الثقافة‭ ‬والتنمية.. جدل‭ ‬خلاّق‭ ‬بين‭ ‬الهوية‭ ‬والحداثة

د. أمنية سالم

 تُعد الثقافة واحدة من أهم مُحددات تنمية المجتمعات، ورغم أن القرن العشرين هو عصر المادة وتراجع الروحانيات فإن الثقافة ما زالت تجسد أهم عناصر ومحددات الحضارة والتنمية الشاملة للمجتمعات.

 تتعدد مصادر الثقافة، ومن أهم منابعها اللغة، حيث تعتبر مصدراً أساسياً من مصادر تكوين وتشكيل الثقافة، كما أنها من أهم وسائل تبادل ونقل الثقافات بين الشعوب المختلفة.، وكذلك الفكر الإنساني والمقصود به هو كافّةُ المعارف التي توصلت إليها مجموعة من الأفراد شكلت ثقافتهم وميزاتهم عن غيرهم من الشعوب.

 الثقافة تلعب دوراً مهماً في تشكيل الطابع القومي والتراث الذي يُميّز أبناء المجتمع عن غيرهم مفن المجتمعات، وتمكين الكيان الاجتماعي ودعم تماسكه. 

 إن من أهم خصائص الثقافة أنها ليست ثابتة وجامدة، بل هي مرنة ومتطورة مع تطوُّر المجتمع ورقيه، فيحدث التطور في كل من جوهر الثقافة، وفي الطريقة العملية لممارسة تصرفات الأفراد داخل المجتمع المتطور، كما أنّ هذا التطور لا يعني انعزال وانفصال كل مرحلة عن مراحل أخرى، بل يدل على تكامل الثقافة؛ مما يُشبِع حاجات الفرد النفسية، والبيولوجية، والفكرية، والاجتماعية، والروحية للفرد.

 

دور وتأثير الثقافـة فـي التنمية 

إن الثقافة ركيزة مهمة من ركائز التنمية الشاملة, وفي هذا ردّ على ما كان يُقال في الماضي «الثقافة من أجل الثقافة» ففي مؤتمر الأونيسكو في فينيسيا سنة 1970، ألقي الضوء على العلاقة بين الثقافة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية. وقد قال René Maheu المدير العام للأونيسكو في ذلك الحين: «ابتداء من اليوم، حتى علماء الاقتصاد يقرّون بأنّ التنمية إما أن تكون شاملة أو لا تكون. فلم يعد من باب الصدفة أو الاستعارة أن نتكلّم عن التنمية الثقافية كعامل مهم من عوامل التنمية الشاملة». 

إن التنمية أشبه بمثلث متساوي الأضلاع يعبّر كل ضلع منه عن الأبعاد الثلاثة: الاقتصادية، الاجتماعيّة والثقافية، وهو ما يبرز أهمية البعد الثقافي في عملية التنمية وأن بدونها يستحيل أن تكون هناك تنمية حقيقة. 

 ولما كان الإنسان هو محور وهدف التنمية في آن معاً. فمن جهة، تهدف التنمية إلى بناء الإنسان بناء مادياً ومعنوياً، وهو ما يجسد مفهوم التنمية الشاملة الذي صارت الثقافة أحد أهم مكوناتها. 

يتجلى دور الثقافة في التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمعات في أربعة محاور هي:
المحور الأول: إعداد مواطن يعي ويمارس حقوقه وواجباته أي ما يعرف بالمواطنة الإيجابية. 

المحور الثاني: التنمية الاقتصادية والإنتاجية لتحقيق الرخاء الاقتصادي فالارتقاء الثقافي يتطلب شعوباً لا تعاني العوز والضعف. 

المحور الثالث: إدماج الشباب والمرأة والطفل في عملية التنمية الاجتماعية، لإحداث تنمية مجتمعية شاملة تخلو من التمييز والإقصاء. 

المحور الرابع: الثقافة تنظر إلى تطوير وسائل الإعلام كجزء لا يتجزأ من استراتيجية الأمن الثقافي، فللإعلام التأثير الأكبر في تشكيل الرأي العام ووعي وإدراك وتشكيل ثقافة المواطنين، وهو ما يتطلب تطويراً لوسائل الإعلام المرئية والمسموعة كإحدى آليات التنمية الشاملة والمستدامة. 

 

كيف نحقق الأمن الثقافـي ونحافظ على هويتنا؟ 

توفير الآليات والوسائل التي تكفل امتلاك الثقافة من قبل جميع المواطنين، وتخصيص موارد الثقافة في خدمة التطوّر.

تأسيس الذاكرة الجماعية، وتمثل الذاكرة الجماعية بوتقة لصهر المجتمع بكافة اختلافاته الفكرية والاجتماعية، وهو ما يمثل إحدى أهم آليات مواجهة الإرهاب والتطرف والعنف وضرورة الحفاظ على التراث والقيم الروحية والأخلاقية لتحصين الشباب ضدّ كلّ الأنماط الثقافية التقليدية والدخيلة.

دعم الإنتاج الثقافي والإبداعي, وتعزيز حضور المثقفين عن طريق رعاية المهرجانات الثقافية, وتكريم المبدعين قبل وفاتهم، والمساهمة في التخفيف من تكاليف إدامة إبداعهم.

المواطنين من الحصول على مصادر الثقافة والإبداع عن طريق نشر المكاتب العامة.

إنشاء مراكز ثقافية خارج المدن وتقديم الدعم المادي والمعنوي للهيئات والمجالس الثقافية غير الحكومية وتشجيعهما على إقامة الندوات والمخيّمات الشبابية.

تعزيز إنشاء فروع لمعاهد الموسيقى والسينما والمسرح والمعارض الفنية. 

إنتاج أفلام تثقيفية تعنى بتعزيز الثقافة البيئية، وثقافة السير، والثقافة الصحية، والثقافة الأثرية.

إنشاء مراكز للبحث الثقافي في الجامعات الوطنية ودعم استقلاليتها مادياً، والأخذ بتوصياتها لإنجاح الخطط التنموية.

التنسيق مع المنظّمات الدولية والإقليمية الثقافية والدخول معها في حوار دائم للاستفادة من برامجها الثقافية في سبيل إعادة تأهيل المدرّسين الجامعيين للتعرّف إلى آخر التطوّرات في مجالات العلم والمعرفة.

لا مجال لتنمية شاملة ومستدامة دون تنمية ثقافية من خلال تطوير وتنمية ثقافية دائمة مع مراعاة التراث والخصوصية الحضارية أي تراث يحاكي المستقل وينفتح على كافة الثقافات العالمية مع حفاظ على الثوابت والأصول الثقافية والتراثية وهو ما يضمن للثقافة لا سيما ثقافتنا العربية الديمومة والتطور. 
 

أخيراً، الإنسان المثقّف هو الركن الأساسي في عملية انتقال المجتمع من التخلّف إلى الإنماء فإلى عصر التطوّر، وبالتالي فإن المجتمع المثقّف هو المجتمع الذي ينعم بالتنمية الشاملة والمستدامة.

 

 

نُشرت المادة لأول مرة في مجلة الرافد الورقية - العدد 247 (صفحة 10)

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها