الفلسفة الأبيقورية

بين تطوير الذات والعيش في كنف الطبيعة

د. باكروم سعيد

 

إن الفلسفة الأبيقورية كالفلسفة الرواقية، فلسفة عمل سعت إلى نجاة الإنسان من المخاوف التي تسيطر عليه وتمكينه من بلوغ السكينة وهدوء النفس، وهي تنطلق من مبدأ العيش في وفاق مع الطبيعة، الطبيعة المشتركة كلها؛ طبيعة الإنسان وطبيعة العالم أجمع، التي كل ما فيها حسب رأي أبيقور يتكون وينحل تبعاً لاجتماع وافتراقِ الذَّرات.

 

لَقَد تَطرَّق الباحثُ في فصلهِ الأول إلى الحديثِ عَنِ "الفلسفة الأبيقورية ونشأتها"، وفيه ذَكَرَ أنَّ الأبيقورية ظهرت في فترة من تاريخ أثينا عَمَّت فيها الاضطرابات السياسية، وتُعَدُّ الأبيقورية ردة فعلٍ لواقعٍ اجتماعِيٍّ وحَضاري، فقد عصفت ببلاد اليونان أزمات أفضت في آخر المطاف إلى سيطرة المقدونيين على مقاليد الحكم. ففقدت المدن اليونانية استقلالها وسيادتها وعمت الفوضى والقلق وَغَدَا الإنسانُ يَخْشَى شرَّ أخيه الإنسان، وشعر الإغريق بأن الحضارة التي آلت بهم إلى ذلك المصير، لا بد من إعادة النظر في قيمتها بما يضمن إعادة الثقة والطمأنينة والسعادة إلى الإنسان.

لذلك جاءت الأبيقورية إذن كردة فعلٍ للأوضاعِ السِّياسية والاجتماعية، فحاولت من جهة تعويض الحريات المفقودة بتحريض الفرد على الانعزال والانطواء على نفسه بحثاً عن الاكتفاء الذَّاتي، وعن حرية باطنية أفضلَ مِنَ الحريات السِّياسية، مما جعل أبيقور يحض تلاميذه على تجنب الحشود وعلى العيش في الستر والخفاء.

وفي الفصل الثاني توقف الباحثُ مع موضوع "نظرية المعرفة عند الأبيقوريين"، حيث يرى الباحثُ أنَّ العلم القانوني عند أبيقور يُعد بحْثاً في الأدوات التي نملكها لمعرفة العالم الخارجي والتحقق من صلاحية هذه الأدوات لاكتساب المعرفة الصَّادقة، فالقانون يُعْنَى أولاً وَقَبل كلِّ شيء بمعيار الصِّدْقِ أو الواقع.

إن الأساسَ الأولَ في نظرية المعرفة عند أبيقور، وهو الفهم الواضح لوسائل المعرفة، فالسؤالُ الذي كان قائماً لدى الفلاسفةِ السَّابقين عن طبيعة العلاقة بين العقل وحقيقة الأشياء، وكانت إجابتهم عن هذا التساؤل مختلفة، فمنهم من ربط بين العقل وحقيقة الأشياء، ومنهم ربط بين الحواس وحقيقة الأشياء، وأبيقور من الذين أثاروا هذا التساؤل مرة أخرى كيف نستمد معرفتنا من العالم؟ أتكون بشهادة الحواس أو بالعقل أو بهما معاً؟

ويرى أبيقور أن الإحساسَ هو الأساس الوحيد للمعرفة وليس هناك موضوع تمييز بين مظهر وواقع، فالمظهر هو الواقع، كما أنه ليس هناك أي تمييز أساسي مثل تمييز ديمقريطس بين التفكير والإحساس، وأبيقور لا يتفق مع ديمقريطس في اعتقاده بأن المعرفة الصحيحة وقفٌ على الذرات والفضاء، وأن معرفتنا للخصائص الثانوية تكون عن طريق العرف، وفي رأيه أن المعرفة الوحيدة هي الإحساس والتفكير في حد ذاته لون من الإحساس، حيث يؤكد أبيقور على أن الإحساس لا يمكن أن يخطئ لأنه يقوم على إدراك مباشر للواقع كما يظهر ويتجلى.

وفي تبريره للخطأ يقول أبيقور إن الأصلَ في كل معرفة هو الحس، فعن طريقه وحده تتم المعرفة. فمن أين إذن يتسرب الخطأ إلى معرفتنا إن كان الإحساس لا يخطئ أبداً؟ يرى أبيقور أن الحس لا يخطئ وإنما الذي يحدث هو أنه يأتي إلى الحواس عن الشيء الواحد صور متعددة، والناس تختلف في التقاطها لهذه الصور فهذا يلتقط صورة وذاك يلتقط أخرى، وهكذا مع أن الموضوع واحد باستمرار ومن هنا ينشأ الاختلاف فيما بين بعضهم مع بعض؛ فالأصل إذن هو الحس دائماً.

ويعد التوقع كذلك ثاني وسائل المعرفة عند أبيقور، وفي نظره أنه يتكون مما يكون في النفس من صور جاءتها بها الحواس من قبل، إذ لو بقي المرء على مستوى الاحساسات الآنية للظواهر المتبدلة لما استقر على رأي واحد، ولا استطاع التمييز بين الحلم واليقظة ولا الفصل بين الصواب والخطأ، غير أن الاحساسات المتكررة تسمح باستخراج صور حسية عامة أو نماذج حسية من سيلان الانطباعات العابرة الخاطفة يشار إليهما بنفس اللفظ ولهما نفس المعنى، تلك العملية التي يسميها أبيقور بالتوقع.

وقد تمحور الفصل الثالث حول "الطبيعة عند الأبيقوريين"، لقد كانت البديهية الأساسية لعلم الطبيعة عند أبيقور تقول: ما من شيء يأتي من العدم والحقيقة أنه إذا كانت الأشياء تأتي من العدم فبإمكان أي شيء أن يأتي من أي شيء، ولا شيء يكون بحاجة لبذرة خاصة تكون أصل نموه، ومن ناحية أخرى فما من شيء يعود إلى العدم وذلك لأن الأشياء التي تختفي عن أبصارنا لو كانت تنحل من العدم، لفنيت الأشياء كلها ولم يبق لشيء وجود قط.

فالطبيعيات الأبيقورية حسب الباحث لا تهدف أبداً إلى أن تمد الإنسان لا بمسرات تأمل عقلاني، ولا بفوائد بعض التطبيقات التقنية، ليست الطبيعيات بالنسبة إلى أبيقور إلا طريقاً للوصول إلى صفاء لا يتذوقه إلا إنسان تخلص قلبه من غم خشية الظواهر الطبيعية وما يصاحبها من خشية الإيمان بالآلهة والخوف من الموت والقدر.

وفي الفصل الرابع والأخير تناول الباحثُ "الأخلاقَ عند الأبيقوريين"، وفيه بين أن أبيقور اعتبر أن اللذة هي بداية الحياة السعيدة وغايتها، وهي الخير الأول الموافق لطبيعتنا، وأنها القاعدة التي ننطلق منها لتحديد ما ينبغي اختياره وما ينبغي تجنبه، وهي المرجع الذي نلجأ إليه كلما اتخذنا الإحساس معياراً للخير الحاصل لنا.

وفيما يتعلق بالحكمة، اعتبر أبيقور، أن من سمات الحكيم أن يحاول العيش مستوراً وكأنه يتوارى عن الناس كي لا يكون له أعداء. وبذلك فالحكيم كائن حر انعتق من كل أفكار الضرورة والقدر الصارم وتحرر من الآخرين، فهو بلا سيد ويكفي نفسه بنفسه ويمتلك الاكتفاء الذاتي، فالاكتفاء الذاتي هو أعظم لذة يمكن أن ينعم بها الإنسان، والحكمة هي الوسيلة التي تسمح بالفوز بهذه اللذة، والحكمة ليست لها قيمة في ذاتها وإنما بالنظر ما تحققه من لذة.

وقد أكد أبيقور على أهمية الصداقة، فهي تسمح بالتعاون والتضامن من أجل مقاومة النكبات والمصائب؛ إذ اعتبر أن الصداقة هي العلاقة الاجتماعية الوحيدة ذات القيمة عند الحكيم، وفيها تكمن سعادة الأفراد وتصل إلى أوج عظمتها، فهي خير كاف للحياة الآمنة السعيدة، وهي أعظم الخيرات التي تقدمها الحكمة لسعادة حياتنا كلها، فاكتساب الأصدقاء هو أهم الوسائل التي تقودها الحكمة لضمان الحياة السعيدة.

وختم الباحث بالقول إن مدرسة أبيقور الفلسفية لم تكن إلا حديقة جذورها الصداقة في عالم تنقصه الصداقة، فكان أبيقور يحد اللذة بأنها تبادل الوئام المشترك أو مصادقة لطيفة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها