رؤيا الكَشف والمُغَايَرة في القصِيدة العربية المُعاصِرَة

المغرب نموذجاً

عبدالحق وفـاق

يَقولُ كُولن ولسُون: "الشاعر العظيم رجل تتسِعُ رُؤياهُ أحياناً إلى ما وراءَ أُفق الإنسان العادي، فتُذهِله ضخامةُ الكَون وجماله، وهي الصّفة التي يشترِك فيها الشُّعراء جميعا حتّى البؤساء منهم."

لَم تَكُن القصِيدة المغربية الحديثة بِمنأى عن روافِد فِكريةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ واجتماعيةٍ تظافرت لِبلوَرة مفهوم للشعر المغربي المُعاصِر، خَلَّصَهُ من الفقهية والبلاغية واللغوية التي جَنَح إليها في العُقود الأولى من القرن المنصَرِم. هذا الوعي الجديد قادَ كثيبة من الشعراء إلى إِحداث رجّة في الكِتابة الشعرية الإبداعية، تحتَفي بالذاتيّ الجماليّ والإبداعيّ الفنيّ، والواقعيّ الحَالِم التَّوَّاقِ إلى المُغايَرةِ واللاّحدِّ.

شَكلت مرحلة الستينيات من القرن العِشرين بِساطاً إبداعياً لهذِه الرَّجّة التي فَتَحت للإبداع الشعري أبواباً حالِمة، تُجاوِزُ عَرضَ الآراءِ إلى عَرضِ الرُّؤى والحُدوسِ التلقائية والتّخطّي المُستمِر للنّمطِية والأشكال الثابتة. هذا الانعِطاف في المشهَد الشعري المغربي المُعاصِر، خَليقٌ بأن يكونَ إيذاناً جديداً بتأسيسِ شَكلٍ إبداعي وفني جديدٍ مع أحمد المجاطي، محمد الخمار الكنوني، ومحمد السرغيني، الذين يُعتَبرون بِحق نُجوماً وضّاءة في سماء القصيدة المغربية المُعاصِرة، التي تناغَمت خلال هذه الفترة مع التغيرات الجذرية التي كانت تشهدُها نظيرتها في المشرق العربي قبلها بعقد ونيف. حيثُ انهارَت الأنساق الشعرية الكلاسيكية وأخذت المُحاولات التجديدية تتدفّقُ من حَماس جَيْل شابٍّ يَرسُم معالمَ حياةٍ أفضل. (1)

ولأن الشِّعر شُعورٌ وتدفق للمعاني واسترسال لها، فهو لا يفترِضُ خَطّية بالضّرورة، ولأنه داخليّ بامتياز؛ فصاحِبُه لا ينبَغي أن يُمَوضِعَ معانيه الرّهيبة والرُّؤيوية  في أشكال لُغوية لَن تَستقِيمَ أبداً في هيئته الباذِخة،  لذلك يحتاجُ الشاعر الحداثي إلى اللغة وإلى اللالغة، كَي يَضمَنَ توثيقَ جُزءٍ مما يعبر وجدانه وجسده من ضربات شِعرية، اللغة بما هي عليه من تراكمات فنية مُتَعارَف عليها، واللالغة بما هي خُروج عن المألوف وتدمير للأنماط التي أضحَت أجساداً بلا روح.(2)

انطلاقا من هذا الوعي الجديد بمستويات الإبداع في القصيدة المغربية المُعاصِرة، انتقلت من الصّورة والفِكرة والخَطية إلى الكَوْن الشعريِّ والكَشفِ والرُّؤيا الجديدة التي تشتَرطُ العُلُوَّ والمُغايَرةَ، "تلك هي بعضُ مُهمَّات الشِّعر الجَديد، وهذا هو امتيازُه في الخُروجِ من التّقليدية، فَقِوامُ الشعر الجديد، معنى خلاق توليدي، لا معنى سردي وصفي، ولذلك فإن مِن خصائصه أن يُعَبِّر عن قلقِ الإنسانِ أبديّاً".(3)

استطاع الشاعر المغربي أن يبتَكِر أدواته التعبيرية الخاصة، وأن يطمِسَ أي أثر جاهز، لِيُعاوِد رسمَ سبيل خاصّ به يقوده إلى تُخُوم الإبداع الشعري، وإلى الفردانية، وقرار القصيدة الأخير. بحيثُ "إنَّ الطريقَ الذي يُفضي إلى الرؤيا، يَمُرّ عبر الجهد الذي يبذل، والعرق الذي يُراق، والمكابدة المستمرة. الرؤيا ليست وحياً ينزِل على الشاعر، بل الشاعر هو الذي يهبِط على وحيه. فالطريق ليس سَهلاً، وغير مفروش بالأحلام والحدوس والتلقائية وإنما هو وَعْرُ المسالك." (4)

والرؤيا الإبداعية الفكرية هذه التي جاءت بها رياح التحديث في التجربة الشعرية المغربية المُعاصِرة، تتحقق من خلال شروط موضوعية؛ عبر إدخالِ الأشياءِ المَحسوسة والواقعيةِ، والخطّية الوصفية والزمنية إلى بؤرة الحُلم. حيثُ تغدو كلّ هذه العناصِر غريبة وشُمولية ولا منطقية، تجنَحُ نحوَ الإدهاشِ والمُغايرة والترميزِ والإيحاءِ دون المُباشِرة والوصفيةِ والواقِعية البديهيّةِ.

عن هذه الرؤيا، في حوار لجهاد فاضل مع خليل حاوي، يقول:" إن الرؤيا الشعرية هي سِمَة الشاعر الأصيل، الذي لا تلمحُ وراء نتاجه شيئاً من أشباحِ أسلافِهِ أو مُعاصِريه.. إنها القُدرة الهائلة التي يجبُ أن يتّصِف بها الشاعر، القُدرة على صَهْرِ ما يَستَمِدُّهُ مِن نِتاجِ الآخرين، وطبعِهِ بِنظرتِه الخاصة إلى الوجود وطريقَته في التعبير".(6)

منذ عقد الستينيات ما يزال العَطاء الشّعري -واعداً وعابراً للزمن والأجيال- لمحمد السرغيني وعبدالكريم الطبال ومحمد الميموني، هؤلاء الشعراء الذين تمثل تجاربهم رؤيا جديدة في الشعر المغربي المعاصر، تنهل من فردانية الإبداع، وصوفية الرؤيا. "إذ تختصر تجربة كل واحد منهم في معنى الشعر وكتابته من مُكابدة وصَبر وشَغف دائِم بالجديد ، الذي يحمل سِمات الرؤيا والصوفية والإشراق، بسببِ ما خبروه من فكرٍ وساحوا في شعابه وأخاديده، وفي التأثر بالجو الحضاري الجارف الذي صادف في نفسهم مَيلاً إلى التأمل برويّة والتفكير في الجوهريّ مُطلقاً. لكنّ سبل القصيدة تفرقت بهم في حوارِ أيٍّ مع نفسِهِ وتأمله للطبيعة والعالم من حوله".(5)

نَسوقُ بعضَ القُطوف الشِّعرية التي تَشِي بهذه الرّؤيا، وتمثّل شِعريتها الثاوية  في الترميز والإيحاء.

يقول أحمد المجاطي في قصيد "القدس":
رأيتُكِ تَدْفُنينَ الريحَ
تَحْتَ عَرائِشِ العَتْمَهْ
وَتَلتَحِفينَ صَمتَكِ
خَلفَ أعمِدةِ الشَّبابِيكِ
تَصُبِّينَ القُبورَ
وَتَشْرَبينَ
فَتَظمأُ الأحقابُ
ويظمأُ كلُّ ما عَتَّقْتُ مِن سُحُبٍ وَمِنْ أَكْوابْ
(7)

بتأمل هذا المقطع، الذي يقوم على الانزياحات اللغوية والترميز، يُخاطِب الشاعر القدس الفلسطينية، وهي تدفن الريح، وتلتحف الصمت، وبالتالي تودع ثورتها وآمالها في التغيير، في صمتٍ كئيبٍ، وعتمةٍ باردةٍ، تصويراً للمشاهد المتلاحقة لمواكب الشهداء وضحايا الاحتلال، فشَبَّه تتابع عمليات الدفن وكثرة المقابر بانصباب الماء، الذي ترتوي منه أرض القدس. كما يتناصُّ المقطَع مَع قصيدة لمحمود درويش بعنوان "عاشق من فلسطين".

نورد مقطعاً شِعريّاً آخر لمحمد الخمار الكنوني، وهو يصِف قوارب الهجرة السريّة الحالمة بالضفة الأخرى التي كانت ترمي بأرواح الشباب في أعماق البحر، وهو يُمنّون النّفس حُلمَ العُبور.

 يقول في قصيدة "صحوة الأضواء":
القَلبُ ماتْ، 
نَحنُ قَدْ شِخْنا عَلى لَوحٍ السّفينِ
البَحر في دِمائنا، دَوَاؤُنا والدَّاء
لَسْنا نَغَنِّي حَالِمينَ بالعُبابِ: "ليتَنِي بَحَّارْ".
غِناؤُنا الآنَ وَقَدْ مَضَى بِنا التّيارْ:
قُبورُنَا فِي الأرضِ شِبْرٌ، ها هُنا أَشْبارْ
...(8)

يَحفَلُ هذا المَقطَع بِشِعريّة الاحتفاء بالخيبات التي تكادُ تَسِمُ جلّ قصائد الكنوني، التي سُرعانَ ما يَبزُغ فيها بَصيص أَملٍ، حتى تعود لحقِيقَة اليأسِ التي تُعد الحلقة التي تؤوب إليها معاني الأمل والحياة. 

إذا كانت القصيدة الحديثة، قد رَسمتِ المَلامحَ الأولى للشّعر المغربي في عصر النهضة متأثرة بالتيارات الكلاسيكية والذاتية الرومانسية في الشعر العربي، فإن القصيدة المُعاصرة بدءاً من الستينيات قد توفرت لها تقاليد شعرية سابقة، استطاعت أن تطور من خلالها إمكاناتِ الأولى، وأن ترقى بالوسائل التعبيرية على مستوى اللغة والصورة الفنية والإيقاع إلى الأفق الرحب للرؤيا الإبداعية والفكرية.


هوامش:
(1)    محمد عدناني: إشكالية التجريب ومستويات الإبداع في المشهد الشعري المغربي الجديد،  جذور للنشر، الطبعة الأولى 2006، ص: 18.
(2)    عبدالسلام المساوي: إيقاعات ملونة، قراءات في الشعر المغربي المعاصر، منشورات ما بعد الحداثة، الطبعة الأولى 2006 ،ص: 8
(3)    أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، الطبعة الثانية 1978، ص: 9.
(4)    أحمد الطريسي أعراب: التصور المنهجي ومستويات الإدراك في العمل الأدبي الشعري،بابل للطباعة والنشر، الرباط 1989، ص 23.
(5)    عبداللطيف الوراري: في راهن الشعر المغربي من الجيل إلى الحساسية، منشورات التوحيدي، الطبعة الأولى 2014، ص: 27.
(6)    خليل حاوي: من حوار أجراه معه جهاد فاضل- قضايا الشعر الحديث، دار الشرق، بيروت، الطبعة الأولى 1984، ص: 227
(7)    أحمد المجاطي، الفروسية، شركة النشر والتوزيع المدارس، الطبعة الثانية،2001، ص: 47.
(8)    محمد الخمار الكنوني، رماد هسبريس، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية 2001، ص: 24.
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها