عندما يسكت المؤرخ المعاصر .. هو صمت الخوف

علاء مصري النهر

يسكت المؤرخ المعاصر للأحداث عن ذكر حادثة ما، إما لخوفه من ذي السلطان، وإما تقرباً منه، وإما لبُعده عن ساحة الحدث. وفي تاريخنا الإسلامي كثيراً ما نجد مؤرخاً مشهوراً يسكت عن ذكر حادثة معينة أو يشير إليها بطـرفٍ خفيّ؛ ربما لخوفه من سلطانٍ أو لبُعده عن مكان الحادثة، إلا أن هذا السكوت دائماً يعقبه إفصاحٌ من مؤرخٍ آخر متأخر. وهذا السكوت لا يعد عيباً أو قدحاً في نزاهة المؤرخ وأمانته، بل ربما يكون حنكة ودهاءً منه.
 

***
 

سكوت ابن الجوزي

فمؤرخ عظيم كابن الجوزيّ المتوفى سنة 597هـ/1201م سكت عن حادثةٍ خطرة عاصرها، وقعت أحداثها بمحل إقامته بغداد في سنة 566هـ/1170م، تمثلت في مقتل الخليفة المستنجد بالله العباسي، ومع ذلك ذكر أنه كان ممن حضر صلاة الجنازة عليه. ثم أتى بعد ذلك المؤرخ ابن الأثير – قريب العهد من الحادثة، والمتوفى سنة 630هـ/1233م -، وأماط اللثام عن سبب موت المستنجد؛ فقد وضَّح أن كُلاًّ من ابن رئيس الرؤساء أستاذ الدار، والأمير قطب الدين قايماز قائد الجيش، اشتركا في قتل المستنجد، فعندما مرض بالحُمى وارتفعت حرارته، أمرا الطبيب ابن صفية بأن يصف للمستنجد ما يؤذيه، فوصف له دخول الحمام، فامتنع الخليفة لضعفه، ثم إنه أُدخِل وأُغلق عليه باب الحمام، فمات.

فأغلب الظنّ أن ابن الجوزي، المقرَّب من دار الخلافة وقتئذٍ، خشي أن ينبس ببنت شَفةٍ؛ لذلك آثر السلامة وسكت عن ذكر هذه الحادثة الأليمة في تاريخه، ولم يتحدثْ عنها إلا ابن الأثير بعد أن مرّ عليها زهاء ثلاثة عقود.

فسكوت ابن الجوزي عن ذكر هذه الحادثة كان لحكمةٍ قد ارتآها، ونصح بها أكثر من مرّةٍ في كتابه «صيد الخاطر»؛ فقد قال تحت عنوان «لا تظهر بغضك لـمَنْ تبغضه»: «وأما إذا أبغضت شخصاً؛ لأنه يسوؤك، فلا تظهر ذلك، فإنك تنبهه على أخذ الحذر منك، وتدعوه إلى المبارزة، فيبالغ في حربك والاحتيال عليك... وكذلك جميع ما يخاف إظهاره، فلا تتكلمن به فربما وقعت كلمة أسقطت بها عزّ السلطان، فنُقلت إليه فكانت سبب هلاكك».

وقد وقع ابن الأثير في الأمر نفسه عندما سكت عن مسألة استعانة الخليفة الناصر لدين الله العباسي (622-575هـ/1225-1180م) بجنكيز خان؛ خوفاً من بطش الناصر الذي وصفه المؤرخ ابن الساعي (ت 674هـ/1275م) بأنه «رديء السِّيرة في الرعية، مائلاً إلى الظلم والعسف؛ ففارق أهلُ البلاد بلادَهم، وأخذ أموالهم وأملاكهم...».

لم يشر ابن الأثير إلى هذه المسألة التي عاصرها ألبتة، فبعد أن ذكر الآراء المختلفة عن أصل المغول وأسباب حملتهم على المدن الإسلامية، ختم ذلك بقوله: «وكان في خروجهم غير ذلك، مما لا يمكن أن يُودَع في بطون الدفاتر».

إلا أن المؤرخ ابن واصل (ت 697هـ/1298م) أوضح أن هذا الذي لم يستطعْ ابن الأثير أن يودعه الدفاتر يتلخص في أن الخليفة الناصر كان قد أرسل إلى جنكيز خان ليستعين به على حرب السلطان علاء الدين خُوَارزمشاه. فابن واصل أبان عن هذه الحقيقة؛ لأنه كان يكتب تاريخه بعد موت الناصر بسنوات، بل بعد زوال الخلافة العباسية من بغداد وقيام خلافة ضعيفة مشكوك في أمرها في القاهرة، فقد علق على عبارة ابن الأثير السابقة قائلاً: «إنْ أراد عز الدين ابن الأثير بهذا أنه قِيل إن الخليفة الناصر لدين الله لما قصده خُوَارزمشاه ليستولي على العراق، كتب إلى جنكيز خان ملك التتر يطمعه في البلاد، ويُحسِّن له الخروج على علاء الدين خُوَارزمشاه، ويهون عليه أمره».

إن سكوت المؤرخ – خاصة إذا كان مُقرَّباً من السلطة – لا يُفسَّر بجهله للحوادث، وإنما بخوفه وجنوحه للسلامة. أما مسألة بُعد المؤرخ عن الأحداث، فلا تعد سبباً رئيسياً لسكوت المؤرخ عن ذكر إحدى الحوادث؛ فقد أشار ابن الجوزي – المعروف في كتابه «المنتظم» بعنايته الخاصة بأحداث بغداد - إلى جهاد المسلمين ضد الصليبيين في بلاد الشام إشارة مختصرة، أحصتها الباحثة السعودية حصة الورثان بثلاث وعشرين روايةً.
 

خيارات المؤرخ

وعندما تقع حادثة خطرة لها عواقبها الوخيمة، يكون المؤرخ المعاصر لها أمام خيارات ثلاثة: الأول تدوين الحقيقة بصراحةٍ وبلا خوفٍ، والثاني التلفيق والكذب، والثالث السكوت. ومن ثَمَّ ستكون هناك ثلاث نتائج: سيعادي المؤرخ مَنْ يخصهم الأمر، لذا لا يأمن أن يقع في قبضتهم، وقد تصل به الحال إلى ترك موطنه والهروب بليلٍ، أما إذا وضع الروايات الملفقة فحتماً سيرضي سيده، ولكن إلى حين، حيث سيأتي مؤرخٌ آخر قريب من الأحداث ويكشف النقاب عن هذا الكذب، وأما إذا سكت فقد سلم، وسوف يفهم مَنْ يأتي بعده سرّ هذا السكوت المقصود.

إن مؤرخاً كإبراهيم الصابئ المتوفى سنة 384هـ/994م كتب – وهو متولي ديوان الرسائل - رسائل لسيده عز الدولة بختيار البُويهي، لكنه أغضب رجلاً آخر من الأسرة البُويهية هو تاج الملة عضد الدولة، وأسرها في نفسه، وعندما تولَّى السلطة في بغداد قلب للصابئ ظهر المِجَنّ، وهمَّ بقتله، وحبسه بالفعل لمدةٍ، ثم أفرج عنه، وأمره بكتابة تاريخ رسمي للبُويهيين (عُرف بالتاريخ التاجي)، فاضطر الصابئ إلى ذلك مذعناً، وعندما دخل عليه رجلٌ سأله ما تؤلف، فقال: «أباطيل الفقها، وأكاذيب أنمقها»، فعلم بذلك عضد الدولة، فلم ينجُ الصَّابئ من غضبه إلا بشقّ الأنفس، وقام بمراجعة الكتاب بنفسه قبل أن يظهر للعلن.

حقيقة، لا نستطيع أن نقلل من أمانة أي مؤرخ ٍسكت عن ذكر حادثة ما؛ فالشواهد في عصرنا خير دليلٍ على أن السكوت له مبررات كثيرة، منها – بل وعلى رأسها – الخوف من ذي السلطان وإيثار السلامة. فالمؤرخ كل قوته في قلمه، وهي قوة تحتاج إلى ذكاءٍ في استخدامها، وإلا كانت وبالاً على صاحبها.

عندما التقى العلاَّمة ابن خلدون (ت 808هـ/1406م) ومعه قُضاة دمشق وفقهاؤها بتيمور لنك عقب استيلائه على دمشق في سنة 803هـ/1401م؛ لطلب الأمان لأهلها، خاف ابن خلدون من تيمور لنك، لذلك قرر أن يتلطف معه في الكلام، وقد عبَّر عن ذلك بقوله: «فزوَّرتُ في نفسي كلاماً أُخاطبه به، وأتلطفه بتعظيم أحواله ومُلكه».

فحينما دخل ابن خلدون على تَيمور لنك، خاطبه قائلاً: «يا مولانا الأمير، الحمد لله العلي الكبير، لقد شرفتُ بحضوري ملوك الأنام، وأحييتُ بتواريخي ما مات لهم من أيامٍ، ورأيتُ من ملوك الغرب فلاناً وفلاناً، وحضرتُ كذا وكذا سلطاناً»، فأعجب بكلامه تَيمور لنك، ثم أخذ يسأله عن بلاد الغرب وملوكها وأخبارها.

لقد خدع ابنُ خلدون تيمور لنك بكلامه هذا، «وخلبه قولاً وفعلاً»، حتى وصل الأمر بتيمور لنك أن يطلب من ابن خلدون بغلته. 

واللافت للنظر أن ابن خلدون أبدى رأيه عن تَيمور لنك بصورةٍ إيجابية؛ حيث قال: «وهذا الملك تَيمور من زعماء الملوك وفراعنتهم، والناس ينسبونه إلى العلم، وآخرون إلى اعتقاد الرفض؛ لما يروْن تفضيله لأهل البيت، وآخرون إلى انتحال السِّحر، وليس من ذلك كلّه في شيءٍ، إنما هو شديد الفطنة والذكاء، كثير البحث بما يعلم وبما لا يعلم».

بينما صدَّر ابن عربشاه (ت 854هـ/1450م) المعاصر هو الآخر لتيمور لنك كتابه «عجائب المقدور» بقوله: «تيمور رأس الفُسَّاق، الأعرج الدَّجَّال الذي أقام الفتنةَ شرقاً وغرباً على ساقٍ».

وقد يضطر المؤرخ إلى تأليف كتاب من أجل تثبيت أقدامه وإيجاد مكان جديد له في أرضٍ غير أرضه بعد أن تضيق به السبل في موطنه، فلسان الدين بن الخطيب (ت 776هـ/1374م) صنّف كتابه «أعمال الأَعلام» جرّاء الظروف السياسية التي شهدها المغرب الأقصى في أعقاب وفاة السلطان المريني أبي فارس عبد العزيز سنة 774هـ/1372م، وكان من أبرز دواعي تأليفه هذا الكتاب: موت السلطان أبي فارس وتركه ابناً صغيراً (هو أبو زيّان محمد السعيد بالله الثالث (776-774هـ/1372-1374م)، لا يتجاوز الرابعة من عمره، فقام الوزير أبو بكر بن غازي بعقد البيعة لهذا الصبي، واستقل هو بالأمر دونه. فنشب نقاشٌ وجدال حول قضية بيعة الصغير الذي لم يبلغْ الحُلُم من الناحية الشرعية؛ إذ استنكر بعض الطامعين في الولاية من أمراء بَني مرين، وفي الوقت ذاته كانت العلاقات بين القصر النصري في غرناطة، والقصر المريني في فاس متوترة جدّاً؛ بسبب وجود الوزير ابن الخطيب في بلاطهم بعد فراره من غرناطة، فطلب الوزير ابن غازي من ابن الخطيب أن يصنِّف هذا الكتاب؛ لبيان القضية من الناحية التاريخية والشرعية، وتبريراً لفعله وتقويةً لمركزه، فاستجاب ابن الخطيب للمبادرة؛ دفاعاً عن بقاء الوضع على ما هو عليه، ودوام الاستقرار والنظام تحت يد هذا الوزير، فبدوام هذا الوزير دوام أمن ابن الخطيب وسلامته أيضاً. لذلك جاء تأليف هذا الكتاب – كذلك - للردّ على مطاعن حكام الأندلس الذين طعنوا في بيعة الصبي من الناحية الشرعية؛ بسبب إيواء حكام بَني مرين لعدوهم لسان الدين بن الخطيب؛ فالسبب الأهم الذي دفع ملوك غرناطة إلى إثارة هذه المشكلة وإذكاء نيرانها لم يكنْ الانتصار للسياسة الشرعية، وإنما بسبب وجود ابن الخطيب بين ظهرانيهم؛ فقد أشار ابن الخطيب حينما عرض لبيعة السلطان محمد بن إسماعيل بن فرج بن نصر أحد ملوك بني نصر (725-733هـ/1325-1333م) إلى صغره، وعدم الاختلاف في بيعته بقوله: «بُويِع له يوم تُوفِّي أبوه، وهو صبي صغير سِنُّه دون تسع سنين، فلم يختلفْ عليه أحد، وبادر إلى بيعته الفقهاء والعلماء والصلحاء والفضلاء، وأهل الجهاد، وكَوافّ البلاد، وجمعهم يومئذٍ موفور، وشأنهم في الخير مشهور، وهو أول مَنْ بُويِع في هذا البيت النصري بحال الصِّغر وحداثة السِّنّ». ثم عقَّب بعد ذلك قائلاً: «فمتى نبس أهل الأندلس بإنكار بيعة صبي صغير، أو نيابة حاجب أو وزير، فقد عموا وصمُّوا، وحُصِرُوا بِرَبْع الإنصاف، فأعرضوا وما ألـمُّوا وبما سنُّوه لغيرهم ذمُّوا، ولم يكفِ مبايعة الصبي غير البالغ، ولا القُرشي المرفوع في الذِّراع، المستعد به للنِّزال في سبيل الله والقِراع، وتقديمه لم يستوفِ للحُلُم زماناً، ولم يعرف بعد خِتاناً».

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 246 (صفحة 25)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها