التواصل أمر طبيعي وفطري في حياة كل إنسان، إذ لا يمكن أن يعيش هذا الأخير بدونه، فهو بالنسبة إليه المتنفس الطبيعي، والرئة التي يتنفس بواسطتها، ولا مندوحة له عنه.
وتكمن أهمية التواصل في إتاحة المجال العام أمام الإنسان للتعبير عن نفسه، ومشاركة مشاعره وأفكاره مع الآخرين ولا يستطيع إشباع حاجاته البيولوجية والنفسية دون التواصل مع الآخرين. أما الاحتياجات الاجتماعية فلا يمكن أن تلبى دون تواصل إنساني مع المحيط الاجتماعي.
فالتواصل بمفهومه الواسع يتغيّا إقامة مجتمع إنساني صداه ولحمته التعاون والتضامن والتآزر، واحترام كل حريات الإنسان وحقوقه حيثما كان موطنه، ومن أي أصل بشري ينحدر، ويسعى إلى خلق أجواء التقارب الفكري والمعرفي، والتعارف الاجتماعي والنفسي بين كل المجتمعات الإنسانية في شتى بقاع المعمورة. كما أنه يقوم بدور سامق في رأب الصدع الناجم عن الاحتقان الآيديولوجي أو التعصب المذهبي، أو التمركز حول الذات المفكرة دينياً وسياسياً واجتماعياً.
فإذا كان للتواصل هذه المكانة الرفيعة، فخليق بكل مثقف عربي حر، بغض النظر عن انتمائه الديني أو توجهه المذهبي أو ميوله الفكري أو السياسي أو غير ذلك، أن يضع في اعتباره هذه القيمة الثمينة، ويقدرها حق قدرها، ويعمل جاهداً في تثبيتها وترسيخها في الأوساط الاجتماعية بشتى شرائحها ومختلف أطيافها وتلوناتها.
بيد أن التواصل الذي أرومه من خلال هذا المقال، ليس ذلك التواصل التقليدي المعهود والشائع بين الناس ولدى بعض الفئات المثقفة، فهذا الشكل من التواصل يظل قاصراً عن تحقيق غاياته، وبلوغ مراميه وأهدافه. لأن التواصل المنشود يستبطن قوة عميقة ودفينة لا يدركها إلا من احتك بالواقع المعيش عقلاً وقلباً، سلوكاً وشعوراً، بصراً وبصيرة، في ساعات الفرح والحزن، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والرخاء والشدة، في كل الثنائيات الحالية والمحلية المتضادة.
فهناك أنواع من التواصل السائدة بين جمهور الناس، لا يعدو أن يكون في نظره شكلاً من الأشكال التالية:
التواصل العلمي والمعرفي، والتواصل السياسي والاجتماعي والديني، والتواصل التربوي التعليمي، وغيرها من الأشكال التواصلية.
لكن يبقى الأمر المهم في مثل هذه الظاهرة هو كيف تتم عملية التواصل، وكيف تمارس لدى هذه الفئات كل حسب مجاله، وبأي منطق تدار آلياته وأدواته، وبعبارة أخرى نريد أن نصل إلى كنه التواصل المراد تحقيقه على أرض الواقع، ويشترك فيه الجميع، هذا بيت القصيد من هذا الخطاب التواصلي. ليس المقصود مما ذكر آنفاً تفعيل مواقع التواصل الاجتماعي بجميع أنواعها وأشكالها عبر شبكة الانترنيت، وتداولها على نطاقات متعددة، فذاك أمر آخر من نافلة القول التحدث عنه في هذا المقام.
في تقديري، أن التواصل الذي يجدي نفعاً، وتكون له ضمانات الفاعلية تقارب نسباً عالية تطال جميع الشعوب والمجتمعات الإنسانية في هذا الكون العريض، يكمن في أجرأة هذه العملية التواصلية وربطها بغاياتها العليا وبالوجود الإنساني ودوره في عمارة الأرض، وتسخيرها للصالح العام أين ما كان وحيثما تواجد بشكل طبيعي دون خلفيات أو مكبوتات مكدرة كيفما كانت نوازعها ودوافعها.
ولتقريب الصورة إلى الذهن للتقدير السابق، سنحاول رصد مجموعة من المظاهر السلبية للتواصل التي تعيق عملية التجاوب والانسجام بين الفئات الاجتماعية، كما تعرقل الحركة الجدلية الفكرية والنفسية والاجتماعية داخل هذه الفئات نفسها وعلاقتها بالمثيرات الخارجية والداخلية عمودياً وأفقياً... وفي هذا السياق سنورد ما يدعم ما ذهبنا إليه من واقعنا التواصلي المر. فمثلاً، نجد أن نسبة كبيرة من الفئات المثقفة التي تعتلي مقعد الصدارة في كل المجتمعات، لا تخاطب من خلال أغلب أعمالها وأبحاثها ودراساتها وإنجازاتها الفكرية إلا النخبة المثقفة أمثالها، ولا تعدل في خطابها ذاك تجاه الفئات الأكثر تمثيلاً في كل هذه المجتمعات. فهي تقف في برج عال تطل منه متغاضية عما تعانيه هذه الشعوب، ولا تشاركها أحزانها ولا تلامس همومها، ولا تتحاور معها قصد معرفة ما يقضّ مضجعها أو ما يسلبها حريتها ويصادر حقوقها. بل تكتفى بما يدعو للخجل ويندى له الجبين.
ترى لمن نكتب ونؤلف إذا كانت الفئات العريضة، التي تمثل النسبة الغالبة من المجتمع الإنساني عامة والعربية خاصة، مهمشة ومقصية وخارج التغطية التواصلية؟ أي نلاحظ أن هناك شبه قطيعة، إن لم نقل قطيعة كلية، تواصلية على أكثر من صعيد، توسع الهوة وتعمقها في جسد الشريحة المجتمعية، وتسدل حجباً كثيفة معتمة الرؤية بينها وبين مبتغاها من خطاباتها، وبالتالي تضيع الغايات المنشودة في ظل هذه العتمة التواصلية.
إن التغيير، أي تغيير الشعوب، كيفما كان نوعه وشكله، لن يتأتى بالخطابات البراقة، وبالكلمات المنمقة، والمصطلحات الجذّابة. فالشعوب تتوق أبدا إلى من يفهمها بعمق الأشياء الكامنة وراء الخطابات المكتوبة أو المسموعة، سواء عبر القنوات الفضائية أو وسائل التواصل الاجتماعي.
لقد سئمت شعوب العالم، خاصة العربية منها، أمدا طويلا من رتابة الخطابات التي تزعم أنها حداثية وعولمية، وتنشد التغيير نحو الأفضل، وتقود الأمة إلى مراقي التقدم والازدهار. فهي تشحن خطاباتها انتقادات كثيرة تجاه الأوضاع الراهنة على جميع المستويات والأصعدة ولكنها مع الأسف الشديد قلما تطرح البدائل البناءة والصادقة. لذلك فإنا نجد هذه الشعوب ما تزال تحس ببعد الهُوة بينها وبين هذه الفئات المثقفة باختلاف مشاربها الفكرية وتنوع انتماءاتها المذهبية، وتعدد توجهاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهي تشعر ببرودة العلاقة تجاهها، وتلفها حيرة نفسية منغصة نتيجة الضبابية الفكرية التي تستحوذ على مجمل خطاباتها الذهنية والوجدانية.
فمجمل أقلام مثقفينا ومفكرينا تقف عند حدود المرض الذي تعاني منه مجتمعاتنا واصفة أعراض هذا المرض، وتكتفي بمده بأقراص مهدئة لآلام المرض من صيدلية كتاباتها ودراساتها وأبحاثها، غير آبهة بتحليل منهجي للمرض نفسه، ولا تكلف نفسها جهداً حقيقياً للبحث عن الدواء الناجع للقضاء على هذا الداء الذي ينخر جسد هذه المجتمعات المتضررة في صمت رهيب...
إن انعدام تواجد خيوط التواصل الإيجابي بين هذه الأوساط المجتمعية قد يفضي إلى الاحباط وفقدان الأمل في التغيير، وتضيع الأحلام وراء ضبابية الكلمات والحروف، وتغيب وشائج النسيج الإنساني عبر تسطيح الفكر وتجبُّر صنمية العلاقة الأحادية، ويحدث تمزق في عرى البنيات الاجتماعية، وتصاب الوحدة الإنسانية في مقتلها.
ويزيد الأمر معضلة، ويشتد الخطب حينما نرى تداعيات ما ذكرناه آنفاً يرخي بظلاله على المؤسسات التربوية والتعليمية وممثليات المجتمع المدني بجميع أطيافها، وينسحب أيضاً على اللفائف الأسرية وعلاقاتها.
فالمؤسسات التربوية والتعليمية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية خاصة، يُلاحظ أن نظامها العلائقي مرتبك، وغير قائم على تنظيم محكم يضع في الصورة بشكل واضح، من خلال منظومتها التربوية والتعليمية، وضعية الإنسان المتعلم والمعطى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي، فأية علاقة تربط بين هذه الجوانب؟؟ بالإضافة إلى ذلك ما هي طبيعة الفلسفة التربوية والتعليمية التي تحكم وتوجه كل هذه الجوانب؟
إن مؤسساتنا لاتزال تعتبر قنوات تمرر خطابات فلسفية فوقية تتحكم في المسارات التعليمية والتربوية، وتحرص حرصاً شديداً على تشكيل العقول المتعلمة وفق قوالب صنعت مسبقاً لهذا الغرض، وتهتم بتكديس عقول الشباب العربي بمجموعة من الأشياء، وحشوها بالأفكار الميتة التي تستحيل في النهاية إلى السلبية وعدم الديناميكية.
ترى أي جودة نتشدق بها ونروم تحقيقها في مجتمعاتنا ونحن ما زلنا نُعاني من قساوة الألجمة التوجيهية التي تتصرف في أنماط سلوكنا وتضبط بصرامة قوية بوصلة تفكيرنا وطرائق إدراكاتنا، وطموحات تطلعاتنا. وأي تربية وتعليم نتباهى بهما وناشئتنا محاصرة بين كوم من المعارف والأفكار وأنماط من السلوك قد صدئت وتكدّست بفعل عامل الزمن، وأصبحت كالدواء الذي انتهت صلاحيته.
ومن نتائج هذه الظاهرة أيضاً، أن نرى أسرنا تخيم عليها عقلية متشبعة هي الأخرى بثقافة اللاتواصل، ويسودها نظام علائقي عمودي يلفه غموض كثيف، ينبني على طرق غارقة في التقليدية أو مائعة في العصرنة المتحللة... فالطفل لا يدري أي طريق يتخذ لنفسه، وأي مسار ينفعه في حياته، هل يقبل كل ما يتلقاه من أبويه فينشأ مسلوب حرية الإرادة والاختيار، مائلاً إلى الخنوع والاجترار، أو يرفضه دون اكتراث له بداعي التحرر وحق الاختيار فيسقط في أحضان الذاتية المفرطة التي قد تقوده إلى أشياء غير منتظرة وهو لا يشعر.
وينسحب هذا الوضع اللاتواصلي كذلك، على مجالات أخرى كالسياسة والاقتصاد والأخلاق، فيزداد الوضع تأزماً، ويشتد حدة، وقد تكون له عواقب وخيمة غير متوقعة على البنيات الاجتماعية والأوساط الشعبية.
فالثقافة الواعية، والحوار المفتوح، والاهتمام بالأبعاد الإنسانية والاجتماعية والنفسية، والاحتفال بطموحات الشعوب وآمالها، آليات ناجعة في عملية التواصل الإنساني والمجتمعي. فأي ثقافة تواصلية لا تعبر عن مضامين إنسانية واحدة مصيرها البوار، حتى وإن عمرت قليلاً فإنها لن يكتب لها الاستمرارية والسيرورة؛ لأن التواصل يشكل عنصراً حياتياً يتخلل كل مناطق الوجود الإنساني. إذ لا يمكن تصور النشاط الثقافي إلا من خلال زاوية تواصلية، فداخل الوحدات الثقافية تختبئ الغايات التي لا تكشف عن نفسها إلا بعد تحديد دقيق للسياقات الدلالية ومقامات اللفظ.
إن التواصل الإيجابي والفعّال والهادف يتحقق من خلال أنساق متعددة، ينسج الأفراد داخلها سلسلة من العلاقات المختلفة التي تشكّل كل ثقافة بواسطتها قوانينها الخاصة، التي تتحقق في السلوك وفي الفن وفي العادات...
بناء على هذا المقتضى؛ فإن التواصل يعد حاجة إنسانية، وليس شيئاً عرضياً يمكن الاستغناء عنه، ولا يمكن الحديث عن مجتمع تواصلي إلا من خلال نشاط تواصلي، يمكّن الأفراد من إشباع حاجاتهم اعتماداً على مجهوداتهم مجتمعة.
ومن الأكيد أن التواصل الفعال والقوي والمستمر هو التواصل القائم على التخطيط أي رسم الهدف، سواء في حياتنا العادية أم العملية إذا نحن أردنا بالفعل إحداث التأثير المأمول في المتلقي وحمله على التفاعل معنا وتقدير خطابنا الموجه إليه.
ولعلّ هذا ما يفسر اهتمامي بالتواصل من هذا الطراز لأنه، في نظري، يمكن اعتباره مفتاحاً لتحديد هوية الفرد والجماعة، ويعمل على الوحدة والتضامن وجمع الشمل، ويدرأ أسباب التشتت، ويجعل العلاقات بشتى أنواعها وأشكالها قائمة على الوضوح والشفافية والتفاهم، يدعم ذلك كله روح أخوية إنسانية واعية ومتفهمة ومسؤولة، تحب الخير والسعادة للإنسانية جمْعاء.
لذلك، فقد حاولت في هذه العجالة أن أُثير بعض الملاحظات التي لها علاقة صميمية بالظاهرة المعالجة، وإلا فالموضوع يحتاج إلى تحليل معمق ومستفيض يستقصي بالدراسة والتحليل كل العناصر المشار إليها في صلب المقال آنفاً. فحسبي في هذا المقام أني أثرت ما أحس به كمواطن عربي من عزلة فكرية تواصلية على ضوء ما ذكرنا سابقاً، من جهة، وبصفتي أحمل همّاً ثقافياً يتأجج بين ضلوعي غيرة على أفراد المجتمع الإنساني الذي أنتسب إليه أنا أيضاً، من جهة أخرى.
ولي أمل عريض في الفئات المثقفة أن تفعّل تطبيق النقد الذاتي من جديد لتعيد ترتيب علاقاتها بالبيت الكبير بالشكل المجدي والأكثر نفعاً، وتحرص على سلامة بنياته ومكوناته، وتعمل على تحقيق توازنه الأصلي والطبيعي.