نافذة صغيرة

موسى إبراهيم أبو رياش


باب داخلي يُطرق بقوة. توقف الضابط عن التحقيق وسأل، فأجابه أحدهم: لا شيء، طفل يعبث في الداخل. وقبل أن يستأنف الضابط عمله، عاد الطرق بقوة مصحوبًا بصراخ. وقف الضابط، وقال: ثمة أمر مريب. ما هذا؟ نظروا في وجوه بعضهم، ثم قال أحدهم: أخي سميح، شبه مجنون، أغلقنا عليه الباب كي لا يزعج حضرتكم سيدي.

ظهر الغضب على وجه الضابط: ألم أقل لكم أحضروا كل من في البيت لأسألهم؟ أين هو؟

- إنّه مزعج، ولا يفقه شيئًا، ولا يعلم شيئًا.

اشتد الصراخ والضرب على الباب. توجه الضابط نحو مصدر الصوت برفقة مساعده، فوجد بابًا جانبيًا مغلقًا بإحكام. أمرهم أن يفتحوه، وبعد مماطلة ومحاولات لثنيه عن ذلك، فتحوا الباب، فهاله ما رأى: رجل هزيل متسخ، شعر طويل أشعث يخفي وجهه ويصل إلى كتفيه، محني الظهر، زائغ النظرات، ملابس مهترئة، وغرفة معتمة قذرة، رائحتها تزكم الأنوف.

- أنا أنا أعععرررففف كللل شششيء... أنا أنا أعععرررففف القاقاتل. قال سميح بتأتأة وصوت واهن.

ارتعش الضابط: تعرف؟ تعرف ماذا؟!

- أعععرررففف كللل شششيء... أعععرررففف القاقاتل.

- إنّه مجنون، لا يدري ما يقول، دعك منه سيدي. قال أحدهم.

جحره الضابط بغضب، وقال لمساعده: اطلب سيارة إسعاف فورًا، واتصل بالمركز لإرسال باص صغير، فقد قررت اعتقال كل سكان هذه الشقة عدا الأطفال الصغار؛ أرسلهم إلى دار رعاية حتى يتم الإفراج عن ذويهم.

في اليوم التالي، زار الضابط سميحًا في المستشفى، فرأى إنسانًا آخر مختلفًا تمامًا، مع شحوب وهزال. وبعد أن استفسر عن وضعه الصحي من الطبيب، سأله: ماذا تعرف يا سميح؟ هيا أخبرني.

بعد تردد ومسح لأرجاء الغرفة، قال: عندما دخلتم بيتنا، كنت أعرف أنّكم أتيتم لسؤال الجيران عما رأوه أو سمعوه عن مقتل سعاد، ولهذا طرقت الباب لأخبركم.

هيا أخبرني إذًا يا سميح. ماذا تعرف؟

أخبره سميح أنّ السيد خالد هو الذي قتل سعاد، فقد كانت زوجته عرفيًا، وقد طالبته بإعلان زواجهما لأنّها حامل، ولكنه رفض، فمركزه الاجتماعي سيتأثر، ومستقبله سيصبح في مهب الريح، فهو سيترشح للانتخابات النيابية القادمة. ولما أمسكت به ترجوه وتتوسل إليه، دفعها وأسقطها أرضًا، فاتهمته بالجبن والنفاق وموت الضمير والسفالة، وهددت بفضحه وإخبار زوجته وأولاده، فثارت ثائرته، وأخرج خنجره وطعنها في صدرها مرات عديدة وهو يكتم فمها كي لا تصرخ. وبعد ذلك دفن الخنجر في زاوية الحوش تحت شجرة الزيتون.

كان الضابط يستمع وهو لا يصدق، فالسيد خالد شخصية محترمة، ومتعاون مع مركز الأمن، وهو أحد وجهاء المنطقة. ونظر إلى سميح متفحصًا مدققًا، ثم قال: وكيف عرفت كل هذا وأنت حبيس غرفة لا نافذة لها؟

أخبره سميح أنّ لغرفته -في الطابق الثاني- حمام ملحق بها، وله نافذة صغيرة مرتفعة للتهوية، وسيلة تواصله الوحيدة مع الخارج، فكان يقضي طوال وقته فوق قاعدة الحمام ينظر من النافذة المطلة على زقاق خلف البيوت لا يراه أو يشعر به أحد، ومنها كان يرى ويسمع كثيراً مما يجري في الزقاق وفي الأحواش الخلفية، وأحيانًا الغرف القريبة مثل غرفة سعاد التي تقع مقابل نافذة الحمام مباشرة.

هزَّ الضابط رأسه متعجبًا، وقال: سنتأكد من صدقك بالبحث عن الخنجر في المكان الذي أخبرتنا به، وإن كنت كاذبًا، فسوف أضعك في الحبس. هل أنت مصرٌّ على أقوالك، وواثق من معلوماتك؟

هز سميح رأسه مؤكدًا. فخرج الضابط بعد أن استدعى رجل أمن لحراسة سميح ومنعه من الهروب إن حاول، ثم ذهب إلى المكان برفقة فريق مختص، ووجد الخنجر حيث أرشدهم سميح، فحوله إلى خبير البصمات ليتأكد من صاحبه، مع ظنه أنّه للسيد خالد، فقد رآه معه عدة مرات، وهو يستعرض به بعض الحركات.

أثبت المختبر الجنائي أنّ البصمات للسيد خالد، الذي ووجه بذلك مع ما ذكره سميح، فانهار واعترف. عاد الضابط إلى سميح برفقة مساعده، وأخبره أنّ معلوماته صحيحة، وكشفت غموض جريمة حيرته أيامًا عديدة. وطمأنه أنّه سيوفر له بيتًا بشكل مؤقت ريثما يتدبر أمره، أما عائلته، فقد أُفرج عن النساء، والرجال سيحالون إلى المحكمة لسوء المعاملة، وحجزهم الحرية. حاول سميح أن يقول إنّه لن يرفع عليهم أي شكوى، لكن الضابط زجره، وقال: أما أنا فسأفعل، فقد رأيت كل شيء بعيني، ويجب أن تفعل أنت ليرتدع هؤلاء وأمثالهم، فأنت إنسان طبيعي كما أخبرني الأطباء، تعاني من توتر ونوبات غضب وعصبية بسبب ظروف لا يد لك فيها، وكلنا مثلك، ولكن أهلك قوم مجرمون، وأظن أنّ وراء معاملتهم لك بهذه القسوة سبباً آخر. ما هو يا سميح؟

سكت سميح، وتحت إلحاح من الضابط، قال: اطلعت عن غير قصد على نصب واحتيال إخوتي، وخداعهم رب عملهم بمبالغ كبيرة، ولما هددت بالإخبار عنهم إن لم يكفوا ويتوبوا، اتهموني بالجنون وحبسوني في الغرفة حيث وجدتني.

هزَّ الضابط رأسه، وقال: وهذا سبب كافٍ للشكوى، وإن لم تفعل وتشهد فسأعتبرك متواطئاً معهم. ما رأيك؟

أومأ سميح بالموافقة، ثم نظر الضابط طويلًا إليه، وسأله: وماذا تعرف أيضًا؟ من المؤكد أنّك تعرف أشياء كثيرة.

حاول سميح أن يتهرب، ولكن الضابط أصرَّ عليه أن يتحدث بكل ما يعرفه. وبعد تفكير أخبره أنّ ميس تزوجت رائد مجبرة لأنّه غني، ولكنها تحب فادي وما زالت تقابله سرًا. وأنّ سامر لص، ويخفي مسروقاته في غرفة مهجورة على سطح بيتهم. وسالم يضرب زوجته كل يوم، ولكنها تبكي وتسكت ولا تشتكي لأنّ لا أهل لها تلجأ إليهم، وأخوها الوحيد في أمريكا. وأنّ أم شادي سيدة محترمة في الحي، ولكنها متسولة محترفة في أحياء بعيدة، وأنّ رشدي يبيع الحبوب المخدرة، وأنّ لطوف الأهبل ليس أهبلَ، بل يدعي الهبل ويعمل مخبرًا للشرطة...

طلب منه الضابط التوقف، وأمره ألّا يخبر أحدًا بما يعرف كائنًا من كان، فهذه أسرار شخصية وأمنية، وكشفها جريمة يحاكم عليها القانون. ثم نظر إلى مساعده: يبدو أننا أخطأنا في فك أسره وإخراجه من غرفته. أليس كذلك؟

ضحك المساعد، وقال: نعم ولا!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها