اللوحة التصويرية بـالمغرب

قراءة في التراث التشكيلي الفني

محمد خصيف

يعد جوستوس شتويلينج Justus Stuijling (1595-1624)، حسب ما توصل إليه بحثنا، ثاني رسام أجنبي زار المغرب، وكان ذلك عام 1620، ليشتغل في بلاط السلطان السعدي مولاي زيدان، يصمم ويسهر على إنجاز جداريات فنية بقصر البديع بمراكش. قضى، قسرا بمحلة الشريف، أربع سنوات يتنقل بين جنبات المدينة الحمراء، ثم انقطع أثره فجأة في العام 1624.

 

مولده ونشأته

ولد الرسام الهولندي يوستوس كورنيلسز شتولينج Justus Cornelisz. Stuyling (هكذا ينطق بالهولندية)، حوالي عام 1595 بمدينة دلفت Delft الهولندية، مسقط رأس فنان الباروك الهولندي جوهانس فيرمير دو دلفت Johannes Vermeer de Delft (1632-1675). كانت طفولة جوستوس كورنيليس شتويلينج رائعة جداً، فقد تربى في أحضان أبيه صائغ المجوهرات، وتَيَفَع وسط عائلة تمارس الفن وتعيش عليه، مستنيراً بوهج العصر الذهبي الهولندي1، إلى جانب مشاهير مدينة دلفت، كالرسامَيْن ليونارد برامر Leonaert Bramer (1596-1674)، وويليم ويليمز لوييت Willem Willemsz Luijt، لكن لسوء الحظ، قادته موهبته إلى حياة ملؤها البؤس والشقاء والفقر، إذ انقلبت الأيام ضده بسبب عجرفة وأنانية الجاه والسلطان، القابض على رقبته، فتحول مقامه بمراكش إلى مأساة ألقت به في غياهب المجهول.

أحاطت شباك الحظ السيء باثنين من هذه العائلة، ابن عم يوستوس، أبراهام لامبريشتس شتولينج Abraham Lambrechts Stuyling (1560-1631)، وصهره هندريك أرينتز فابري Hendrick Arentsz Vapor (1590-1633)، سليل عائلة الرسامين ذوي الشهرة بدلفت. كان الثلاثة من المواهب الفنية البارعة، لكن مع الأسف، الضياع والنسيان طويا ما أبدعوه، ولم يبق سوى نتفات مما كتب عن حياتهم، وحتى الأرشيف الهولندي نفسه لا يتوفر إلا على نتف من المعلومات الصورية والنصية عن الفنانين الثلاثة.

كان يوستوس كورنيلسز شتولينج فناناً متميزاً، متخصصاً في فن الجداريات Fresques، مما رشحه ليلتحق عام 1620، ببلاط السلطان المغربي زيدان بن أحمد المنصور، (حكم بين العامين 1613 و1628)، وعمره لا يتجاوز 25 سنة، ليصمم ويسهر على إنجاز جداريات فنية بقصر البديع بمراكش. ولحد الآن وحسب ما توصل إليه بحثنا، يعد شتويلينج ثاني فنان أوروبي زار المغرب وأقام به، حيث قضى، مرغماً، بالمدينة أربع سنوات، ثم انقطع أثره فجأة، في العام 1624.
 

سفره إلى المغرب

في الثامن من شهر يوليو 1620، أرست سفينة جاك فابر2Jacques Fabre، بشاطئ مدينة أسفي المغربية. كان جاك فابر، مبعوثاً من الملك الفرنسي لويس الثالث عشر إلى السلطان زيدان، في محاولة لتخليص الفرنسيين المعتقلين بمراكش، منذ قضية كاسطلان وخزانة المخطوطات الملكية. وقد اكتسب جاك فابر ثقة السلطان المغربي فأسند إليه مهام متعددة، منها تتبع سير العلاقات الاقتصادية والعسكرية التي تربط المغرب بهولندا، وكان من مهامه الإشراف، بترخيص من الولايات العامة، على تجهيز ترسانة مدافع لصالح السلطان. وبعد شحنه الترسانة المدفعية، أبحرت سفينته اتجاه المغرب، وبرفقة الطاقم الرسام يوستوس شتولينج، الذي اقتُرِح من طرف الولايات العامة الهولندية ليضع فنه في خدمة الشريف السعدي مولاي زيدان لمدة لا تتجاوز ستة أشهر، كما تقول المصادر.

في العام 1623، ستصل السفينة الهولندية Overijssel تحت قيادة الكابتن فان كريبن إلى ميناء سلا، وعلى متنها Albert Cornelis van Ruyl، تاجر ممتاز بشركة الهند الشرقية الهولندية VOC. وخلال زيارة ألبرت رويل لمراكش ستتاح له فرصة اللقاء بالرسام شتولينج عدة مرات ويصبحان أصدقاء. يغادر رويل مراكش، ويواصل شتولينج عمله في سرايا القصر السلطاني. فقد يبدو أن عمله كان موضع تقدير كبير من قبل الملك، حتى أن الأشهر الستة المتفق عليها، تحولت إلى سنوات أربع.

وفي 11 نوفنبر 1623 سيزوره رويل بمخيم محلة السلطان ليودعه، وآنذاك سيطلعه شتولينج على حالته: أنه "بعد عامين في خدمة السلطان لم يتلق فلساً واحداً مما جعله يعيش في فقر مدقع". وكانت فرصته الوحيدة ليطلب من صديقه رويل، بصفته المفوض لحكومة شمال هولندا بالمغرب، أن يرفع قضيته إلى الولايات العامة حتى تتدخل لدى السلطان عساه يفك "أسره".

بعد عودته إلى هولندا، طرح رويل القضية على حكومة الولايات العامة، موضحاً لها الحالة المزرية التي يعيشها الرسام يوستوس في المغرب، وما يعانيه من شجون وأحزان، وكيف أنه محتجز ضد إرادته. وتُثبت "المصادر غير المنشورة لتاريخ المغرب" للكاتب دوكاستري أن ألبرت فان رويل لم يكن الوسيط الوحيد في القضية، بل هناك العديد من التجار تشفعوا لدى حضرة السلطان كي يسمح ليوستوس بالمغادرة، وقدموا ضمانات لعودته، لكنه تشبث برأيه وبات يرفض كل طلبات الشُّفعاء، مُدعياً أنه بحاجة ماسة إلى الرسام يوستوس، لذلك أصدر أمراً يَحْظُرُ على رويل أن يُقِلَّه على متن سفينته التي غادرت المغرب في 1 يونيو 1624.

 وفي 21 نوفمبر 1624، قررت الولايات العامة رفع القضية إلى السفير المغربي في هولندا، يوسف بسكاينو Youssef Biscaïno، الذي بعثه السلطان حاملاً رسالة احتجاج على التجاوزات التي ارتكبها هولنديون في حق بعض المغاربة.
 

 

في السادس من يناير 1625 يعود بسكاينو إلى المغرب، وتنقطع أخبار الرسام يوستوس فان شتويلينج، وتتوقف السيرة الفنية لرسام بارع من العصر الذهبي الهولندي، فلو عاش لكان من عيار رامبراند Rembrandt 1606-1669، وفيرمير Vermeer 1632-1675، وفرانز هالس Frans Hals 1580-1666. ولو بقيت الأعمال الفنية التي أنجزها بالمغرب، كجداريات قصر البديع لكان لتاريخنا التشكيلي شأن آخر.
 

ضياع فنان في سرايا السلطان

كثير من الغموض يشوب مقام يوستوس شتولينج ببلاط السلطان مولاي زيدان، ثم انقطاع أثره المفاجئ!

هل غادر المغرب بعد 1624؟ هل لقي حتفه بطريقة ما، خصوصاً وأن البلاد في ذلك العهد لم تكن تعرف استقراراً سياسياً، بسبب الفتن والصراع على الحكم بين أبناء أحمد المنصور؟ هل اعتُقِل ورُمِي به في سجون السلطان؟ هل تم استرقاقه، كما جرت العادة مع المسيحيين الذين تعرضوا للقرصنة؟ هل سافر مع أحد أقاربه إلى البرازيل الهولندية3، كما يدعي بعض المؤرخين؟ وهذا يستبعد في رأينا، وإلا كانت هولندا قد توصلت ببعض أعماله كغيره من الفنانين الذين التحقوا بالمستعمرة الأمريكية، وأدرج اسمه ضمن لائحة فناني العصر الذهبي الهولندي.

أسئلة يصعب الإجابة عنها في غياب مصادر تدون حياة هذا الفنان الهولندي الضائع. والأرشيف الهولندي نفسه، لا يتوفر على ما يشفي الغليل فيما يخص حياته. ففي ذلك العهد، إلى نهاية القرن الثامن عشر، كانت قلة من الأجانب يتنقلون بحرية في أنحاء المغرب. ومَن يُصادَف في الطريق يكون إما من أسرى الحرب، أومن المتمردين الهاربين من شبه الجزيرة الإيبيرية، أو من بحارة ومغامرين تقطعت بهم السبل، أو من القناصلة والسفراء، يتنقلون في مواكب رسمية ومحمية، أومن المبعوثين الكنسيين الذين كانوا يفدون على السلطان قصد تخليص ضحايا القرصنة من الأسرى والمعتقلين. (Lepses ص: 36).

ما يمكن ترجيحه أن قضية الرسام يوستوس شتولينج لم تشغل بال السلطان ولم تكن من اهتماماته، خصوصاً أنها رفعت إلى الولايات العامة من طرف صديقه ألبيرت رويل Albert Ruyl، الذي صدرت منه تصرفات لم ترض مولاي زيدان، فرفع شكوى ضده إلى الحكومة الهولندية. وكان ألبير رويل أيضاً عنصراً غير مستساغ من طرف السفير جوزيف بالاش Joseph Pallache (1580–1638)، التاجر اليهودي المغربي، الذي عينه السلطان مولاي زيدان عام 1608، مع شقيقه صمويل بلاش مبعوثين إلى الحكومة الهولندية في لاهاي، فكانت العلاقات بين الرجلين متوترة للغاية، لدرجة أن بلاش حجب رويل عن مقابلة السلطان، وألزمه البقاء بأسفي سبعة أشهر دون أن يتيح له فرصة تفقد منطقة رأس كانتين التي قدم من أجلها. ففي العام 1622، فوضت الولايات العامة الهولندية لألبيرت رويل مهمة تتبع مشروع ميناء رأس كانتين الواقع على ساحل المحيط الأطلسي بين مدينتي الدار البيضاء وأسفي. وبعد فشله في مهمته، سُمح له بالعودة إلى هولندا بصحبة السفير المغربي الجديد، يوسف بسكاينو Youssouf Biscaino، الذي كان حاملاً شكاية السلطان إلى الولايات العامة بشأن سوء تصرف رويل خلال مقامه بالمغرب.

على الرغم من أن ألبرت رويل فشل في مهمته، إلا أنه ترك مذكرات مهمة تقدم الكثير من المعلومات حول الوضع الاجتماعي والسياسي في المغرب آنذاك، وفيها يشير إلى لقائه مرتين بالرسام يوستوس شتولينج.

مما جاء في مذكراته: "الجمعة 31 ماي، استقْلَلْتُ برفقة بعض التجار قارب سفينتنا (...) كان فرحي كبيراً عندما وجدت نفسي خارج هذا البلد التعيس. أتوجه بالشكر من كل قلبي إلى الله تعالى. ومع ذلك، شعرت بالأسى لرؤية أن يوستوس شتويلينج، من روتردام، الذي كان رساماً لجلالة الملك منذ أربع سنوات، ولم يتلق فلساً واحداً خلال العامين الماضيين، لم يتمكن من الحصول على إجازته، رغم العديد من الطلبات التي توسل بها إلى جلالته". (SI du Maroc، T. 3 p.533)

روى الكاتب الهولندي جيروين ستولك Jeroen Stolk في مؤلفه: Delft gezien door de ogen van het Delftse geslacht Stuijling الصادر عام 2014، شخصاً اسمه بيتر ميرتنسز كوي ذهب إلى المغرب، بناء على طلب من الولايات العامة لمقابلة رسام هولندي، ولم يذكر اسم الرسام الذي قابله آنذاك.

مع استحالة العثور على أثر ملموس للرسام جوستيوس، يستحضر الكاتب جيروين ستولك، المسار البرازيلي. فقد كتب يقول: "كانت البرازيل الهولندية المكان المثالي للرسامين، وبما أننا لم نسمع به من قبل في بلده، فمن المحتمل أنه مات أو ذهب إلى البرازيل". حقيقة أن كورنيليس لامبريشتس ستولينج أحد أبناء أعمام جوستوس ستويلينج التحق بالمغرب كسكرتير بإدارة التاجر إسحاق بلاش، أحد أقرباء الدبلوماسي المغربي صامويل بالاش. يقول الكاتب الذي يتذكر أن إسحاق بالاش غادر المغرب في خريف عام 1639 متجهاً إلى مدينة ريسيفي البرازيلية: "إنها أكثر من مجرد صدفة إذا كان جوستوس على اتصال بعائلة بلاش المغربية". وأن إسحاق بلاش غادر المغرب في خريف 1639 متوجهاً نحو البرازيل وبصحبته الرسام جوستوس. ومن المحتمل أن هذا حدث بعد وفاة السلطان زيدان عام 1627.
 

تجليات ظهور اللوحة التصويرية بالمغرب

كان السلطان زيدان شاعراً وعاشقاً للفنون، فطلب من الولايات العامة أن ترسل له رساماً يتخذه فناناً لبلاطه، فتم اقتراح يوستوس كورنيلسز شتولينج لهذه المهمة. وبما أن الرسام يوستوس مكث أربع سنوات بمحلة السلطان، فمن المحتمل أن يكون قد أنجز صوراً وجهية للملك وبعض حاشيته من رجالات الدولة، اقتداء بما جرت به عادة الملوك والسلاطين. فمن المعروف، أن سلاطين الدولة العثمانية وملوك أوروبا كانوا يتباهون بصورهم الوجهية. ف"هي عادة قديمة، على ما يمكن التحقق، في التقاليد الدبلوماسية، (...) تقوم على لزوم توافر صورة للحاكم يتم اعتمادها، وتبادلها، لتأكيد التعارف في العلاقات الدبلوماسية بين حُكْمَين، وقد تكون هذه الحاجة الدبلوماسية هي السبب الأول الذي دعا سلاطين بني عثمان الأوائل إلى اعتماد الصورة الشخصية للسلطان، وخاصة أنه قال لهم أن يتعاملوا مع حكام أوروبيين متبعين لهذا التقليد" (داغر ص: 46).

وليس من المستبعد أن ملوك المغرب اتبعوا نفس النهج. فقد كان سلاطين المغرب في ذلك الوقت، على تواصل مع الباب العالي وولايته بالجزائر! وأن أحمد المنصور، لما تولى أخوه الغالب أمرَ المغرب، رحَل بصحبة أخيه عبد الملك إلى الجزائر ثم إلى تركيا، حيث قضيا سبعة عشر عاماً في المنفى، وأكسبهما مقامهما بالأستانة تكويناً عثمانياً واطلاعاً على شؤون أوروبا ودول البحر الأبيض المتوسط.

وتثبت الوثائق الإسبانية أن أحمد المنصور استقبل في قصره بفاس الرسام بلاس دو برادو Blas de Prado (1545-1599)، (سماه خليل لمرابط في كتابه Peinture et Identité، الصفحة 27، Blas del Pardo والصحيح ماورد في المصادر الإسبانية هو Blas de Prado)، مرسولا من طرف ملك إسبانيا فيليب الثاني ليكون رسام بلاطه، يرسم صوراً للسلطان وبعض حاشيته، بعض المؤرخين ذكروا ابنته! "كتب ملك فاس إلى السيد فيليبي الثاني ليرسل إليه رساماً وأجاب أنه في إسبانيا هناك الكثير من الرسامين؛ بعضهم من المبتذلة العاديين، والبعض الآخر ممتاز ولامع (...)، والبعض الآخر معقول، والبعض الآخر سيء، فأيهم تطلب؟ أجاب المغربي أن الملوك يجب أن يبذلوا قصارى جهدهم دائماً. وهكذا ذهب إلى المغرب بلاس دي برادو الرسام التوليدي (من مدينة توليد)، وهو من أفضل ما لدينا في الوقت الحاضر، واستقبله ملك المغرب بأعلى التشرفات". ( Lope de Vega, p. 239)

ومنذ ذلك الوقت أصبح إلحاق رسامين أوروبيين بسرايا السلاطين السعديين والعلويين من البروتوكول الدبلوماسي، لكن للأسف أن ما أُنْجِزَ من صور وجهية للملوك والأمراء اندثر نتيجة الأوضاع السياسية المتردية، غير المستقرة، والقلاقل والحروب والفتن التي عاشها المغرب منذ وفاة أحمد المنصور عام 1603. فما جرت به العادة، أن الأسرة الحاكمة غالباً ما تعمل على إتلاف ما ورثته عن التي كانت قبلها. وبذلك يكون المغرب قد فقد تراثاً تشكيلياً تصويرياً "Figuratif" هائلاً، سيشهد على ظهور اللوحة الزيتية في وقت متقدم جداً، مما قد يؤدي إلى تغيير مجرى تاريخ الحركة التشكيلية المغربية كما نعرفه حالياً. ورغم هذا كلّه فقد سلمت من التلف والضياع بعض صور الملوك والسفراء، التي ما زالت محفوظة بمتاحف فرنسا وإسبانيا وإنجلترا وهولندا.

لم يبق أي أثر مما أنجزه الرسام يوستوس من جداريات ورسوم خلال مقامه بمراكش. فما نميل إليه من رأي راجح، أن ما بقي من النفائس والتحف، من بينها ما أنجزه شتولينج وغيره من الفنانين الأوروبيين الذين زاروا مراكش بعده، ضاع إثر الخراب والنهب والسرقات التي تعرض لها قصر البديع بعد سقوط الدولة السعدية (قتل آخر السلاطين السعديين في مراكش سنة 1659). والأرجح كذلك أن هذا الفنان لم يستطع، خلال مقامه القسري بمراكش، أن يوثق يومياته ومشاهداته بالخط واللون، كما فعل من جاء بعده. فبعد انتهاء عمله بقصر البديع، تخلى عنه السلطان بعدما نكث ما وعده به، فبات الرسام يتسكع، يطوف بين الدروب والأزقة، لا يجد ما يسد به رمقه.

ما لا نستبعده أن شتولينج ربما يكون قد دون رحلته بالحرف والرسم، كما هي عادة الرسامين الرحل، فضاعت الكنانيش بعدما هُدِم البديع أيام السلطان المولى إسماعيل (1645 - 1727).

ذكر محمد الصغير اليفرني في "روضة التعريف"، الصفحة: 56، قال:
"كان مصداق ذلك [يقصد هدم قصر البديع]، على يد سيدنا نصره الله [يقصد المولى إسماعيل]، فإنه أمر بهدمها عام 1119هـ، فغُيِّرت مصانعُها المنمَّقة، ونُثِر نظامُ محاسنها المجموعة، ورُدَّ سماؤها أرضاً، وطولها عرضاً، حتى صارت مرعى الكلاب والمواشي، ووكراً للبوم، وحُقَّ على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه، والذي حمله -نصره الله- على هدمها أنه رآها قليلة المنفعة، كثيرة المفاسد، ما سكنها أحد من أولاده إلا هاجت عليه الحمى، واعترته الأمراض، حتى كان نصره الله لا يسميها إلا بدار أم ملدم، لكونها الغالب على من يحلها ويسكنها أن يبتلى بالحمى".

وجاء في الصفحة 380 من "المنزع اللطيف":
"وفي عام تسعة عشر ومائة وألف أمر مولانا إسماعيل بهدمه فهُدمت معالمُه وبُددت مراسمُه وغُيرت محاسنُه وفُرِّق جمْعُ حسنِه وعاد حصيداً كأن لم يغن بالأمس".
اندثر قصر البديع بفعل الهدم وضاعت معه نفائس غالية من التراث الفني المغربي بفعل النهب والسرقة، ذلك أن "أنقاضه صارت بعد هدمه كالمراجعة لأصولها إذ ما من نقطة مغربية إلا وصار إليها في الأغلب بعض أنقاضه... فكان تفريق أجزائه بعد الهدم وفق ما جمعت عليه حين البناء" (ابن زيدان ص: 381).
 

خاتمة

إنه من غير المؤكد أن يتمكن أحد من العثور على بعض مما أنتجه الرسام جوستوس ستويلينج من أعمال خلال مقامه بالمغرب، نظراً لاعتبارات عدة، منها:
- أولاً، أنه غادر بلده والتحق بالمغرب ثم انقطعت أخباره، وهو ما زال في ريعان شبابه.
- ثانياً، أن مقامه بالمغرب تزامن مع فترة سياسية مضطربة، حيث كانت هناك صراعات دامية على السلطة بين زيدان، الذي ظل يحكم حكماً مزعزعاً مضطرباً حتى وفاته سنة 1039هـ/1630م، ومعارضيه.
- ثالثاً، حسب ما جرت به العادة، يقول الكاتب ستولك، أن السلطان الخلف يُدَمِّرُ التُّراث الثقافي الذي ورثه عن سلفه. والحقيقة أن هذه ليست قاعدة عامة، فما نراه من تراث معماري ومن وثائق مخطوطة يفند مزاعم ستولك، لكن مع ذلك، حالة قصر البديع بمراكش، تبقى شاذة، ومن ثم نرجح أن ما أنجزه الرسام ستويلينج من جداريات ورسوم شخصية للسطان زيدان وحاشيته، تم التخلص منها بالهدم أو الحرق بعد سقوط الدولة السعدية.
 


 

الهوامش
1- العصر الذهبي الهولندي، بالهولندية: Gouden Eeuw كانت فترة في التاريخ الهولندي، والتي امتدت طوال القرن 17م، حيث تفوقت التجارة الهولندية والعلوم والقوة العسكرية والفن في العالم. وتميز النصف الأول بحرب الثمانين عاماً حتى 1648م. ثم تمتع العصر الذهبي بوقت سلم خلال الجمهورية الهولندية حتى نهاية القرن. ومن الفنانين الذين تألقوا في ذلك العصر: رامبرانت هرمنسزون فان راين (1606- 1669) وفرانز هالز (1580-1666)، ويوهانِس فيرمير والمعروف باسم فيرميرJohannes Vermeer (1632- 1675) ويكيبيديا.
2- لم يشغل جاك فابر منصب قنصل فرنسا في المغرب كما تزعم بعض الوثائق، بل كان يقيم بمراكش كتاجر مهرب ودون مهمة رسمية. أرسله مولاي زيدان في مهمة إلى هولندا في عام 1619، ثم عاد عام 1620 ومعه الرسام الهولندي جوستوس ستولينج. تم تسجيل وجود جاك فابر في المغرب في الأعوام 1619 و1620 و1622 و1628 و1624. (انظر السلسلة الأولى، هولندا، ج، 3).
3- البرازيل الهولندية، تعرف أيضاً باسم هولندا الجديدة، كانت الجزء الشمالي من البرازيل، يحكمها جمهورية هولندا خلال الاستعمار الهولندي في الأميركتين بين 1581 و1654.

المراجـع
1- عبد الهادي التازي: التاريخ الدبلوماسي للمغرب، المجلد الثامن السعديين، 1988
2- عبد الهادي التازي: قصر البديع بمراكش من عجائب الدنيا، وزارة الشؤون الثقافية الرباط 1977.
3- شربا داغر: الفن العربي الحديث ظهور اللوحة، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2018.
4- محمد الصغير اليفرني: روضة التعريف بمفاخر مولانا إسماعيل بن الشريف، حققه عبد الوهاب بن منصور، الطبعة الثانية، المطبعة الملكية الرباط 1995.
5- عبد الرحمان بن زيدان: المنزع اللطيف في مفاخر المولى إسماعيل الشريف، تحقيق عبد الهادي التازي، مطبعة إديال الدار البيضاء 1993.
6-http://verhalenwiki.nl/index.php?title=Hofschilder,_De_vergeten &redirect=no
7- Michel Abitbol, Histoire du Maroc, Paris, Perrin, 2009, p. 358.
8 - Lope de Vega, Mémorial informatif des peintres dans le procès (...) sur l'exemption de l'art de la peinture , réuni dans Calvo Serraller, Francisco, Peinture de la Théorie de l'âge d'or , Madrid, Chaise, 1991.
9 - Marlène Lespes ـ De l’orientalisme à l’art colonial : les peintres français au Maroc pendant le Protectorat (1912-1956), THÈSE de Doctorat, Université Toulouse Jean Jaurès 2017
10 - Le Comte Henty de Castries – Sources inédites de l’histoire du Maroc, 1ère Série, Pays-Bas, T. IV, Requête de Ruyl du 15 novembre 1624, p. 46.
11 - Khalil M’rabet – Peinture et identité l’expérience marocaine, ed. L’Harmattan, Paris 1987
12- CRUZ YÁBAR, María Teresa, «El viaje de Blas de Prado a Berbería en 1593 y el regreso del pintor», en Actas del XX Congreso Nacional de Historia del Arte (CEHA), El Greco en su IV Centenario : Patrimonio Hispánico y Diálogo intercultural, Toledo, 2014, Documento 2

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها