لا‭ ‬حقّ‭ ‬لحيّ‭ ‬إن‭ ‬ضاعت‭ ‬فـي‭ ‬الأرض‭ ‬حقوق‭ ‬الأموات

بشير‭ ‬عاني‭.. ‬الشاعر‭ ‬الذي‭ ‬قتله‭ ‬شعره

أديب‭ ‬حسن‭ ‬محمد

يوم الخميس 10 مارس، وفي مسقط رأسه في مدينة دير الزور جنوب شرقي سوريا أعدم تنظيم «داعش» المتشدد الشاعر السوري بشير عاني ونجله إياس على خلفية اتهامهما بالردة.
بشير عاني المثقف الدمث الطيب، والشاعر الدؤوب الذي كان آخر عهدي به صوته المتهدج التعب على سماعة الهاتف. كان يتحدث من دمشق برفقة زوجته المريضة أماني في إحدى رحلات علاجها من مرضها العضال. كنت وقتها مقيماً خارج سوريا، وطلب مني بشير أن يستقبله أحد معارفي في مطار مدينتي القامشلي، وأن يؤمن له ولزوجته سكناً ريثما ينتهي علاج زوجته. صوت بشير كان يختصر حال سوريا. تعب مشوب باليأس. تعب مكين تختلط فيه المشاعر البشرية العاصفة. لم يتسرب إلى صوته يأس وقلة حيلة كما في تلك المكالمة.
بشير الذي ولد في دير الزور عام 1960، ولم يغادرها إلا لماماً إلى دمشق، حصل على بكالوريوس في الهندسة الزراعية، وصدرت له ثلاثة دواوين شعرية هي: (رماد السيرة 1993)، و(وردة الفضيحة 1994)، و(حوذيّ الجهات 1994). اشتغل في الصحافة والتحرير، وأدار موقع (ألف) الإلكتروني، وشارك في العشرات من الندوات الفكرية والأمسيات الشعرية في أغلب المدن السورية، وكان من الشعراء الذين لهم بصمة مميزة في المشهد الشعري السوري الحديث، واعتبر من المنظّرين لقصيدة النثر السورية، حيث ساهم في ملتقياتها، وكتب الكثير عنها، كما كان من شعراء التفعيلة المتميزين. نشر أغلب قصائده في صحف ومجلات اتحاد الكتّاب العرب في سوريا مثل (الموقف الأدبي) و(الأسبوع الأدبي)، إضافة إلى عشرات المقالات التي قارب فيها القضايا المعيشية للناس البسطاء، وفضح الفساد.

 

***

دفء الأصابع:

جاء مرض زوجته ورفيقة دربه (أماني) ليشكل نقطة الانعطاف الحاسمة في حياة بشير، وفيما بعد عندما توفيت ودفنت في دير الزور كتب نصه الأخير في رثائها:
بلى يا أماني.. هزمنا.. وهزمنا..
لم أستطع يا صديقتي أن نثبت الحياة في عينيك، وأن نطرح الموت بالضربة القاضية
ولم تستطع كلماتي أن توقظ الدفء في أصابعك النحيلة المتعبة..
ولم أستطع سوى النحيب..
على قبرك سأكتب: هنا ترقد امرأة شجاعة في زمن جبان
وأمامه سأقف كثيراً، لا لأعتذر عن هزيمتي، بل لأصرخ:
أيتها الأنثى.. أنا ممتلئ بك.. وهذه هزيمتي الأخيرة.

لقد رفض الشاعر أن يغادر سوريا، وواجه قدره بشجاعة، ووقف إلى جانب زوجته في محنتها وقفة شاعر فراتي نبيل أصيل لا انفصام بينه وبين قصائده. ولعل رثائيته الأخيرة هي التي أودت به، وأوصلته إلى ذلك المصير الفجائعي مع ابنه البكر. ونحن إذا تعمقنا في القصيدة فسنجد حزناً فجائعياً يعرّي كل شيء، ويفضح الظلاميين وتجار الحروب وسماسرة الموت:
يا أماني
ما يخفف عني الآن وأنا أراقب الأجساد المعلقات على الأعواد
بانتظار شفاعة الأمهات كيما تترجل
هذا إن بقيت للأمهات هذه الأيام شفاعة لدى أمراء الحرب
والذعر البشري الذي تستطيعه روحي
أفكر بالجثث المرمية في المدن والمزارع والبلدات
جثث بلا رؤوس من سيأبه بها غير القطط والكلاب الشاردة؟
والحق أقول لكم...
لا حقّ لحيّ إن ضاعت في الأرض حقوق الأموات.
 

استشراف الآتـي:

لقد استشرف بشير مصيره دون أن يدري، والشعر في جانب منه استشراف للآتي، وكان على نقيض مع طرفي معادلة الحرب القاتلين.كان مبشراً بالإنسانية في زمن الخراب، وكان مؤمناً بسوريا الأم العتيقة، والحضارة التليدة، وكانت كتاباته مختلفة، فمنذ بداياته ذهبت قصيدته إلى أقاصي التعبير في موضوعات إشكالية لطالما ابتعد عنها الكثير من الشعراء لمخاوف رقابية، ولكيلا يضيق عليهم في العيش. اختار بشير وجع الناس موضوعة محورية لنصوصه، ولم يرف لقصيدته جفن وهي تنتقل من تعب إلى تعب ترصد أدق الخلجات، وتراهن على بصيص الأمل مهما بدا بعيد  المنال، وتدهشنا المزاوجة الغريبة بين يأس ضارب في التعابير، وأمل ترتقبه كل قصيدة.
وتابع بشير خطه الجريء بعد أن صار محرراً في موقع (ألف) الإلكتروني، الأمر الذي وضعه وجهاً لوجه أمام أعداء الحرية. لقد استشرف بشير هزيمته كجسد زائل وقابل للنيل منه، لكنه ترك في ثنايا حزنه الشفيف خيوط نور نتلمسها كلما حيرنا سؤال عن جدوى الشعر:
لهكذا حزن أسرجتني أمي
يا عكاز وقتي الكفيف
ويا مقاعدي على أرصفة التعب الطويل
ها أنا
أنا العاثر بجماجم اتزاني.. الشاغر إلا منك
أبحث عن صرة لملمت فيها براءتي / خسائري
أنا الذي قايض الطمأنينة بالهزائم.
 

الرهان على ما سيبقى:

أي كلام أبلغ من كلام شاعر استبدل الطمأنينة بالهزائم، وسعى في طوباوية مثيرة إلى افتداء العالم، بل قدم دمه على مذبح القصيدة وفاء لكلماته، وتأكيداً على إيمانه بحتمية انتصار الشعر، وإن جاء هذا الانتصار على حساب هزائم الشاعر الغفيرة؟!
وليس غريباً أن يتنبأ بشير بمقتله في ثنايا قصائده، فقد فعل ذلك شاعر غرناطة القتيل فيديريكو غارسيا لوركا الذي قال في إحدى قصائده:
وعرفت أنني قتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثث
ونزعوا أسنانها الذهبية، ولكنهم لم يجدوني قط.

ومثل لوركا ترك بشير خلفه حياة قصيرة حافلة بالكفاح والإنجازات، ولم يهادن خلال مسيرته الأدبية أي سلطة، وكان بتحديه هذا يراهن على ما سيتبقى. كان قنديلاً يشتعل بزيت الروح الإنسانية النبيلة العاشقة للحياة، والساعية إلى تخليصها من كوابيس الظلام، وكان يرى في رفاق دربه الشعراء شموعاً تضيء ليل سوريا الحالك.
وفي مدينة القامشلي، حيث استضيف آخر مرة في مهرجانها الشعري السنوي كان بشير أجمل الحضور وهو يلقي قصيدته، دون أن يعرف أيّ منا أنه يُودّعنا، ويُودِعنا في الوقت نفسه أمانة الشعر:
هنا.. بعد أن نمشي وراء جنازة هذي الأرض أو تلك
هذا الشعب أو ذاك
هنا يستريح الغريب
هنا
بعد أن تكلّ عصا الطاغية
فتبهر النياشين أيامنا
وتنفتح المسافات كالهاوية.

قُتل بشير، ودفن، ليس بعيداً عن جده المتنبي الذي قتله شعره وكبرياؤه، واجتمع بإياس ابنه وزوجته أماني تحت التراب، وبقيت قصائده تشير بأصابعها المكلومة إلى أدلة الخراب، وسدنة القبح، وأعداء الإنسانية.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 38)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها