعموا أنه مصنوع:
(همُ القائلون الخير والآمرونه .... إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما)

ويقول سيبويه أيضاً (الكتاب3/61): "وقال الآخر؛ ويقال وضعه النحويون:
(إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانةَ الله الثريدُ)

ويقول (2/255): "وهو مصنوع على طرفة، وهو لبعض العباديين:
(أسعد بن مال ألم تعلموا ... وذو الرأي مهما يقل يصدق)

وذكر المبرد ذلك أو قريباً منه؛ يقول في الكامل له (1/61): "أنشدني بعضهم: (وليس حاملني إلا ابن حمالِ)! فهذا لا يجوز في الكلام؛ لانه إذا نُوِّنَ الاسم لم يتصل به المضمر؛ وعلى هذا قول الله عز وجل: (إنا منجوك وأهلك) "العنكبوت: 33. قال المبرد: "وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة، وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين يجيز مثل هذا في الضرورة.. والبيتان اللذان رواهما سيبويه هما: (هم القائلون الخير والآمرونه/ إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما)! وأنشد: (ولم يرتفقْ والناس مُحتضرونه/ جميعاً وأيدي المُعتفين رواهقهْ)!

ويورد الدكتور/ فاخر ما قاله عبد القادر البغدادي في (خزانة الأدب): وقد ذكر هذا البيت هو قول الأعشى مادحاً: (في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أنْ هالكٌ كلُّ من يحفَى وينتعلُ) شاهداً على تخفيف (أن) وحذف اسمها ومجيء خبرها جملة اسمية صدرها الخبر؛ قال البغدادي: "قال السيرافي: وفي كتاب أبي بكر مبرمان: هذا المصراع معمول؛ أي مصنوع؛ والثابت المروي هو: (في فتية كسيوف الهند قد علموا/ أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الجيلُ)! ثم قال: "وقال ابن المستوفي: والذي ذكره السيرافي صحيح؛ ولا شك أن النحويين غيَّروه ليقع الاسم بعد أن المخففة مرفوعاً، وحكمه أن يقع بعد المثقلة منصوباً؛ فلما تغيَّر اللفظ تغيَّر الحكم"!
 

:: الأبيات المجهولة ::

ويؤكد الدكتور/ فاخر قائلاً: "والأبيات المجهولة تشبه إلى حد كبير الأبيات المؤلفة أو المحرفة؛ لأنها تفتح الباب إلى أن يكون قائلها أو واضعها نحوياً؛ أخفى نفسه أيضاً؛ لإثبات مسألة أو ترويج قاعدة؛ فالوقوف على القائل؛ من اسمه ونسبه وصفته؛ والوقوف على قصيدة الشاهد، وموضوعها، وديوانها؛ برهان على الحق والصدق؛ فلا يقبل القاضي شهادة من أحد إلا بعد أن يسمي نفسه وينسبها؛ ولازالت الخمسون بيتاً المجهولة في كتاب سيبويه تثير قلقاً حول الكتاب؛ فمعرفة القائل تنبئ عن ثقة أو غيرها؛ وفصاحة أو غيرها؛ وهل هو من عصور الاستشهاد أو غيرها؛ أما الجهل به؛ ففي النفس من قبول قاعدة مبنية على قوله أشياء! ولو أننا أحصينا الأبيات المجهولة القائل؛ لقاربت ثلث الأبيات التي استشهد بها النحاة في كتبهم؛ وإذا كانت قد بلغت خمسين في كتاب سيبويه؛ فإنها في كتب ابن مالك؛ الذي صال وجال، وبرع في الاستشهاد بالشعر؛ وفاق غيره حفظاً وإبداعاً؛ أضعاف مضاعفة من ذلك العدد؛ وإذا أردت أن تعرف صدق هذه النسبة؛ وهي أن الأبيات المجهولة القائل؛ تعادل ثلث الشواهد؛ فقف على كتاب يشرح الشواهد؛ كالدرر اللوامع الذي تربو صفحاته على الخمسمائة؛ لا تكاد صفحة منه تخلو من هذه العبارة: "ولم أعثر على قائل البيت"، وكان آخر بيت كتبته في شرح المقرَّب حتى الآن؛ هو باب "لا النافية"، وهو باب صغير، وقد تعدت شواهده الثلاثين بيتاً؛ وكلها مجهولة القائل"!

فمن أمثلة الأبيات المشهورة المجهولة القائل؛ هذا البيت الذي تمتلئ به جميع المصادر النحوية، وهو القائل: (بنونا بنو أبنائنا وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعدِ)! ويستشهد الدكتور علي فاخر؛ بقول الإمام عبد القادر البغدادي؛ تعليقاً عليه: "وهذا البيت لا يعرف قائله مع شهرته في كتب النحاة وغيرهم؛ قال العيني: وهذا البيت استشهد به النحاة على جواز تقديم الخبر؛ والفرضيون على دخول أبناء الأبناء في الميراث؛ وأن الانتساب يكون إلى الآباء؛ والفقهاء كذلك في الوصية؛ وأهل المعاني والبيان في التشبيه؛ ولم أر أحداً منهم عزاه إلى قائله"!

ويدلل المؤلف على صدق كلامه؛ بهذا البيت المجهول: (جياد بني أبي بكر تسامى ... على كان المسوّمةِ العرابِ)! شاهداً على زيادة كان بين الجار والمجرور؛ ولا يخلو منه كتاب نحوي؛ ومع ذلك فليس له نسب، ولا له إخوة؛ ومثله كثير"!

ولكون الشاهد هو البرهان على صدق القضية؛ فقد آلى النحاة أن يأتوا لكل قاعدة وضعوها؛ بشواهد؛ ولو لم تقلها العرب! خوفاً من أن يرد العرب عليهم نحوهم وقواعدهم؛ لذلك نجدهم أرهقوا أنفسهم؛ وقد تمثل تغييرهم في خمسة أمور كما يجزم الدكتور علي فاخر في كتابه؛ وهي: "تأليف بيت للاستشهاد به، أو تأليف شطر له، أو تغيير قافية البيت من أجل الشاهد، أو تغيير كلمات البيت لتوافق الشاهد، أو تركيب بيت من بيتين لمراعاة ذلك"!
 

:: تأليف الشاهد ::

ذكر السيوطي في (المزهر): أن المازني قال: سمعت اللاحقي يقول: سألني سيبويه: هل تحفظ للعرب شاهداً على إعمال فَعِلٌ؟ قال: فوضعت له هذا البيت، وهو: (حذرٌ أموراً لا تضير وآمنٌ ... ما ليس منجيه من الأقدارِ)! وقد سرى هذا البيت في كتب النحاة من أولهم حتى عصرنا"!

ويستشهدون بهذا البيت المنسوب إلى طرفة: (اضربَ عنك الهموم طارقها ... ضربك بالسوط قونس الفرسِ) على حذف نون التوكيد، وبقاء الفعل مفتوحاً قبلها؛ فيرد عليهم ابن جني قائلاً: "هذا البيت مصنوع عند عامة أصحابنا، ولا رواية تثبت فيه"!

:: تأليف شطر البيت ::

فمن ذلك؛ استشهاد النحاة بقول لبيد: (ولقد علمتُ لتأتين منيتي ... إن المنايا لا تطيش سهامها) على أن اللام في جواب القسم من الأدوات التي تعلق أفعال القلوب عن العمل، وأنها صارت كلام الابتداء في التعليق؛ كمثل قوله تعالى: (ولقد علموا لمن اشتراه) (البقرة: 102). وهذا الشاهد استشهد به النحاة منذ سيبويه حتى الآن؛ لكن الشطر الأول موضع الشاهد؛ لا أثر له في شعر لبيد؛ يقول العيني في (المقاصد النحوية): "وقد ذكر البيت واستشهد به؛ أن قائله لبيد بن عامر؛ هكذا قالت جماعة؛ لكنني لم أجد في ديوانه إلا الشطر الثاني؛ حيث يقول: (صادفن منها غرةً؛ فأصبنه ... إن المنايا لا تطيش سهامها)!
 

:: تغيير بعض الكلمات ::

وهو الغالب في التغيير، كما يقول الدكتور/ فاخر؛ حيث يضطر النحويون أمام جبروت القاعدة، واستسلاماً منهم ونزولاً؛ لضرورة وجود شاهد للمسألة؛ أن يغيروا بعض كلمات البيت؛ بينما تجده في ديوان الشاعر برواية أخرى ليس فيها هذا الشاهد؛ ومن ذلك استشهادهم ببيت المجنون: (ندمت على ما فات مني فقدتني ... كما يندم المغبون حين يبيع) على جواز أن يلحق الفعلان: فقد وعدم بأفعال القلوب في الجمع بين ضميري متكلم أحدهما فاعل والآخر مفعول؛ على أن البيت في ديوان المجنون؛ هو: (ندمت على ما كان مني ندامة ... كما يندم المغبون حين يبيع)!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها