ساعتان للبيع

رياض خليف

ها هو يمرّ سريعاً كعادته. سيّارته الجديدة تسحر الأنظار، والعيون تتابعه بلهفة وحرقة، والألسن تتمتم:
- للثورة أثرياؤها أيضاً..
- سبحان الله!.. كيف أصبح على هذا الثراء وبهذه المكانة وهو المنحدر من الفقر وأرض الفقر؟ لم يهاجر، ولم يتاجر، ولم يكن له منذ سنوات غير راتب بسيط يتقاضاه من الدّولة.

همس جليسي:
- كلّ ما يفعله أنّه يبيع ساعتين من عمره منذ أعوام..

ضحكت:
- يبيع ساعتين فقط؟

ردّ صاحبي:
- ساعتان من ثمانينيات القرن الماضي لا أكثر.. باعهما مرّة أولى وثانية، وهو يبحث عن بيعهما مرّة ثالثة. أمثاله لا يحتارون ولا يضيّعون شيئاً..

قلت:
- وهل أمر عزرائيل باقتطاع ساعتين وإضافتهما إلى رصيد البائع؟ إن الأمر مغرٍ. أليس بيع ساعتين أيسر وأسهل من بيع الأعضاء البشريّة؟ لا أعتقد أنّ بضع ساعات ستضيف لهذه الحياة شيئاً.. فهيّا نبع بضعة أيام وأشهر من أعمارنا لنتغلّب بثمنها على مصاعب حياتنا..

ضحك جليسي بشدّة، ثمّ قال:
- كان ذلك ذات صباح من صباحات الثمانينيات.. كان يسير في الطّريق إلى عمله، فاصطدم بمجموعة من المتظاهرين الذين اعترضوه، واضطرّ إلى السّير معهم، وأجبره بعضهم على الصّراخ والهتاف ضدّ النّظام وترديد الشّعارات. وبينما هو كذلك، يسايرهم وينتظر فرصة للإفلات من قبضتهم، هبّت عناصر وحدات التّدخل، فطاردت المتظاهرين واحتجزت بعضهم..

- ومن سوء حظّه أنه كان منهم؟

-لا. أبداً. لقد كان ذلك من حسن طالعه..

وأضاف محدّثي:
- لم يقض في الإيقاف غير ساعتين. وروى أحد الموقوفين معه أنّهم لم يمسّوه بسوء، وأنّه وجد ترحاباً هناك، وتحوّل إلى دليل أمنيّ.. لكنه وقف أمام المسؤول الذي زار المدينة عقب السّابع من نوفمبر، وراح يرحّب ويخطب ويذكّر بما لحقه من تعذيب في الزمن الفائت، وما تعرّض له من عراقيل. وهكذا ذاع صيته، وأصبح من الوجوه الجديدة التي تتقدّم المواكب الرّسمية، واعتُبِرَ من كبار المناضلين، ونال من هدايا الحكومة وامتيازاتها الكثير... بعد أعوام عاد ليبيع ساعتيه ثانية، ولم يطل انتظاره كثيراً. وقف في طوابير المتظاهرين والمطالبين بالتّعويضات عقب سقوط النظام واندلاع الثورة، مستعرضاً تاريخه الطّويل وسيرته مع السّجون. لم يستطع أحد أن يقف في وجهه ويكذبه. ومرّت مطالبه بسلام. نال الأموال، وحظي بالتكريم من جديد، ومنحته قناة تلفزيّة مساحة ليتذكّر وليقدّم شهادته عن العهدين، وليعبّر عن تطلّعاته لغد البلاد بعد الثّورة، وظهر اسمه في قائمة انتخابيّة..

قلت لجليسي:
- إنّها أشياء تشعر بالقرف. هكذا ضاعت الحقائق..

قال صاحبي:
- ومن سيحتجّ؟ ابنه ناشط في أحد الأحزاب الكبيرة.

ساد صمت مريب قطعه جليسي:
- الحكاية لم تنته. إنّه يتذمّر الآن من الوضع، ويتحدّث عن الظّلم والخيبة، ويبحث عن باب جديد ليبيع السّاعتين مرّة ثالثة...

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها